ثقافة شعبية

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ديوان جديد.. كالولي .. قصائد للنواب ترى النور أول مرة
 

مهيار الدراجي
بجهد نبيل ومبادرة طيبة وعلى نفقته الخاصة اصدر الباحث الزميل كريم حنش مجموعة شعرية بعنوان (كالولي) وهي مجموعة قصائد تنشر لاول مرة للشاعر الكبير مظفر النواب بعد ان دام حظر الاعلام السابق وتعتيمه على إصداراته ومصادرة ما تبقى من نسخ ديوانه الأول (الريل وحمد).
المجموعة بواقع (103) صفحات من القطع الوسط حملت مقدمتها كتابة للزميل حنش تناولت عالم مظفر النواب الشعري ودور الشهادة في تحديد الهوية الشعرية، ولعل أبرز ما امتازت به المجموعة تلك القصائد المشحونة بالتأجج الثوري المقاوم والمسلح والتي اختصرت تجربة التمرد الذي قاده فصيل يساري في اهوار جنوب العراق نهاية الستينيات، فـ (حسن الشموس) احد ابطال تلك التجربة ولربما هو اسم رمزي لواحد من اولئك الثوار المتمردين قصيدة يغلب عليها المنولوج الذي يتسيده خطاب الام ومكابرتها وتحدياتها لتضاريس عالم الاهوار طموحاً للثورة التي علقت في عوالم احلام ولدها:
أطرن هورهه امصكك
واصيحن عليك اجروح
يجحلن جالمطبجات الزرك
صلهن يشوغ الروح..
...
مظفر يكتب من صلب البيئة التي خاضها في تلك التجربة الفريدة في الكفاح المسلح ولذا تجد (الحسجة) وهي اشارة للغة الغارقة بمحليتها ووقائعها ومناطقها:
روحي ويالجبايش.. جنها تتكلكل
في اشارة لهور الجبايش الذي وقعت فيه مداهمات ومجابهات مسلحة بين الثوار والسلطة كما في -الغموكة- من الاهوار المتاخمة لقضاء الشطرة من توابع مدينة الناصرية، وفي استئثار ووعد بالنصر وعودة الى ماضي خمسينيات القرن العشرين الذي شهد قيام ثورة 14 تموز 1958 وفي حنين عارم لمحكمة الشعب التي كان يرأسها المهداوي:
يمحكمة الفلح يلعتبتج تنزار
ونزين بيهه الكصيبه
انكلج يمهيوبه الزمان ابلا طعم
والزاد زاد انذال
واستافه الوعد يومه
وليالي الثار من دون الليالي اطوال
(حرز) قصيدة أخرى يغلب عليها الطابع الرثائي فهي تتناول شخصية الشهيد المفترضة مستخدماً ذات المنولوج الداخلي الذي حصل في
حسن الشموس-:
سيلن يانجم واسكن مهجة طيور وبساتين
لتكولن حرزنه ايموت يلشامت هلك ميتين
اذكرك يا حرز والروح بيها ونين يحل ونين
وعاد حمد من ذل الغربة حيث حسمت البنادق"! هذه مقدمة لقصيدة أخرى نحت ذات المنحى الذي تخلل القصيدتين السابقتين وهي : "ابن ديرتنه حمد"، الفاجعة تزيحها الامكنة الملتهبة بالتمرد المسلح يضاف لها النسيج الجمالي الذي اضفى على لغة القصيدة بهاء نادراً:
طفر الغراف بالمهرة الحليبيه
اللي شوفتهه سفر
بلل اجروحه ومسح بهداي
كصة الثار بمية النهر
اكرموه الكمر- واهلالين.. وست نجمات
ما راد الكمر
جدموله الليله المرسنه الحوافرهه
الثلاثة انجوم خضره وحافر الرابع كمر
(حجام البريس) هي الاخرى من منتخبات الكاتب التي جمعها في هذا الكتاب ولربما يطول الحديث عنها كونها واحدة من ابرز الملاحم الشعرية المكتوبة بالعامية العراقية.. خلاصة ما تجدر الاشارة اليه، ان هذه المبادرة جاءت بعد ردح طويل من فرض طوق المحظورات على الشعر الشعبي العراقي المنتمي للانسان والجماليات الصافية التي شوهتها نتاجات مرحلتي الثمانينيات والتسعينيات التي شوهت مضامين هذا الخطاب الابداعي المؤثر للدرجة التي حشرت مضامينها بالخطاب العدواني وتأجيج مشاعر الحقد والكراهية عبر التكريس التعبوي وشيوع ظاهرة التألية التي اشار اليها الباحث عبد الكريم هداد، كاتب مقيم في السويد، عبر كتابه
مدخل الى دراسة الشعر الشعبي العراقي- والذي سرد فيه الكثير من الوقائع المستندة للتوثيق الدقيق كـ (قراءة في تاريخ شعب) كما مثبت على غلاف مطبوعه المذكور.


السيرة الهلالية في قائمة التراث العالمي
 

باسم عبد الحميد حمودي
جاء في الأنباء ان المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم اعتبرت (السيرة الهلالية) مادة مضافة الى قائمة التراث العالمي، وذلك يعني اعترافاً ثقافياً عالمياً بأهمية السيرة والتغريبة الهلالية وتنشيط الفعاليات الثقافية حولها بمختلف اللغات والمجالات.
واذا كان من الضروري ان نهنئ احداً بهذا الانجاز فينبغي تهنئة جمعية (الهلالية) في تونس والناشط الأساسي فيها الدكتور عبد الرحمن ايوب وتهنئة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي اعاد طبع الأعمال الشعرية الخاصة بالسيرة ويسر تسجيلات السيرة الأدائية بصوت المنشد الشعبي جابر ابو حسين وسواه، وينبغي تهنئة الاساتذة د. عبد العزيز لبيب ود. ليريك ود.عباس الجراري وسواهم من محللي السيرة والمروجين لاهميتها في دراسات الأدب الشعبي.
ان السيرة الهلالية تعد نموذجاً للأدب الانساني الشعبي التي تسجل جزءاً حيوياً من التاريخ الشفاهي غير الرسمي لحركة الشعوب، وهي في غناها الاسطوري والدرامي تعيد تركيب البنية التاريخية لاحداث مرت و(احداث) مضافة وتتفرع عن شخصياتها نماذج من بنى راسخة نفسياً (السلطان حسن) وبنى قلقه (ابو زيد- دياب) وبنى رومانسية آملة (الامير عامر الخفاجي) وغيرهم كثير.
ان تسجيل السيرة الهلالية يعني بذل المزيد من الجهد والعمل من اجل انجاز بحوث ودراسات جديدة واعادة طبع الصادر عنها وتنفيذ افلام وسيناريوهات وورش عمل وفولدرات وبوسترات وكل ما يؤدي الى تذكر السيرة والتغريبة واستخلاص التجارب الفنية والثقافية منها خصوصاً ان الدعم الدولي مادياً قد تهيأ لانعاش العمل في كل مناشط عمل هذه الملحمة الشعبية.


كتب جديدة .. موسوعة المدائن العراقية
 

محمد شفيق
تشكل الموسوعات التي تتناول المدن، أهمية استثنائية، في التعريف بالمدن، وبيان تأريخها القديم والحديث، واهم معالمها العمرانية التي تشكل علامات بارزة في تكويناتها. انطلاقاً من هذه الأهمية فان مركز دراسات ميزوبوتاميا في بغداد، وبتوزيع مكتبة الشطري في شارع المتنبي، أصدر كتاباً جديداً يحمل عنوان "موسوعة المدائن العراقية" من اعداد سليم مطرن وعلي ثويني، ونصرت مردان تناول فيه المؤلفون عدداً من المدن العراقية الرئيسة، تاريخها، حاضرها ملامحها الرئيسة، اسواقها، عادات وتقاليد الناس فيها. وفي بداية الموسوعة، كانت هنالك مجموعة من المقالات والدراسات التي تناولت، تاريخ التمدن العراقي، ضمها القسم الأول من الموسوعة، والذي جاء بعنوان "تاريخ التمدن العراقي" منها ثوابت الجغرافيا، نهايات العراق في التاريخ، للباحث العراقي رشيد الخيون جاء فيه: ان اهم رواية خاصة في حدود العراق الجغرافية/ ما قاله المؤرخ العراقي المسعودي (ت 346هـ): السواد وهو العراق، فقالوا حده ما يلي المغرب، وأعلى دجلة من ناحية آثور وهي الموصل، القريتان المعروفة احدهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر المعروفة بميان روذان من كورة بهمن ارديشير وراء البصرة.
وهناك مواضيع أخرى، لعلي ثويني، وبرهان شاكر، ومشتاق طالب تناولت المدائن العراقية النشأة والتسميات، وتأريخ تكوين الاهوار، ومدن العراق القديم.
أما في القسم الثاني، فكان هنالك موضوعان احدهما: معلومات عامة وقاموس بلداني، وقاموس المحافظات المختصر، وعدد من المواضيع التي تناوب على كتابتها صافي الياسري، وعشتار البرزنجي وهادي الربيعي، وهنالك قصيدة وموضوع مستلان من مواضيع كتبت في وقت سابق عن بغداد، الأولى للشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي، والآخرى للشاعر الراحل نزار القباني، فضلاً عن مجموعة صور تاريخية لمدن ومعالم العراق.
وضمت الموسوعة ملفاً كاملاً عن مدينة كركوك، أدبائها، سينماتها، احيائها القديمة، العوائل والعشائر التي احتضنتها كركوك عبر العصور، ساهم في كتابته مؤيد الراوي وعواد علي وراشد الهرمزي وعبد الله ابراهيم ود. مصطفى جواد ونوزاد احمد وغيرهم. وثمة ملف آخر بعنوان (ملف مناطق شقيقة) منطقة الجزيرة السورية، وبلاد الاحواز.


بلدانيات.. الموصل "أم الربيعين"
 

حسن عبد النبي
من محافظات شمال العراق، اشتهرت بجمالها، وعذوبة هوائها، تقع شمال بغداد، على بعد ثمانين فرسخاً على ضفتي نهر دجلة، ويذكرها القزويني في كتابه آثار البلاد واخبار العباد، وقد رسمت عوامل البيئة الطبيعية لهذه المدينة نوع نشاطها الحضاري، حيث تقع في منطقة سهلية خصبة، تعد جزءاً من منطقة جغرافية واحدة متشابهة تمتد من وادي الفرات غرباً حتى دجلة شرقاً، ثم تتصل بالسهل الرسوبي (أرض السواد)، وتحجز هذه المنطقة سلاسل جبلية مرتبطة ببعضها تقع شرق دجلة وشماله، ممتدة الى البحر المتوسط شمالاً، والى الخليج العربي شرقاً فتشكل هلالاً عظيماً يصل بين منطقتين مهمتين هما: الخليج العربي- والبحر المتوسط.
والموصل تمثل قاعدة مهمة لحضارات السهل وارض الجزيرة الفراتية لذلك ظلت، ولاتزال، نقطة احتكاك وتفاعل بين الجبل والسهل، فخصائص الموصل من حيث الموقع لها أثر في نشاط الحركة الحضرية والاستيطانية قبل الميلاد فخرج الانسان من كهوف المنطقة الجبلية بعد انحسار الجليد، كما شيد الآشوريون خلال تأريخهم الطويل شبكة من المدن على جانبي نهر دجلة، وبعد الميلاد اقام العرب القاطنون في الجزيرة الفراتية قبل الاسلام مدينة الحضر، واقاموا فيها امارة تعتمد على التجارة والزراعة، واقام البيزنطيون شمالها مدناً محصنة مثل سنجار.. ولا تزال اثارها قائمة الى اليوم .
اما من الناحية التأريخية فقد كان الموضع قبل تمصير الموصل حصناً آشوريا اطلق عليه الآراميون اسم (الحصن العبوري) ازاء نينوى عاصمة الاشوريين وتعرف تلالها اليوم بتل قويتجق.
وفي سنة 612 ق.م سقطت مدينة نينوى على يد الكلدانيين والماذين فقتلوا الكثير من اهلها، وبعد ان هدأت الاحوال تراجع السكان الى نينوى. وفي القرن السادس للميلاد اشتد الصراع بين الفرس والروم على سيادة الهلال الخصيب فرمموا القلاع القديمة وانشأوا قلاعاً جديدة.
تمصيرها: في سنة 18هـ تم فتح الحصن صلحاً من قبل العرب المسلمين ايام الخليفة عمر بن الخطاب "رض" حيث كان الحصن قبل الفتح هذا على مدينة صغيرة فيها محلة لليهود، واخرى للمجوس وبيع للنصارى، كما يذكر ذلك ابن النديم في الكامل ج2/407، واتخذها الفاروق عمر مركزاً للفتوحات وعين عليها والياً هو (عتبة بن فرقد السلمي)، ثم من بعده (عرفجة بن هرشمة) فاختط منازل العرب الفاتحين فيها وابتنى دار الامارة والمسجد الجامع، واطلق عليها اسم الموصل لأنها تصل السهل بالجبل والفرات بدجلة، كما وصلت بين العراق والشام.
وفي خلافة عثمان بن عفان "رض" (24-35هـ) نزلت القبائل العربية الموصل واولها : الازد وطيئ وكندة وعبد القيس كما فتحت جيوشها (أرمينية واذربيجان حتى وصلت الى الاناضول لفتح الروم.
وتتابعت اليها القبائل في خلافة الامام علي "ع" (35-40هـ) من الكوفة والبصرة هروباً من الفتن حتى صارت من المدن التي تذكر.
ونظراً لموقع الموصل الحربي، ومركزها الاقتصادي، وبعدها عن الفتن التي كانت في الكوفة والبصرة جعل الامويين يهتمون بها كثيراً فيولون عليها من البيت الاموي مثل سعيد بن عبد الملك الذي حفر بها نهر سعيد وسورها بالحجارة، ثم تولاها الحر بن يوسف زمن هشام وبنى فيها قصراً منيفاً طلى سقوفه بماء الذهب وسماه (المنقوشة).
اما الموصل في بداية العصر العباسي 132هـ-368هـ فقد نكبت حين هدم سورها وتقلصت عمارتها بسبب خروج اهلها على واليها محمد بن صول في عهد ابي العباس، لكنها حظيت باهتمام ابي جعفر المنصور 136هـ-158هـ اذ قام عامله إسماعيل بن علي بنقل الأسواق المحيطة بالجامع الى مقبرة اهل الموصل، بعد ان نقل المقبرة الى الصحراء، ثم بنى المسجد الجامع، ولكن سرعان ما هدمت أسوار المدينة من قبل الرشيد بعد ثورة المدينة عليه.
وعندما ملكها بنو حمدان في (293-367هـ) توسعت المدينة في عهدهم فكثرت أسواقها وخاناتها وحماماتها.
وفي الموصل قبر النبي (جرجيس) وقبر النبي يونس (عليهما السلام) وتل (التوبة) وهو الموضع الذي خرج اليه النبي يونس لدعوة اهل نينوى الى التوبة، فتابوا وآمنوا فكشف الله تعالى عنهم العذاب، وعلى نصف فرسخ منه عين يُستشفى بمائها يقال لها عين يونس، وترى بقربها شجرة اليقطين التي غرسها هذا النبي "ع".
ومن الجوامع التي لها أهميتها القدسية والتأريخية في الموصل جامع الامام عون الدين وقد بناه بدر الدين سنة 620 هـ، ثم هناك مرقد الإمام يحيى بن قاسم في الجهة الشمالية من الموصل، وقد شيده بدر الدين ايضاً سنة 637هـ، على ارض مسجد، ثم الجامع المجاهدي الذي بناه مجاهد الدين قيما الرومي.
وقد أنشئت في الموصل أول دار للعلم أسسها ابو القاسم محمد بن حمدان الموصلي، 240-323هـ، وقد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، حيث ازدهرت الحركة العلمية فيها بعد ان اتخذ الاتابكيون الموصل عاصمة لهم 521-660هـ.
وعلى دجلة شمال مدينة الموصل القديمة يقع قصر (قره سراي) الذي شيده عماد الدين زنكي واعتنى بزخرفته بالنقوش والكتابات الجميلة.
هذا ولا تزال ام الربيعين ترفل بطيب هوائها وطيبة أهلها، وبأكلاتها الشهية التي تثير شهية الناقهين، وبآثارها التي تحكي قصة التاريخ.


ذكريات صبا ومكان .. عن الصفصاف والقناطر
 

عمران السعيدي
كنت أقوم بحركات غريبة في زمن الطفولة.. افكر وحدي وأتصرف لوحدي ومن بين تلك الحركات القفز عبر السواقي المحاطة بغابات الصفصاف والتوت ونبات العلّيق الشائك ولا أعبر من فوق القناطر التي يبنيها والدي من جذوع النخل واغصان التوت ويغطيها باكوام الطين المليئة بالتبن كي تكون قوية حين يعبر عليها الناس والدواب وعربات الجت والخضرة.
كان العشب أخضر والهواء نقياً وخاصة أيام الشتاء الباردة وكان الشتاء أكثر برودة ايام زمان، هكذا كنت اظن، حيث كنت ارى الماء جامداً فوق وجه السواقي.
كان الجو أكثر برداً من اليوم وكان الضباب يغطي حيطان البساتين الطينية حيث تتحول تلك الحيطان الى صفحات رطبة ذات رائحة جميلة نشمها ونحن في طريقنا الى المزارع والحقول، كنت اشاهد نباتات الشوك والعوسج والعاقول تخترق شقوق تلك الحيطان وهي مندفعة نحو نهاياتها، وكنت أقرّب انفي من رائحة الطين بعد زخات المطر القوية واشعر بالراحة، وهناك بعض الأطفال (يكردون) ذاك الطين الرطب ويتناولونه كما يتناولون التمر الجسب من بين اكوام العشب اليابس والسعف المنثور تحت جذوع النخيل العالية.
كنت احدّث نفسي وانا اسمع صوت الصمت بين تلك الغابات والقناطر والإعشاب والحيطان ممزوجاً بصوت الريح العاصفة وأقول: حين اكبر في العمر سوف ابحث عن طريقة لإيقاف تلك الأصوات وابحث عن أصوات أخرى ارسم فيها أصوات العصافير والدراج والزاغ الاسود الذي يأتينا كل ربيع مهاجراً من جبال كردستان مع أسراب الزرازير الجميلة وهي تغطي سماء البساتين الباردة.
كانت هناك قناطر جميلة تعبر فوقها بنات آوى والارانب والحاشوشات الجميلات وهن يحملن المناجل والفؤوس لجمع حطب الشوك والطرفة والعاقول وشدّها في حزم تكدس الى أيام المواسم العصية حيث لا يوجد زرع أو غصن مشمش يابس وخاصة أيام (جويريد).
تلك الحاشوشات الجميلات يتنقلن بين خيط وآخر ولوح جت وساقية بامياء أو شاطئ خيار (سهيلي) يجمعن ويحصدن ما لذ وطاب من خضرة وجت زاهٍ وهن يغنين الأغنيات الريفية بأصوات شجية مليئة بالفرح والحزن. تلك أصوات كنت اسمعها وانا طفل فلاح لا يعرف ماذا وراء ذاك الغناء وتلك الفؤوس والمناجل.
وفي أحيان أخرى لم يكن هناك صوت يسمع حين يأتي الوالد الى ساحات العمل وهو يحمل بلطته الحادة متنقلاً بين سواقي الصفصاف وهو يقطع الأعواد المستقيمة ويشذبها من الأغصان الزائدة ويجمعها لعمل القناطر والسقائف ليحمي الأشجار من برد شباط وحر آب، وحين يكون الصمت هو الموجود في مروج العمل يكون صوت اللون الأخضر هو الأجمل، الفراشات جميلة والقبرات وابو زعير والزيطة والزاغ والعقعق طيور تلاحق العاملين دون خوف واحياناً تقف هذه الطيور الجميلة على أذيال ثياب الحاشوشات الزاهية. كنت اشعر بأن صوت الأرض الخضراء مع تلك الطيور الزاهية تتحدث معي قائلة انت المقصود بكل هذا الغناء وعليك ان تصغي جيداً وعليك ان تطرب وانت تلاحق تلك الطيور وتبحث بين اعشاشها عن بيضة رمادية أو فرخ بني أو تحاول تغطية الافراخ بكومة عشب يابسة خوفاً عليها من بنات آوى أو لسعة زنبور أو بقايا رغيف تركه العمال بعد وجبة غداء بسيطة.
هكذا هي حكايات الصفصاف والقناطر التي تعبنا بنصبها من خشب التوت وجذوع النخيل واغصان الصفصاف الرشيقة، كنت اختفي تحتها لحظات البرد والمطر الغزير أو ساعات القيظ في شهر آب اللهاب.
كان النواطير يطلبون مني ان ادخل من باب البستان الرئيس واذا اشتهيت تفاحاً كوفياً أو مشمشاً قيسياً أو عنب ديس العنز أو تمراً برحياً أو بربناً لكن عنادي وشقاوتي لا يسمحان لي بالدخول من الباب الرئيس بل كنت اهدم فتحة صغيرة من طرف طوف البستان الطيني وازيح عنه العوسج واكوام (الصنه) سعف النخيل اليابس والمعزوس في حافات الطوف حماية للبستان من هجوم الصبية واللصوص الكبار.
من منا يستطيع تناول رغيف خبز حار من تنور عمته أو جارته فذاك عمل يوصف بـ(النفس الدنية) عند الأهل والعشيرة في قريتنا.. لايمكن طلب رغيف خبز أو قطعة زبد أو صحن لبن خاثر من العمام أو الجار لان في ذلك تنازلاً ودناءة نفس وهو عيب كبير.
في الطريق الى مستوصف الدورة بعد ارتفاع درجة حرارتي شاهدت وأنا أسير خلف والدتي على جادة الحلة رأس جزر مرمياً عند رصيف تلك الجادة في باص الخشب الذي مر وهو يحمل اغناماً وخضرة متجهاً صوب الجنوب تمنيت لو أتناوله واقضمه لكن الوالدة منعتني من ذلك قائلة: عيب ياولدي لا تتناوله فهو ليس لك، شعرت بالخجل، ومنذ ما يقرب من خمسين عاماً، وهناك حبة خوخ وردية كبيرة شاهدتها تطفو عند (برنج) البستان الكبير وكنت في حالة جوع شديد.. وحين مددت يدي لسحبها من بين اكوام القش والتكي المتراكمة عند ذاك البرنج شاهدت امرأة تحاول ملء آنيتها النحاسية بالماء وهي قريبة من عائلتنا، جفلت من هذا المشهد وتراجعت بعد ان مسكتها بيدي ثم رميتها في الماء الجاري خجلاً، لم اتناول تلك الحبة الطيبة وبقيت راسخة في ذهني الى اليوم، تلك حكايات مررت بها وأنا طفل في السادسة من العمر ومنذ ما يزيد عن خمسين عاماً.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة