المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ذاكرة ديوان الكوفة  .. تعارفت في المكان وجوه ومزاجات من مختلف البشر والمشارب والجغرافيا
 

رشيد الخيُّون

تأسس ديوان الكوفة الثقافي، وسط لندن، قبل عشرين عاماً، على خلفية فشل مشروع حضاري كبير هو مشروع جامعة الكوفة (1968)، الذي أُجهض بعد انقلاب 17 تموز ببغداد، والذي تبنته جماعة من ذوي الاختصاص في مختلف العلوم، وفي مقدمتهم المعماري محمد مكية، على أمل أن تجدد إحدى حواضر الشرق والخلافة الإسلامية، الكوفة، إشراقات بابل والحيرة، بكيان أكاديمي قد ينافس كامبردج والسوربون! كانت مكتبة "الساقي" قائمة في ركن من أركان المبنى، وبعد افتتاح الديوان كمركز ثقافي، تكامل دور المكان: كتاب وندوة أو أمسية شعرية، صاحبهما مكتب مكية للتخطيط والتصميم. المكان من الأمكنة القديمة بلندن، يألفه البريطانيون منذ القرن التاسع عشر، وكان قاعدة فنون وعرض، لذا يُعد افتتاح الديوان والمكتبة امتداداً لوظيفة المبنى، ومن المؤمل أن يبقى كذلك.
عشرون عاماً زمن ليس بالقصير، ولابد من أن يترك بصماته في ذكريات رواد المكان، والمساهمين في محاضراته ومعارضه الفنية وندواته وأمسياته الشعرية. تعارف الكثيرون من الغرباء في أروقته، وكثيراً ما قادت تلك اللقاءات إلى فعل ثقافي واجتماعي، ومشاريع مؤسسات ومشتركات عاشت ردحاً من الزمن. تعارفت في المكان وجوه ومزاجات من مختلف البشر والمشارب والجغرافيا، على هامش: ندوة ثقافية أدبية، أمسية شعرية، معرض تشكيلي، موسيقى هندية، مدائح صوفية باكستانية أو تركية، أمسية من تراث شمال أفريقيا، أنغام عربية. نشاطات كثيراً ما يحييها فنانون كبار في بلدانهم وبين شعوبهم، وما أن تصدح أصواتهم ونغمات آلاتهم إلا ويتيقن السامع أنهم كذلك. تراث ضخم وإبداع أضخم تجده يختبئ تحت العمامة الهندوسية أو السيخية، ووراء الثياب الباكستانية المحلية. وكم حصل من تواصل بين المبدعين: قارئ مقام عراقي ينشد إلى مغنٍ هندي، ويتم التعارف عبر تبادل خواطر العزف، وتاريخ الغناء، من دون الحاجة إلى اللغة.
فنانون كاد النسيان يطويهم، فمَنْ كان يتذكر جواد سليم وفائق حسن في زمن الحروب، ليست لهما حصة في الحضور الإعلامي والمشهد الثقافي الرسمي مثل حضور شعراء السلطة الشعبيين والفصحاء، أو الفنانين المهرجين على خشبة المسرح، وفي شاشة السينما في قصة "الأيام الطويلة"، قصة نضال صدام حسين. كان جواد سليم الحاضر الغائب في قاعة ديوان الكوفة، وكان فائق حسن وشاكر حسن آل سعيد، وكاظم حيدر لهم النصيب الأوفر في المعارض والمحاضرات، والذكريات. مثلما لم يغب عن مشهد الديوان الفنانون الشباب، وكم أقيمت معارض أولى لفنانيها وفناناتها، ومن بعدها اتسعت الشهرة.
كان ديوان الكوفة بحق دار ندوة للمثقفين العرب والعراقيين ككل، ولكثرة من الشرقيين الآخرين، ويوم الأربعاء يوم ترتيب المواعيد والجلسات ما بعد المحاضرة أو الندوة أو افتتاح المعرض. وربما اختيار هذا اليوم من أيام الأسبوع له صلة بمجلس قديم كان يُعقد بمحلة صبابيغ الآل، مسقط رأس صاحب الديوان محمد مكية. كان يعقد المجلس كل مساء أربعاء الشخصية البغدادية المعروفة جعفر أبو التمن. كتب الأديب خالد القشطيني أكثر من مرة في وصف جمهور ونشاط الديوان. كانت الآراء تسمع بإصغاء، ويُرد عليها بهدوء، ومع ذلك لم تخلو الساحة من المشاغبين، الذين لايكررون فعلتهم بعد مهاجمة نظرات ووشوشات الجمهور ضدهم. هناك نفر تخصص برمي الأسئلة، غير الموزونة، والتعقيبات السائبة، إلا أنهم مع مرور الزمن أصبحوا مادة تندر، واستهجان، وربما ترك أغلب الجمهور القاعة حين يطلب أحدهم الحديث! جمهور اختلق لنفسه نظاماً وضوابط خاصة في الحفاظ على ندوة مساء الأربعاء. فليس لدى ديوان الكوفة نظام خاص أو رجال حماية: الأبواب مفتوحة، والدعوات عامة، ليس من حق أحد منع أحد.
من تقاليد ديوان الكوفة، ولجنته الثقافية، أن لاتسمح بمحاضرة سياسية أو دينية أو مذهبية، في البرنامج المخصص لها، ومع ذلك يحدث في الأيام التي تستغل فيها القاعة مقابل رسوم، زهيدة قياساً بالقاعات الأخرى، إلا أن ذلك يبقى خارج المألوف ودخيلاً على تقاليد الديوان، فيحصل ما يحصل خلالها. كانت أكثر التشنجات بين مثقف أو صحفي عربي يمتدح نظام البعث أمام كثرة من الضحايا العراقيين. سمعت شاباً فلسطينياً، وسط معركة العراقيين مع محاضر فلسطيني يعيش بلندن، يهتف: نحن مع صدام حتى الموت! إلا أنه قالها وغاب من بين الحضور، وكأنه شعر بخطورتها وبهولها على ذوي المرموسين في القبور الجماعية، والمؤنفلين بالسلاح الكيمياوي من الكورد العراقيين. ومع ذلك تجد العراقيين متسامحين، فلا ضغط على ديوان الكوفة من الجمهور في عدم تضييف فلان أو فلان، من الذين عرفوا بجرأتهم على الألم العراقي.
كان للفلسطينيين حضور ملموس في نشاط الديوان: معرض لصالح الانتفاضة، ومعارض أطفال، ومعارض خاصة بالقدس، وأماسٍ شعرية، وغنائية متضامنة. رحب الديوان بالأديب أميل حبيبي، والشاعر أحمد دحبور، والناقد سمير اليوسف، والفنانة ريم كيلاني، والروائي ربعي المدهون، والأكاديمي عباس شبلاق، والمؤرخ أمين توفيق الطيبي، والأديب عادل بشتاوي، والكاتب خالد الحروب وغيرهم. كذلك رحب حتى بمَنْ كان يبدأ محاضرته أو خطابه بالثناء على مؤذي العراق والعراقيين محل البسملة! وشهد الديوان صداقات بين يهود العراق والفلسطينيين، فالطرفان ليسا على وئام وانسجام مع إزاحة الإنسان من الأرض، هذا يبحث عن عراقه وذاك يبحث عن فلسطينه، والأدب والثقافة يجمعانهما.
لم يغب يهود العراق عن المشهد الثقافي في ديوان الكوفة، وقد تجددت وشيدت عبر تلك اللقاءات أواصر بين هؤلاء وعراقهم، بين هؤلاء وأركان الثقافة التي اضطروا على ترك ساحتها، ولم يستغنوا عن التواصل معها. وكان في مقدمة المحتفين به الأديب والشاعر مير بصري (ت 2006). شعرنا، عبر قصائد وذكريات، بحنينه إلى بغداد، وكان يوم تأبينه أواستذكاره يوماً حافلاً من أيام الديوان، حضره يهود عراقيون تشتتوا في طرقات ومحلات لندن، مثلما تشتتنا نحن بعدهم بفعلة قومية سمجة. هناك تواصل عراقي مع هؤلاء المسكونين ببغداد ومدنهم العراقية: الأديب سامي ميخائيل تحدث في ندوة استذكار عن تظاهره ضد ضرب بغداد 1991. قال: "وجدتهم يضربون الجسر الذي أودعت تحته طفولتي"! الأكاديمي والباحث في علم الاجتماع سامي زبيدة: أحاديث عن الدولة القومية ويهود العراق، وعن طبقات المجتمع العراقي. القاص والروائي سمير نقاش (ت 2004): دور اليهود في الثقافة العراقية. وبعد وفاته انتدب لتكريمه: فاطمة المحسن، فاضل السلطاني، لؤي عبد الإله وأنا. وكانت كلمتي تحت عنوان "الجاسوس مَنْ هجرك وفرهد دارك". واستفاض الأكاديمي ساسون سوميخ في ذكريات شارع الرشيد ومحمد مهدي الجواهري. وحاضر شمعون بلاص عن تجربته في الكتابة، ومحاولاته اليائسة في البقاء على الكتابة بالحرف العربي حسب.
كان إلى جانب الفنون التشكيلية والشعر والرواية والأدب عامةً والفوتغراف والعمارة حضور للحضارات القديمة: المصرية القديمة، والعراقية الأقدم. حاضرت الآثارية لمياء كيلاني، أكثر من مرة في أحوال الآثار العراقية، و"حامورابي ومعاصروه" من النساء والرجال. وحاضر مترجم ملحمة جلجامش إلى الإنكليزية أندرو جورج في "أدب ملحمة جلجامش". وفي الحضارة المصرية حاضر الآثاري عكاشة الدالي في حياة عمال قرية من القرى الفرعونية، من بُناة المقابر الملكية- الأهرام، تحت عنوان "صُناع الخلود"، ثم محاضرته "فترة التكوين في الحضارة المصرية"، وكان يتنقل في حديثه بين العربية والإنكليزية والفرعونية. وفي مخطوطات البحر الميت حاضر الباحث المصري أحمد عثمان: "أسرار مخطوطات البحر الميت". وعندها عانى من امرأة، تدينت حديثاً، أنها تريد أن تطابق معلومات تلك المخطوطات مع نصوص القرآن الكريم، وظل معتذراً وحائراً كيف يفهمها أن موضوعه هو لفائف البحر الميت لا أكثر! وحاضر علي الشوك في "تاريخ العراق القديم حتى سقوط بابل". واشترك علي الشوك ومحمد مكية في ندوة "الفن والشعر السومريين". وحاضر بول كولنس في "وادي الرافدين وأولى الحضارات في العالم". وخارج علم الآثار وكتابة التاريخ حاضر الشاعر فوزي كريم في "جلجامش في منفاه الرحب"، قصة الملحمة والاهتمام العالمي بها.
وعلى خلاف العادة والتقاليد حدث في ديوان الكوفة أن حاضر رجل دين في علم الآثار، ولا يصنفها في خانة الأصنام، وقد قدم حولها أكثر من محاضرة. تحدث السيد سامي البدري حول الرُقم والكتابات القديمة، وملحمة جلجامش. ومن الطريف أن البدري أشار إلى عمامته أنها من بقية من الأزياء السومرية، وكنت أقدم المحاضرة. تركت الطاولة وأتيت بصورة كوديا، الأمير والرجل الدين الأكدي عاش قبل الميلاد بألفي عام، وقد نصبت على رأسه عمامة نسخة طبق الأصل من عمائم اليوم. أتيت بالصورة الكبيرة، وعرضتها إلى جانب عمامة البدري، وقلت أمام الجمهور: هذا برهان لا يأتيه شك. ثم كتبت مقالاً نال استياء البدري، ربما بعد معاتبة زملائه من علماء الدين، كان عنوان المقال "سامي البدري: عمامتي من نسيج عمامة كوديا". ولم يترك البدري ثأره مني، ففي محاضرته القادمة قال: صحيح لنا أُصول سومرية وبابلية لكن، ليس كما نسب لي كاتب المقال! وأعجب من هذا أن البدري، في محاضرته، لم يستطع مخالفة الموروث الشيعي الديني، فقد اعتبر آل البيت، أو الأئمة المعصومين من تلك الأنساب. وأنه أخذ يحقق التراث السومري عبر مرويات الأئمة. و النتيجة كان رجلاً متفهماً، ودارساً معمقاً.
كان ديوان الكوفة داراً لاستذكار المبدعين، من الذين طواهم الموت في عواصم ومن الاغتراب: نجيب المانع، بلند الحيدري، قتيبة الشيخ نوري، علي عثمان، أحمد أمير، عبود الشالجي، مير بصري، بسيم حكيم (أستاذ اللغة الإنكليزية بالعراق، ومن مدرسي المعماري محمد مكية، نال شهادة الدكتوراه وعمره ناهز السبعين عاماً)، عبد الوهاب البياتي، محسن إطيمش، محمد القبانجي، مصطفى عبد الله، علي جواد الطاهر، مهدي المخزومي، غائب طعمة فرمان، محمد مهدي الجواهري، إبراهيم السامرائي، سمير نقاش، علي الوردي، نجيب محمود، جلال الخياط، وغيرهم.
كان من يوميات الكوفة، ذات المهرجان الكبير، سلسلة احتفالات بيوم المرأة، حضر واحدة منها الشاعر نزار قباني، ومهرجانات أطفال العراق وفلسطين والبوسنة والهرسك، والأطفال في الحرب. وندوات ومعارض وتقديم فنون رداً على حملة تجفيف أهوار جنوب العراق في أواسط التسعينيات. ومهرجان حلبجة والأنفال، وقرى كردستان. وكان للديمقراطية وحقوق الإنسان أكثر من مهرجان ومناسبة. وكان من أهم يوميات الديوان الأدبية ندوة في ذكرى جبران خليل جبران: "جبران.. وحدة الرؤى والخلق" قدمها بشير بشروئي، وهو من الصوفيين روحاً، والمحلقين في فضاءات جبران. ومن الأماسي ذات الحضور الكثيف أمسية الروائي فؤاد التكرلي، الذي تحدث عن سيرة حياته الأدبية. أحياناً نضطر إلى المؤامرة إن صحت التسمية، فمما مارسناه في تلك الأمسية: أنه سمعنا البعض يهدد بالإساءة للتكرلي، وكاد الأمر يتصاعد وسط كثافة الحضور. لذا كان الاتفاق المسبق مع مقدم الندوة علي الشوك، أن يختم بلا حوار مع الجمهور، ذلك بعد إفاضة الناقد المصري صبري حافظ، ثم تعقيبي زهير الجزائري وفاطمة المحسن. ومن الأماسي التي تركت أثرها محاضرة السيد محمد بحر العلوم حول منتديات النجف الأدبية وطرافة شعرائها، وقبلها حول واقع النجف ومدرسته، وحصل أن ألح في المحاضرة أحد الأُصوليين السودانيين، حول أمر يتعلق بالفقه. ومحاضرة الشاعرة لميعة عباس عمارة، تحدثت عن قومها الصابئة المندائيين، وما صلتهم بصحف إبراهيم الخليل. وأكثر من مرة قرأت من شعرها الفصيح والعامي العراقي. ولم يسع محمد مكية إلا أن يقدمها بلقب: عشتار.
كان حدث اختتام القرن العشرين وفتح روزنامة القرن الحادي والعشرين، واختتام الألفية الثانية وبدء الألفية الثالثة، حدثاً تاريخياً، لايمر على الأحياء اليوم مرة أخرى. لذا حاولنا التوديع والاستقبال بسلسلة ندوات حول أبرز رجالات القرن المنصرم. وحصل أن اختار فالح عبد الجبار الشيخ محمد حسين النائيني (ت 1936) صاحب "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" وأحد رواد ما عرف بالحركة المشروطية. واختار علي الشوك فلاديمير لينين (ت 1924)، واختتم مداخلته بالقول: "إن حلمه مازال حياً". واختارت مي غصوب فنانة من أمريكا اللاتينية، على ما أتذكر. ولم يتمكن الشيخ الراحل زكي بدوي، والسيد فاضل الميلاني في ندوتهما "الاجتهاد والمجتهدون" من اختيار الأبرز، بل ظلا يدوران في فلك تاريخ الاجتهاد، ثم اختلفا حول أمر ما. أما وليد نويهض وعبد الوهاب بدر خان (من جريدة الحياة) فتحدثا عن الحدث نفسه وليس عن رواد، وأن هناك بارزينً لا بارزاً واحداً، وقدر بدر خان ليس بالضرورة أن يكون الأبرز من أطال السلام أو العلم، فلربما كان إسامة بن لادن هو الأبرز في ذلك القرن.
إضافة إلى ذلك خصصت أماسٍ لتقديم الكتب من قبل مؤلفيها، ونقدها من آخرين، وأماسٍ شعرية بعد صدور ديوان، أو طرح فكرة ثقافية ما. وقراءات في الأدب السومري، لمجموعة فران هزلتن، وفيونة كولينس، وجون بيترز. هنَ ثلاث نسوة بريطانيات حفظن قصص الأدب السومري والأكدي عن ظهر قلب، وشكلن جمعية خيرية ترى هذا الأدب، يقدمنه في مدارس الأطفال وفي أماسٍ عامة، وكانت أول أمسية بتضييف ديوان الكوفة. ترافقهن الكردية العراقية، عازفة القيثارة السومرية، تارة الجاف.
وراء تجربة ديوان الكوفة فكرة بسيطة، فبعد وجود البناء والغطاء المادي، كان الأهم الراعي الليبرالي، الذي لايحجب الرأي والرأي الآخر في الثقافة، ولا تسود على قلبه هيمنة دينية أو مذهبية، أو نوازع فكرية وآيديولوجية. وجدت المعماري محمد مكية خالياً من كل العقد، التي تمنع نجاح مشروع ثقافي مثل هذا. إلى جانب أن عقود عمره، تسعة عقود، لم تحجب تواصله مع فكرة طفل أو شاب. ليس أسهل من مد علاقة مع هذا الرجل، لا يصوغ علاقاته وصداقاته وأفكاره الزمن، تجده متجدداً مثل ماء النهر. وقد أتى نشاط الديوان بانفتاح متزن، المادة فيه هي المعيار، يتنقل البرنامج بين ندوات ومحاضرات متنوعة: آثار، موسيقى، أدب، ترجمة، مذكرات، علوم، فلسفة، فنون.
لا أدري، كيف أفسر المصادفة العجيبة بين مناسبة غلق الديوان وبين مكوث مؤسسه محمد مكية بالمستشفى إثر فطر بعظمة أعلى فخذه، وجلس متحملاً الألم، وكانت قاعة الديوان غاصة بالجمهور في الوداع، التي تحدث فيها عنه زميله المعماري رفعة الجادرجي والشاعر صلاح نيازي، وتقدم الطبيب نبيل الحمامي بأبيات شعر من قريضه، مثله مثل شاعر بدوي يقف مودعاً خيمته، وبقايا موقده. كان هذا اليوم 26 تموز 2006 غلق الديوان ونقل الدكتور مكية إلى المستشفى، لاجراء عملية كبرى. ختمت تلك اللحظة زمن عشرين عاماً، كان يسافر فيها، كل أربعاء وسبت، من جوار المتحف البريطاني، حيث يقيم، إلى ويستبورن كروف، عبر باص رقم (7). بدأ طريقه بين المكانين وعمره سبعون عاماً (1986) وتوقف وهو يحمل أعباء الحادية والتسعين (2006). وجدته يفكر في فتح دار ندوة أخرى، لكن بحلم العودة إلى داره على ضفاف دجلة، التي قادها القدر أن تكون ضمن منطقة القصور الرئاسية، واستولى عليها عدنان خير الله الطلفاح في نهاية السبعينيات، وهي الآن ضمن المنطقة الخضراء، وكانت مكاناً لماكنة سقي، اشتراها بماله وصممها معمارياً على مزاجه.


ضوء في مهرجان المسرح الاردني
 

د. صلاح القصب
في زمن ليس بالقصير تشكلت قراءات ثقافية كانت تضيء في سماء ثقافات متداخلة كهالة تلتمع في سماوات مشرقة ،فمهرجانات المسرح العربي كانت حوارات مع الآخرلتشكل قراءة وصوتا يرسمان بخطوطهما حقائب وفضاءات وصولا الى الامل.
فالخارطة أسستها أسماء ثقافية كانت صوتا يرتكز في روح تطوف وكأنها اعلانات ضوء لحضارة قادمة، فمهرجان قرطاج أسسته عقول حضارية، مثل المنصف السويسي ومحمد ادريس، وفي القاهرة كان صوت فوزي مهدي يلتمع لسنوات طوال معلنا لمستقبل مسرحي قادم.
وشهد المسرح الاردني أسماء مهمة، منها حاتم السيد الذي قاد مهرجان المسرح الاردني لدورات متعددة ، وكان باسم الزعبي الذي أكمل مشوار المهرجان، ليحط الآن لدى أيمن الرواشدة الذي يمثل صوتا مثقفا ،يرتقي الى قمم جديدة ، صوت فني يبحث عن ما هو جديد، هذا الصوت كان منشغلاً في تطلع مغاير أراد من خلاله رسم خارطة جديدة لمهرجان المسرح الاردني في دورته الجديدة، بغية الارتقاء بطروحاته الى مدارات عالمية متقدمة ترتقي بالانسان والمسرح والحضارة.


الجنرال فرانكو في الجحيم
 

بابلو نيرودا
ترجمة: جمال جمعة
 

أيّها الشرّير، لا النار ولا الخَلّ الساخن
في عشّ ساحرات البراكين، ولا الجليد المُفترِس،
لا السلحفاة النتنة التي تنبح وتعول
بصوتِ امرأةٍ ميّتةٍ تخدشُ بطنك
باحثةً عن خاتم زواجٍ ودمية طفلٍ مذبوح،
سيكون لك سوى بابٍ مظلمٍ مكسور.

حقيقةً:
من جحيمٍ الى آخر، ماهو الفرق؟
في عُواءِ جحافلِك، في الحليب المقدّس لأمّهات إسبانيا،
في الحليب والأثداء التي ديستْ على امتداد الطريق،
دائماً هنالك قرية أخرى، دائماً هنالك صمت أكثر،
وباب مهشّم.

ها أنتَ هنا الآن. جِفنٌ قذر،
روثُ دجاجِ مقابرَ فاسدٌ، بُصاقٌ ثقيل،
شكلُ خيانةٍ لا يمحوها الدّم. مَن، من أنتَ؟
يا صفيحةَ المِلح البائسة، يا كلبَ الأرضِ،
يا ظِلاًّ شاحباً سيّيء الولادة.

اللّهَب يتقهقر بدون رمادٍ،
العطش المالح للجحيم،
مدارات الحزن تشحب.

أيّها اللّعين، الإنسانيّة وحدها ستطاردك،
داخل النار المُطلَقة للأشياء ينبغي ألاّ تُفنى،
ولا أن تضيع في ميزان الزمن،
ينبغي ألاّ تُثقَب بالعدسة الحارقة
أو بالزَبَد العنيف.

وحيداً، وحيداً. لأجل أن تجتمع كلُّ الدموع،
لأجل خلود الأيادي الميّتةِ والعيون المسمولة،
وحيداً في كهفِ جحيمك،
تأكل في صمتٍ القيحَ والدّمَ
طوالَ أبديّة ملعونةٍ وموحشة.

أنتَ لا تستحقّ النوم
حتى ولو كانت عيناكَ مثبّتتين بالدّبابيس:
ينبغي أن تظلَّ مستيقظاً أيّها الجنرال، يقظةً أبديّةً
وسط تفسّخ الأمّهات الصغيرات،
رشقات الرشّاش في الخريف.
الجميع، جميع الأطفال المحزونين المقطّعةِ أوصالهم،
متيبّسين، مُعلَّقين، ينتظرون في جهنّمك
يومَ الإحتفال البارد: يوم وصولك.

الأطفالُ المسودّون من الإنفجارات،
شظايا الدماغ الحُمرُ، الدهاليزُ المحشوّة
بالأمعاء اللّطيفة، جميعُ هؤلاء بانتظارك، كلٌّ على وضعهِ الذي كان فيه
عابراً الشارع، راكلاً الكُرة،
يزدردُ فاكهةً، مبتسماً، أو مولوداً لتوّه.

مبتسمينَ. هنالك إبتسامات الآن مهشّمة بالدّم
تنتظرُ بأسنانٍ مُبعثرةٍ، مقلوعةٍ
وأقنعةٍ من صديدٍ عَكرٍ، وجوه مثقوبة
ببارودٍ أبديّ، وأشباح بلا أسماء،
الظلام يخبّئهم، أؤلئك الذين ما غادروا أسرّةَ أنقاضهم أبداً.
إنّهم جميعاً ينتظرونك لقضاء الليلة.
يملأون الممرّات كالطحالب الذّاوية.

هؤلاء أهلُنا، كانوا لحمَنا،
عافيتنا، طُمأنينتنا الصّاخبة،
أوقيانوس هوائنا ورئاتنا،
بواسطتهم الأرض اليابسة أزهرت. والآن،
فيما وراء الأرض، تحوّلوا الى ممتلكات تالفة،
قضيةِ قتيل، طحينٍ ميّتٍ،
إنّهم ينتظرونك في جحيمك.
طالما الرعب والحزن قد أَفَلا بعيداً،
فلا رعب ولا أحزان في إنتظارك.
فلتكنْ وحيداً وملعوناً،
وحيداً ومستيقظاً بين كلّ هؤلاء الموتى،
ودع الدّمَ يهطل عليك كالمطر،
ودع النهرَ المحتضر للعيون المقلوعة
ينحدر وينجرف عليك
محدّقاً نحوك الى ما لا نهاية.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة