تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ملـــــــــــف ثقافــــــــة الغـــــــــــــــــش

الغـش..الاخطبـوط الـذي مدّ اذرعه في كـل مكـان
 

  • الغش في البطاقة التموينية، حكاية قديمة
  • الغش الدولي، واقتصاد الغش الذي يدور مليارات الدولارات، وغش الازواج، والغش السياسي، وانواع لا تنتهي من الغش
  • الحديث عن الغش، حديث ذو شجون، فهو يتفرع كل تفرع، ويمتد كل امتداد، وهو فعلاً اشبه باخطبوط يمد اذرعه في كل مكان.
     

اعد الملف : صافي الياسري
وهو ظاهرة لم يعرفها العراقيون من قبل بهذا الانتشار الواسع، فما الذي حدا مما بدا ليصبح اخطبوطاً بهذا الشكل؟
اثناء كتابة هذا التقرير عادت الى الذاكرة صورة صفيحة سمن اشتريتها من علاوي جميلة في عهد النظام المباد، وكانت يومها حصة الفرد العراقي من السمن في البطاقة التموينية لا تتجاوز 250غراماً، وبالتأكيد هي كمية غير كافية، الامر الذي يضطرنا الى شراء السمن من الاسواق لسداد احتياجات المطبخ،

وعند وصولي الى البيت بالصفيحة، تولت ربة البيت فتحها، وقد فؤجئت يومها بمحتوياتها، فقد كانت محشوة بالبطاطا المهروسة المتعفنة المرصوفة بعناية تحت طبقة خفيفة من السمن، والصفيحة مغطاة بغطاء محكم، لا يدع مجالاً لأن يتسرب الشك الى نفس مشتريها بأنها (بوري) كما اصطلح العراقيون على تسمية اساليب الغش في الميدان التجاري والاسواق، اما (البوريات) الصغيرة واليومية، فهي تلك التي نتلقاها من باعة سوق الخضروات والفواكه، فنحن ننظر الى البضاعة المعروضة، فتعجب بها وتشتهيها العين، فنفتح جيوبنا ونشتري، ونحمل الكيس الاسود الذي يستخدمه البائع (دائماً) ويملؤه بطريقة (اليد الخفيفة) السحرية، بحيث لا تدري ما الذي وضع فيه، ولا تبصر نوع البضاعة التي يحويها، وحين تصل الى البيت، املاً ان تتباهى بنوعية البضاعة التي اشتريت، تكتشف ان البائع قد وضع لك نوعية تزدريها النفس والعين، فهي تالفة، او مختلفة في اقل الاحوال عن البضاعة المعروضة، وبعضها لا يصلح كطعام، ولا تملك ان تفعل شيئاً، ومرة حاولت ان انبه البائع الى ان يضع في الكيس بعضاً من (النوعية) المعروضة امام العين، فغضب ووضع الكيس (الاسود) جانباً ورفض ان يبيع لي من بضاعته وهو يردد بصوت عال هل تتهمني بالغش- انظر- ومن يومها لم اعد اجادل هؤلاء الباعة، ورضيت بما يضعون في كيسهم الاسود، الذي اختاروه بهذا اللون حتى لا يبصر المشتري ولا يرى ما يضعون له فيه.
وبعد التمهيد الشاق، وبدبلوماسية حميمة، لعبنا فيها على وتر النوايا الحسنة واثرنا حق الصحافة في المعرفة والوصول الى جذور المشكلات بقصد حلها، تمكنا من ان نسأل احد هؤلاء الباعة، عن سر هذا الغش واصرار باعة الخضروات والفواكه عليه، والكيس الاسود واجماع الباعة على استخدامه؟ وقد ظفرنا منه بجواب فيه الكثير من الجوانب الحقيقية.
يقول البائع (..)- بائع فواكه في سوق الملحاني في الكاظمية.
-ليس هناك من غش في عملنا، ولكننا لا نبيع البضاعة التي نشتريها كلها مرة واحدة، ويبقى منها الى اليوم الثاني والثالث جزء يتعرض لبعض التلف او تتغير نوعيته بعض الشيء، واذا لم نتمكن من بيعه، يذهب كل عملنا ادراج الرياح ونتعرض للخسارة، فنضطر الى خلطه بالبضاعة الجديدة وتمشيته بطريقة ما، او بوضع نسبة بسيطة منه مع كل (كيلو نبيعه)، واحياناً نشتري بضاعة ما من العلاوي او من الفلاح مباشرة حين نصل الى محلاتنا نكتشف انها ليست على ما يرام وربما كان جزء كبير منها بمواصفات غير مرغوب فيها من قبل المستهلك، فنضطر ايضاً الى ان ندقق في بضاعة جيدة ممتازة ونخلطها بتلك التي تعرضنا فيها (للغش) مرة اخرى اؤكد لك انه ليس في عملنا غش، ولو جربت وعرضت على البائع سعراً خاصاً على ان تنتقي البضاعة التي تريدها بنفسك فانه سيوافق حتماً بعد ان يحسب حسابات الربح والخسارة وذلك من حقه اليس كذلك
الغش الحقيقي هو ما يتخصص به تجار السوق الكبار، اما نحن فمساكين-
-والكيس الاسود؟
*ليس من سر، ولكنه الوحيد الذي اثبت انه (عملي) ونحن نستخدمه لمصلحة المشتري ذلك لانه لا يتمزق بسهولة مما يؤدي الى تناثر البضاعة اثناء حملها، الاكياس الاخرى مغشوشة، ابحث عن الغش الصناعي، وبصراحة اقول لك نحن نتوتر كثيراً حين نسمع هذه التهمة، ابحث بعيداً عنا، اذهب الى التجار الكبار في العلاوي والشورجة و..
انقطع نفسه وهو يسرع في ايقاع الكلمات متوتراً مشدوداً، فاثرت ان اودعه، ليودعني هو الآخر بكلمة مرة تلخص جوانب اجتماعية مهمة اضافة الى ما تؤشره من واقع الحال المرفوض..
-(اذا فلاحنا البريء اتعلم الغش متكلي شنسوي؟)


الغش في قطاع البناء .. ثــــراء المقـاولين تقابـــله مـواد بمواصفـات رديئـة
 

سمعنا وقرأنا الكثير عن سقوط البنايات وانهيار العمارات في عدد من بلدان العالم، وبالأخص في مصر حيث نسمع باستمرار عن انهيار العديد من العمارات السكنية، وذهاب العشرات من الضحايا، وفقدان اخرين المأوى و(تحويشة العمر) (على حد تعبير الاخوة المصريين) التي دفعوها لشراء شقة في تلك العمارات التي لم تعمر، لكننا لم نواجه مثل هذه الحوادث في عراقنا، ولم نسمع ان مقاولينا تعلموا الغش او (استوردوه من بلاد بره)، على نطاق واسع، وانما هي احداث فردية وفي مدد زمنية متباعدة، ولكننا ايام الحصار الدولي الذي جره علينا النظام المباد، بدأنا نواجه ظواهر في حياتنا اليومية والعامة، شملت جميع الميادين، وما كانت بحسباننا، ومنها الغش في قطاع البناء، وبعض العراقيين لا يعرفون حتى اليوم ماهية هذا الغش وكيف يتم، وهذا دليل على عدم اصابة هياكلنا بالمرض الى الحد الخطر، مع اننا نؤكد ان المؤشرات تتجه نحو الاعلى، وانها لم تنخفض خلال العقدين الماضيين ولم تستقر حتى.
والغش في البناء، يرمي في الغالب الى اختصار تكاليف (المقاولة) التي عادة ما تكون بناء بيت او مشتمل او مجموعة محلات، او عمارة بعدة شقق وبمواصفات خاصة او اعتيادية، وهذا الاختصار يأتي او يتم عن طريق اختصار الوقت والايدي العاملة وكلفة مواد البناء والالات والاجهزة والمكائن المستخدمة واختصار الوقت، يتم باختصار سمك الجدارن، وسمك طبقة اللبخ، وعمق الاساس، والاقتصاد في المصروف على الايدي العاملة يتم باستخدام الايدي العاملة غير الماهرة ولساعات عمل اكثر، اما تقليل كلفة البناء فيتم باستخدام مواد مغشوشة، كالاسمنت المخلوط بالرمل بنسبة عالية، والطابوق غير المفخور بشكل جيد والذي لا يتكون طينه من نوعية جيدة، كالطين (الحري)، واستخدام الات مستهلكة لا تؤدي عملها بشكل جيد، كالخباطات التي يبقى ناتج عملها غير مكتمل وربما لا يصل الى نصف ماهر واجب لتشكيل النوعية المطلوبة من الخبطة.
المقاول
المهندس- رواء ناصر الدجيلي يقول، كل الذي ذكرته وارد يلجأ اليه بعض المقاولين لاختصار الكلفة، واقل ما يفعله هؤلاء هو تخفيض سمك طبقة اللبخ بالجص او السمنت، ويخلط بعضهم احياناً الجص (بالتراب الاحمر) والاسمنت (بالرمل) بنسب جائرة مما يؤثر في نوعية البناء وعمره وتحمله وهو عمل خطر اذا اكثر من اللجوء اليه في بناء العمارات التي لن تتحمل الضغط والحركة لمدة طويلة فتنهار، ويحدث الغش في الاغلب في المقاولات الحكومية التي يحصل عليها بعضهم عن طريق الرشوة أو المحسوبية، وهم من المقاولين غير المعروفين، فثمة مقاولون لهم اسماؤهم المحترمة وسمعتهم التي تمنعهم من أي تفريط بها حتى لو ارادوا، ذلك انهم يعرفون ان خسائرهم بالنتيجة ستكون فادحة، ولكن بعضهم الآخر وبسبب جهله او قلة خبرته يتعرض للخداع من قبل موردي مواد البناء واعني بهم اصحاب (السكلات) فبعض هؤلاء، لا يفكر في علاقة دائمة وسمعة محترمة، وزبائن، وانما ينحصر تفكيره في صفقة آنية يحقق منها اكبر قدر من الربح، ولهذا فهو يعتمد الغش في تعاملاته ظناً منه انه اقصر طريق للربح والاثراء السريع.
-وماذا تقول عن غش المقاولين في مقاولات اعمار العراق؟
* هذا باب خاص، وقد تورط بولوجه كثيرون، وفيه اعتبار مهم لم يبالوا به كثيراً، هو الاعتبار الوطني، ويمكنك ان تخرج منه بسيناريوهات مضحكة مبكية كثيرة لوقائع لا تخطر ببال، فقد قرأت على سبيل المثال ان مديرة مدرسة دخلت بناية مدرستها في برنامج اعادة الاعمار وحين انتهى اعمارها لم تجد شيئاً سوى صبغ بعض الجدران وبعضها بقي مهدماً، ولطش المقاول حتى مراوح الصفوف بحجة تصليحها ولم يعدها حتى الان، اما المرافق الصحية فهي غير صالحة للاستعمال بسبب انسدادها، وعدم اصلاحها وحتى لافتة المدرسة فقدت ولم تعوض، هذا غيض من فيض وليت (المدى) تفرد بحثاً خاصاً ويا حبذا لو كان موثقاً وبالاسماء الصريحة والعناوين لحالات الغش في ميدان اعادة اعمار العراق فقد انفقت اموال كثيرة فيه، ولكن الحاصل كان مخيباً للامال، فقد طالت يد "الحرامية" نسبة كبيرة جداً من تلك الاموال، وهي حق العراقيين واستحقاقهم.
صاحب سكلة لبيع المواد الانشائية في الكاظمية قرب كراج (السيد محمد)، وهناك اكثر من سكلة قال في معرض حديثه عن المواد الانشائية المغشوشة.
*لا يوجد مقاول بناء ساذج الى حد انه لا يميز بين الاسمنت والجص المغشوشين وغير المغشوشين، واذا وجد مثل هذا (المقاول الغشيم) فان بقاءه في ميدان المقاولات لن يطول كثيراً، ومثل هؤلاء حتى اذا حصلوا على (مقاولات) عن طريق الرشوة او المحسوبية، يستعين اغلبهم بالخبراء، ومن لا يفعل ذلك يسقط في الامتحان، وقد يتعرض لخسائر لم تكن بحسبانه بسبب انكشاف امره، وقد تفرض عليه غرامات تقوده الى الافلاس، اما المقاولون الذين يعرفون المادة المغشوشة، فهم خبراء ايضاً في كيفية الغش، والافلات من رقابة المهندس المقيم وتقييم اللجان المختصة، فقليل من المادة المغشوشة يضيع حين تكون المواد المستخدمة كثيرة، ولكنه لا يضيع نهائياً، وانما ينكشف بعد مدة قد تطول (فيتقفع) الجص او الاسمنت من على الجدران ويتآكل من بين الطابوق، وينكشف (الاسمنت المسلح) حين يكون غير مسلح بالدرجة المطلوبة، فتنهار السقوف او تتشقق، وكذلك (الدنك)، اؤكد لك مرة اخرى، انهم (يعني المقاولين) يعرفون المادة التي يستخدمونها جيداً، ولكنهم يبحثون عن سعر اقل لتخفيض كلفة المقاولة، وتوسيع هامش الربح.
* ويضيف لنا المقاول
المهندس- رواء ناصر هناك ايضاً الغش في انشاء الملاجئ، فقد فرض النظام المباد على كل عمارة تزيد عن عدد محدد من الطوابق يزيد عن ينقص بحسب المزاج و(التوريق) ان يُنشأ فيها ملجأ وهنا يأتي دور المقاول، فيقلص مساحته او عمقه، والطبقات الغير المستخدمة في بطانته واعداد شيش التسليح واللباد ذي النوعية الرديئة، فقد تعارفنا نحن المقاولون المخلصون في عملنا على استخدام لباد قيردار كمانع للرطوبة، ولكنهم راحوا يستخدمون انواعاً اخرى لم تجرب مثلما هو الامر مع لباد قيردار، لان السعر ارخص.
- وهل يقللون عدد شيش التسليح المستخدم في السقوف و(الدنك) ايضاً؟
*نعم.. الغش لا يميز بين مكان واخر، والدافع له، يدفع الى ممارسته بشتى الاساليب والطرق وتقليص الكلفة يمتد حتى الى استخدام المهندسين المدنيين والمعماريين، فالمهندس المعروف بخبرته وكفاءته واسمه المتداول بين المقاولين لا يتعامل معه (الغشاشون) ويذهبون الى مهندسين غير معروفين او قليلي الخبرة لان اجورهم اقل.
وارجو ان تسجل لديك حتى اذا كان ذلك خارج موضوعنا ان داء الرشوة في دوائر الدولة اصاب حتى بعض المراكز الحساسة والمؤثرة، ولهذا نجد ان (الغشاشين) يتحركون بشيء من الثقة ويتمشدقون بذلك، ويقولون ان التوريق يمشي اعمالهم ويحميهم، هذه ظواهر متصلة ببعضها وهي امراض خطرة ومؤذية جداً بالجسد العراقي بكل مساحته.


لقطة.. ذهب سويسري ولكن!
 

حين ابتاعها يوم امس، كان فرحاً جداً لانه قهر منافسه (عليوي) وحصل عليها، ولم يأسف كثيراً لان (عليوي) دفعه بمزايدته المستمرة الى ان يدفع فيها مبلغاً اكبر من المبلغ الذي كان يتوقعه، ذلك ان عيونه كانت ترصد البهجة التي ستغمر روح حبيبته وتطل من عيونها وهي تقلب الساعة (السويسرية الذهبية) الفائقة الجمال التي نافس (عليوي) على شرائها وفاز بالمنافسة، لكنه اليوم عاد الى (الموقع) الذي اشتراها فيه، يبحث عمن باعهاله، ذلك انها توقفت عن الحركة بعد ان وصل الى قريته، ولم يشأ ان يقدمها لخطيبته خشية سخريتها منه، وحين رأى (عليوي) استبشر خيراً فقد ظن انه سيجد البائع ويعيد اليه الساعة العاطلة، والتي لم تكن (سويسرية ولا ذهبية) بل (راسكوب) كما اخبره العارفون في قريته لكنه فوجيء بأن (عليوي) مشتبك في منافسة حامية، الهبت سعر ساعة اخرى تشبه الساعة التي اشتراها بالامس، ولكن البائع مختلف هذه المرة، وبسرعة فهم الخدعة، وتذكر ما كان يسمعه عن (قفاصة الباب الشرقي وساحة التحرير) فاعاد الساعة الى جيبه، وارتسمت على ملامحه كل الخيبة التي تورثها اذرع الاخطبوط المقيت (الغش)، كل من تلتف عليهم، بشاعتها التي لا توصف، وليلتها سمع من يخاطبه في حلم واضح الدلالة.
-لست وحدك من تعرض للخداع، فهناك الكثيرون، تخدعهم (القفاصة) يومياً وفي كل مكان.


فــايــروس سريـــع التمـدد
 

ليس (الغش) وحيداً، برغم خطورته وشدة اثاره السلبية على جميع مناحي الحياة، ظاهرة يستحيل او يصعب القضاء عليها صعوبة بالغة، لكنه مع (ثقافة الغش) يصبح فعلاً غولاً من الصعب التخلص من فايروساته السريعة التمدد في عموم مفاصل وشرايين أي كيان يتيح له فرصة التوغل في جسده، وبخاصة اذا كان هذا الكيان يعيش حالة البناء من جديد كما هو الحال في الكيان العراقي، فثقافة الغش، ترسخ مفاهيمه واخلاقياته من خلال تبريرها تبريراً منطقياً مقبولاً، وان كان مفتعلاً وخارج سياق المعقولات، وقيم المجتمع الحضارية والانسانية وفي مقدمتها القيم الاخلاقية العامة، والقيم التي يعدها الدين بعض مكملاته.
هكذا تصبح السرقة براعة والتزوير والخداع شطارة وذكاء، وترتدي كل المحرمات الاجتماعية اردية تسمح لها بالرواج كمعطيات تفرضها الحياة اليومية وتقبلها بل تتطلبها وتطلبها ضمن جزر ثقافة الاخلاص والصدق والامانة غير الطبيعي، في حلبة الصراع الابدية بين مفاهيم الخير والشر.
-سأل احد الشبان من آخر جيل انتجه النظام المباد (قبل سقوطه) كان حاضراً احد مجالس وجهاء الحي، صبياً حضر المجلس هو الآخر مع والده.
-كيف هو حالك مع دروسك؟ فاجابه الصبي متباهياً:
-لقد تركنا المدرسة، فهي كما يقول والدي (ماتوكل خبز)
-عظيم.. وماذا تفعل الآن؟
-اشتغل في السوق مع والدي، نحن نتكسب بالبيع والشراء
-وماذا تيبعون؟
*نشتري ونبيع كافة البضائع ونعمل في تصريف النقود.
-وما هي اخر عملية قمت بها؟
*(مشيت) شدّه مزورة ((خمسة وعشرون الف دينار من دنانير "الطبع" التي كانت مستخدمة ايام النظام المباد))
-(عفية بالشاطر)
قالها الشاب وهو يربت على كتف الصبي وهذه "الشطارة" التي وصف بها الشاب، جريمة الغش التي ارتكبها الصبي، كما هو واضح، ترويج لثقافة الغش، وما ترسخه وتبني عليه من قيم تربوية فاسدة ومنحرفة، وما يتعلمه هذا الصبي في مجال الكبار من هذا النوع، يعده نبراساً ودليلاً يتبعه كل حياته ويبرمج عليه نشاطاته الآنية والمستقبلية دون شعور بالتقصير حتى، (ومن شب على شيء شاب عليه، وذلك هو الانحراف الدائم الذي يصعب تقويمه، ومما يؤسف له، هو غياب الثقافة المضادة لثقافة الغش، وتقصير رموزها ((العائلة، الاقران، المدرسة، المصلحون الاجتماعيون، المفكرون والمثقفون ورجال السياسة)) مما يوفر لثقافة الغش، مناخاً، وحاضنة تحوي كل شروط الرواج والانتشار والقبول، الامر الذي يدعونا ونحن نتبنى السعي لمكافحة ظاهرة الغش في كل الميادين، الى الانتباه بشدة لأهم ينبوع من الينابيع التي تسقي احراش الغش وتضمن ديمومته وانتشار ثقافته.


اضحك مع الغش!!
 

وهناك (زواغير) كثيرة في مدينة الغش الخاصة بالبطاقة التموينية، يعرفها المواطنون جيداً، ولا يسعنا هنا ايراد (هندستها ومعمارها ودرابينها) جميعاً، ونختم الحديث عن البطاقة التموينية، بحديث المونولوجست الشعبي الكاظمي ملاهادي ،الذي يقول اضحك مع الغش.. هي فقرة اؤديها في حفلات الاعراس التي قرر المواطنون ان لا يدعوا اليها المطربين والراقصات وغير ذلك، وهي تدور حول اساليب الغش في البطاقة التموينية وضحاياها-
فقلنا له ماذا لو تحدثت عن جوانب الغش الاخرى؟ عندها قال
تكفيني عداوة الحكومة ووكلاء (التغذية)


تزوير هوية الدواء.. الخطأ ثمنه حياة انسان

وهي اخطر اعمال الغش، لانها تتعلق بالصحة العامة، وقد وقفت اجهزة الرقابة الصحية عاجزة عن مكافحتها برغم كل الجهود الاسطورية التي تبذلها. ويقول مدير شرطة مكافحة الجريمة الاقتصادية، العميد (...) ان مكافحة ظاهرة الغش الصناعي والتجاري، واحدة من مهامنا، وبالرغم من ان مديريتنا ناشئة وقليلة الكوادر وغير مزودة بما يكفي من الاجهزة والمستلزمات والخبراء المتخصصين لتأدية عملها من الناحية الفنية ايضاً،

الا انها ادت واجبها على الوجه الاكمل وكشفت العديد من الجرائم الاقتصادية، ومنها الغش الصناعي والتجاري، وتزوير الماركات وبخاصة على الادوية هذه الظاهرة التي تشكل خطراً شديداً على الصحة العامة، ونعترف باخلاص ان المهمة التي نتصدى لها اكبر من طاقتنا، لكننا نتطور بمرور الايام ونتقدم محققين نتائج جيدة، ونأمل بتعاون المواطنين من خلال تزويدنا بالمعلومات، وتعاون دوائر الدولة الاخرى، من خلال تقديم التسهيلات لانجاز المهمة الصعبة.
- حديث العميد مدير شرطة مكافحة الجريمة الاقتصادية فتح لنا باباً اخر للتحقيق الذي نجريه حول الغش، هو (تزوير هوية الدواء) وما اكد لنا خطورة هذا الجانب، هو اكتشاف بعض الاطباء ان الادوية التي يصفونها لمرضاهم لا تتطابق مواصفاتها مع ما يشترونه (مستسهلين) الامر من (صيدليات الرصيف) المتخصصة ببيع الادوية المزورة الهوية، وما زاد اهتمامنا، هو اعلان شرطة مكافحة الجريمة الاقتصادية في محافظة النجف عن اكتشاف كميات كبيرة من الادوية المجهولة المنشأ والمزودة بالماركات، والصلاحيات والنوعيات.
-يقول صاحب ((مذخر الحضارة)) في شارع المشجر، ببغداد: نعم.. هناك كميات كبيرة من الادوية (المغشوشة) ذات المناشئ والماركات المزورة، والمنتهية الصلاحيات والمغشوشة المادة المصنوعة منها اصلاً، وذات الفاعلية المختلفة عما مذكور عنها، وهي تدخل البلد من البلدان المجاورة بواسطة متعهدين متخصصين، وبعضها تدخله بعض الجمعيات الخيرية غير الخبيرة، على انه مساعدات انسانية وبخاصة ما يقال انه (ادوية لعلاج الامراض المزمنة) وضمن موجة الفساد واساليبها، تصل هذه الادوية الى قنوات تصريف غير طبيعية، كباعة الارصفة، وهي ظاهرة نشدد على خطورتها، واحب ان اؤكد هنا، ان اصحاب المذاخر لابد لهم يد في دخول وانتشار مثل هذه الادوية التي ساهم في زيادة حجمها، الحدود المفتوحة، وانعدام الرقابة او عجزها والجشع والبطالة واستسهال التعامل مع الدواء من قبل المواطنين جهلاً بنتائج ذلك التعامل غير الصحية، بل الخطرة في اغلب الاحيان.
وتفتقر وزارة التجارة ووزارة التخطيط والموارد الانمائية الى احصائية ولو تقديرية بحجم الاموال المتداولة في ميدان الغش الاقتصادي والتجاري، والايدي العاملة، ومناطق النشاط، ومما يجدر ذكره هنا، هو نظافة اقليم كردستان بنسبة عالية من وجود نشاطات (الغش) المختلفة، بسبب الرقابة الدقيقة، وتوفر اجهزة المكافحة والحماية الفاعلة، والحصانة الاخلاقية والشعبية، وارتفاع نسبة الوعي الثقافي.
ويعزو الدكتور جواد عبد الكريم ونوس، استاذ مادة الاقتصاد في جامعة بغداد- بداية انتشار انشطة الغش الصناعي والتجاري في العراق، الى سنوات الحرب العراقية- الايرانية الاولى، وتوافد اعداد كبيرة من الايدي العاملة الاجنبية التي نقلت معها امراض بلدانها الاجتماعية الى المجتمع العراقي ومنها ممارسة (الغش)، وكذلك الى الاوضاع الاقتصادية التي تردت في البلد بعد فرض الحصار الاقتصادي من قبل المجتمع الدولي على العراق اوائل التسعينيات من القرن الماضي. اما الدكتورة نوال عبد الحميد الخزرجي، استاذة علم الاجتماع في الجامعة المستنصرية فتقول- الضغوط الاقتصادية تفعل فعلها في تكييف المجتمع وحذف بعض العادات والتقاليد وانماء اخرى، وتغيير وتعديل بعض المفاهيم والقيم، في مرحلة زمنية قد تطول وقد تقصر بحسب شدة تلك الضغوط وظاهرة الغش من ناحية اخلاقية تخضع هي الاخرى لقوانين هذه الضغوط، لذلك فان الانهيار النسبي، او التراجع النسبي لبعض خطوط القيم الاجتماعية فيما يتعلق بها وجد في ظروف الحصار الاقتصادي الدولي وقوانين الحرمان الحكومية، وتدهور الوضع الاقتصادي العام للبلاد، ظروفاً مواتية للتبرير، او التغير، وبالتالي تقبل (الغش) بنسبة ما، والرضا به كحالة لها ما يبررها، او كشر لابد منه، والانسان والمجتمع الانساني ميال لتطبيع الظواهر، او التكيف لها لغرض الاستمرار.


ورش التصنيع .. بضائع مستوردة ومنتجات محلية والنتيجة(زبون ) مغشوش
 

وهي ورش غير رسمية اتخذت من مناطق واحياء شعبية في بغداد امكنة لوجودها ولممارسة نشاطاتها واعمالها، فانتشرت في جكوك والشعلة والرحمانية ومدينة الصدر وفي الزعفرانية والضواحي، وهذه الورش تتعامل مع نوعين من البضائع، هما البضائع المستوردة والمنتجات المحلية، والبضائع المستوردة متنوعة والعمل عليها مختلف، فتزوير الماركات و(الليبلات) ولصقها بالملابس والعطور ومواد التجميل والغسول والشامبوات، اختصاص بعض الورش، اما المواد الغذائية، كالسمن والشاي والسكر والطحين وغيرها، فهو اختصاص ورش اخرى وقد حاولنا دخول بعض هذه الورش الا اننا جوبهنا بالرفض والمقاومة وفي بعض الحالات بالاعتذار المهذب، ولكننا تمكنا بدبلوماسية وباسلوب رقيق، من جعل بعض العاملين في هذه الورش يتكلمون ولو بنتف بسيطة عن طبيعة اعمالهم؟
يقول العامل (ج..) في احدى الورش العاملة في حي الشعلة.
-نحن هنا نستخدم مهاراتنا في خياطة الليبلات على بعض الملابس التي تأتينا جاهزة، ومهاراتنا في التغليف واظهار السلعة وكانها ذات منشأ اجنبي فعلاً، وهناك مطابع متخصصة في طبع (الليبلات) والماركات (حسب الطلب) يجلبها لنا التجار واصحاب المحلات التجارية، ونحن نقوم بما علينا لقاء اجر، وبعض هؤلاء التجار او اصحاب المحلات يملكون ورشاً خاصة تعمل لحسابهم، وهم يكذبون حين يقولون الا علاقة لهم (بالغش) فهم مصدره الاساس ومشجعوه وممولوه.
-اما العامل (...) فياض وهو يعمل في احدى الورش المتخصصة بانتاج العطور والشامبوات، فيقول
تشتري صاحبة الورشة التي اعمل فيها قناني العطور وعلب الشامبو البلاستيكية الاجنبية الفارغة من الدوارة (العتاكة) او من متعهدين متخصصين بتوريد مثل هذه الحاجات التي يجمعها البعض من الاسواق والنفايات المنزلية، ويبيعونها الى المتعهدين الذين يجلبونها الى هذه الورش التي تعبئها بمواد عجيبة وغريبة، فقناني العطور تعبأ بالقولونيا المنتجة محلياً وفق اردأ المواصفات وتلصق عليها ماركات اجنبية عالمية تشتريها من مطابع متخصصة بهذا الشأن، وهناك ورش نتج (الشامبو) المصنوع من بقايا (النارنج) ومركبات اخرى مضافاً لها بعض العطر واللون، وتبيعه لنا، لنملأ به علب البلاستيك الفارغة التي كانت تحوي مواد اصلية قبل استهلاكها، ونلصق بها ايضاً (ماركات) اجنبية، وتتولى صاحبة الورشة عقد الاتفاقيات مع التجار واصحاب المحلات المتخصصة لتصريفها، والجميع يعلمون انها مغشوشة، ان منظومة الغش، مثل الاخطبوط، عديدة الاذرع، وهي شبكة واسعة تشمل تخصصات عديدة. -العامل (...) ويعمل في احدى الورش المتخصصة بالمنتجات الغذائية في مدينة الصدر يقول: يهيئ لنا صاحب الورشة الصفائح والاكياس والصناديق والحاويات الاخرى، كل بضاعة حسب نوعيتها ونوعية الوعاء الملائم لها، واجهزة اللحيم الفني على سبيل المثال بالنسبة لصفائح السمن الفارغة التي تشتريها الورشة من (العتاكة) والمواد التي تعبأ بها الحاويات فنحن نضع مواد غريبة لا تمت للبضاعة المعلن عنها بصلة ثم نغطيها بالمادة المطلوبة بطبقة رقيقة للتمويه، كطبقة السمن في صفائح السمن التي نحكم غطاءها باللحيم، ونلصق عليها (الليبل) المطلوب الذي يتحدث عن نوعية راقية من السمن ولكنها موهومة، فلا المنشأ صحيح، ولا السمن موجود اصلاً، ويتم التسويق بالاتفاق مع عدد من الوسطاء (المتعهدين) او بالاتفاق المباشر مع التجار واصحاب المحلات المتخصصة بتجارة المواد الغذائية، ومما يسهل عملنا هو انعدام اجهزة الرقابة والمكافحة.


في علاوي جميلة واسواقها .. لا تدقيق ولا فحص.. و الضحية هو المستهلك
 

هنا الناس اشد حذراًَ واكثر تمرساً في التعامل مع الاسئلة المحرمة، بل واكثر خبرة في الاجابة التي قد يعالجها بعضهم حتى من ناحية قانونية.
في علاوي الفواكه والخضر، يخبرونك انهم لا يملكون الوقت للتدقيق في نوع البضاعة، فهي تأتي في صناديق ظاهرها انها جيدة، وباطنها لايمكن معرفته الا بالفحص الدقيق، والدلالون هنا يقولون انها ليست مهمتهم، لكن بعض اصحاب المكاتب، يؤشرون الى انهم يعرفون من يمارس الغش من الفلاحين والمزارعين ويضعون علامة
(x) على منتوجه، وقد يرفضون عرضه في (علاويهم) وبعضهم يقبله ولكن باسعار مخفضة، والضحية النهائية هو المستهلك، فاصحاب العلاوي ومكاتب الدلالية، لا تقدم ضمانات على نوعية البضاعة المباعة، وبخاصة بعد ان تخرج من باب (العلوة).
وفي جرينا المحموم لملاحقة سواقي الغش الى منابعها، اتبعنا نصيحة صاحبنا
بائع الفواكه- واتجهنا الى تجار جميلة الكبار اصحاب المخازن الضخمة، والتجارة بالجملة وفي خطواتنا الاولى، الى اول مخزن (أو سوبر ماركت جملة)، وبعد ان كشفنا هويتنا، واجهنا المحظورات التالية، ممنوع التصوير، ممنوع ذكر العناوين والاسماء، لاسباب امنية واسباب اخرى تخص التاجر والسوق والتجارة.
هنا التقينا في مكتبه الوثير في مخزنه الكبير الواسع المليء بشتى انواع البضائع وبكميات هائلة، حتى انك تشعر انك لست في بغداد المضطربة امنياً، فمثل هذه الكمية من البضائع المختلفة لا يمكن ان توجد في مكان واحد، الا في بلد آمن تماماً..
وحين علم بمهمتنا وهويتنا، تبسم وقال
-مثل هذه الاسئلة عن (الغش) ليست جديدة علينا ونحن نواجهها يومياً من قبل زبائننا، وهم من اصحاب المحلات التجارية المتخصصة ببيع المواد الغذائية وهو تخصصنا، نحن نبيع جملة، وهم يبيعون بالمفرد وكنا نواجهها من قبل اجهزة خاصة في الحكومة السابقة تحمل صفة الرقابة، ولكنها كانت تمارس الابتزاز وتتعاطى الرشوة، وتفتقر الى الجدية، لذا لم تكن مؤثرة، اما الان فنحن نعمل بدون رقابة الامن ضمائرنا، واؤكد لك اننا لا نعرف الغش، وليس الغش من مهماتنا واعمالنا، فنحن تجار، نستورد البضاعة او نشتريها من المنتج المحلي ونعرضها للبيع، وهذا هو كل عملنا ولا يدخل فيه الغش، البضاعة المستوردة لا تغش، ولكنها قد تاتي مخالفة للمواصفات، او ان صلاحيتها قد انتهت ولم تعد صالحة للاستهلاك البشري (انتهى الاكسباير الخاص بها) كما يقول التجار، ولكن بعضهم يستوردها باسعار متدنية، بعد ان يزور اوراقها، ويضع عليها (ليبلات) جديدة ويغير تاريخ انتهاء صلاحيتها بمعاونة مزورين متخصصين في هذا العمل، واكتشاف هذه الحالات يحتاج خبرة وتخصصاً تفتقر اليها اجهزة الحكومة الحالية الناشئة، اما المنتوج المحلي فهناك ورش خاصة، تتخذ من البيوت في الاحياء السكنية الفقيرة اوالقريبة من المناطق التجارية، مواقع لها وهي تمارس الغش على نطاق واسع وباساليب واشكال متعددة نحن نعرفها ونحذر منها، ولكن بعض التجار الجشعين والذين لا يخافون الله، يتعاملون معها بهدف الاثراء السريع والربح الواسع الكبير، واود ان اوضح امراً مهماً هنا، هو اننا لا نتحمل المسؤولية الاعتبارية عن البضاعة المغشوشة، وكذلك المسؤولية القانونية، فنحن مجرد مفصل حركة لايصال البضاعة الى باعة المفرد ومن ثم الى المستهلك وكذلك بائع المفرد لا يتحمل مسؤولية من أي نوع، فنحن لا نفحص كل البضاعة وانما نفحص عينات منها، فاما ان نقبلها اذا كانت صالحة واما ان نرفضها اذا كانت مغشوشة، والعينات قد لا تعطي الصورة الحقيقية لكل البضاعة، كما اننا بالنسبة للبضاعة المستوردة نكتفي بالبيانات التجارية والبيانات والاوراق الاخرى التي يقدمها لنا المصدر من بلد المنشأ، فاذا كان بلد المنشأ قد تلاعب بها اصلاً، فنحن لا نملك هنا اجهزة متخصصة قبلنا، ونحن مثل المستهلك قد نسقط احياناً في افخاخ الغش الصناعي.
مرة اخرى نجد انفسنا ندور في دوامة بلا نهاية وكل يدفع عن نفسه ويلقي بالذنب على سواه، ونجدنا بعيدين عن بؤرة تسويق وترويج اساليب الغش، او مبعدين عنها بمعلومات مفبركة او مرتبة بطريقة منطقية مقبولة ومعها اسناد واقعي وقانوني او هكذا يفترض.


اذا غش المعلم فكيف يكون التلميذ
 

لا يقتصر الغش في المدارس، على التلاميذ وحدهم ولا يتعلق الامر بتلك القصاصة الورقية (البرشامة) كما يسميها التلاميذ، والتي تحوي بعض الامدادات المعلوماتية المطلوبة ساعة الامتحان، وحسب، فالمعلم يمارس بدوره غشه الخاص ايضاً، وكان ذلك مكشوفاً بطريقة جلية ايام النظام المباد الذي اهان قطاع التعليم بتلك الرواتب التي كان يصرفها للمعلمين، والتي لم تكن تكفي لشراء بضعة علب سكائر كل شهر، ويضطر المعلم لدفع نفقات واجور تنقله من جيبه الخاص، ولا تسأل من اين كان يحصل على النقود، فقد اضطر لايجاد سبله الخاصة.
ومن تلك السبل، التبرعات التي كانت تفرضها ادارة المدرسة على التلاميذ، والدروس الخصوصية، التي كان المعلمون يحرجون (يجبرون) تلاميذهم على الاشتراك فيها، على انها دروس تقوية، ولم تكن سوى دروس تقتصر على (تحفيظ) الاجابات عن الاسئلة الامتحانية (الوسطى والشهرية أو النهائية) والغش هنا واضح وان لم يكن مباشراً.
وبعد سقوط النظام قلنا ان رواتب المعلمين تعدلت، وانهم لم يعودوا بعد بحاجة الى (غش) الدروس الخصوصية، لكنا فوجئنا باسلوب جديد اتبعته بعض ادارات المدارس فقد دست تلك الادارات اسماء بعض الاشخاص الوهميين والحقيقيين على انهم من المفصولين السياسيين ايام النظام السابق!
وهناك غش الازواج، وهو معروف وتفاصيله كثيرة وبعضها يحمل طرافة مؤلمة، واذا تساءلت كيف تكون الطرافة مؤلمة، فاسأل زوج امرأتين اخفى سره عن كليهما فكل واحدة تظن انها الوحيدة في حياته وتلك هي (الكوميديا التراجيدية) كما يقول عنها المسرحيون.
وهناك الغش (السياسي) والغش القصير الامد والغش الطويل الامد، ولكنه في الحقيقة لا يوجد غش طويل الامد، وكما قالت العرب، فحبل الكذب قصير، وغش الحرب، هو (الخدعة) و(الحرب خدعة) كما تقول العرب ايضاً، واذا اعترض السياسيون على عبارة (الغش السياسي) فسنرضيهم بالقول اننا نتحدث عن (سياسة الغش، الحكومية، او الحزبية- لا فرق بين المعارضة ومن هم على كراسي الحكم) وتشمل سياسة الغش الاتفاقيات الدولية القائمة على (الخداع) او (المناورة) فالغش يشمل الدول ايضاً، وبعض هذه الدول تمارس الغش بانتاج بضائع وسلع تخصصت دول اخرى او شركات او مؤسسات تجارية ذات اسماء لامعة فيها بانتاج بضائع مميزة، كالساعات والحلي، والعطور والازياء والاجهزة الكهربائية الدقيقة، وترد اسماء مثل ، كريستيان ديور، وكارير، والشركات اليابانية والسويسرية والاميركية تقلد منتجاتها معامل وشركات في دول لا تعترض على اعمالها بل تشجعها على ذلك، وهي في اغلبها دول اسيوية، قدمت منتجات هذه المؤسسات والشركات باسعار متدنية جداً وحققت ارباحاً خيالية، الامر الذي جعل هذا النوع من الغش، يشكل لهذه الدول ركائز اقتصادية مؤثرة، وعرض المؤسسات والشركات التي تم تقليد منتجاتها الى خسائر عالية الارقام، مما دفعها الى رفع دعاوى قضائية عديدة لدى المحاكم والقضاء الدولي المتخصص بالفصل في مثل هذه الدعاوى.
وعلى هذا نستطيع التأكيد على ان حجم المتداول المالي في نشاطات (اقتصاد الغش الدولي) تصل الى ارقام فلكية تطوي مئات المليارات من الدولارات.


الغش في البطاقة التموينية .. شراء الطحين والشاي والرز والصابون ليس بمواصفات التسليم
 

البطاقة التموينية، الركيزة الاساس في مطبخ العائلة العراقية وبخاصة العوائل ذات الدخل المحدود، في ظل ظروف الحصار الدولي الذي فرض على العراق اثر غزوه الكويت في التسعينيات واوائل الالفية الثالثة واليوم في ظل جنون اسعار السلع والمواد الغذائية وانخفاض القوة الشرائية، لمعدل اجور ورواتب المواطنين العراقيين وقد كانت وما زالت ميداناً فسيحاً للتلاعب بمفرداتها، من قبل الوكلاء، او من قبل مراكز التجهيز التابعة لوزارة التجارة، وكما لاحظنا في بقية الميادين كل يلقي اعباء الغش على سواه.
يقول وكيل المواد الغذائية (...) -كاظمية-
التلاعب او الغش بمفردات البطاقة التموينية هو على نوعين، وجه يتصل بالكمية والاخر بالنوعية، وحين نعترض نحن الوكلاء على نوعية المادة المجهزة لنا او الكمية الناقصة، يجد لنا منفذ التوزيع المسؤول، مئات الاعذار والتبريرات ويجبرنا على استلام حصتنا بعد التهديد بقطعها وبالقول- هذا الموجود!
الوكيل (..)
الحرية الاولى- هذا الشهر شعبان- استلمت حصة الشاي من المخازن وقد اعترض عليها كل المواطنين الذين استلموها، فمادة الشاي مخلوطة بنسبة عالية من الشاي المستعمل، ولم نكتشف ذلك حين استلمنا المادة، فما هو ذنبنا؟ وكل المواطنين يصبون كل اللوم علينا، نعم هناك بعض الوكلاء الذين يغشون او يستبدلون مفردات البطاقة الجيدة او الوسط بمفردات رديئة ولكن ذلك لا يشمل الجميع، والغش يشمل العديد من هذه المفردات وفي مقدمتها الطحين الذي يجري الغش فيه بنسبة عالية، ونحن نتهم موظفي مراكز التوزيع التابعة لوزارة التجارة، وهؤلاء يتهمون الموردين، وهناك تهم موجهة لسواق الشاحنات الذين ينقلون (القمح) المستورد الى السايلوات، وهناك كلام كثير حول النسب الداخلة في الخلطة التي تتبعها المطاحن، ونوعية الطحين (الخارج) منها، وكل طرف يلقي تبعات الغش على الطرف الاخر، ولكنها جميعاً تقع على رؤوسنا.
الوكيل (..)
مدينة الصدر- قطاع 26-
بعض المواد تاتينا مغلفة ومسلفنة، او في صناديق محكمة الغطاء، فكيف نكتشف او نعرف انها مغشوشة؟ وماذا بيدنا اذا عرفنا ذلك، لا احد يستمع لنا، ونحن مجبرون اما ان نعود بلا شيء، او نتسلم ما هو موجود والمواطن يطالب بحقه ولا يعرف الحقيقة.
ويقول رداً على ذلك احد موظفي المخازن وقد طلب عدم ذكر اسمه- نعترف ان الغش يتسرب الى المواد التي نوزعها على الوكلاء، ولكن هناك جهات كثيرة مسؤولة عن مرور اساليب الغش هذه، ومنها لجان الفحص والتدقيق والمتابعة في وزارة التجارة وفي وزارات اخرى لها علاقة، بل ان بعض وكلاء التأمين في العراق، يوقعون باستلام صفيحة السمن مملوءة على سبيل المثال، بينما هي فارغة الى النصف او اكثر، فتصبح اوراقها قانونية، ولا تعرف من اين نستوفي النقص، فالمنشأ- او شركات التجهيز الاجنبية تبرز لك توقيع وكيل التأمين على الاوراق الثبوتية وهي بذلك تنفي مسؤوليتها القانونية وتلقيها على عاتق مجهول لا يمكن معرفته، هذا فضلاً عن التلاعب بنوعية المادة، في الحقيقة يمكنني القول ان عالم الغش في مفردات البطاقة التموينية عالم واسع ومتنوع الاساليب ومتعدد الاطراف، وضحيته في النهاية، المواطن.
ويقول مدير شركة تصنيع الحبوب في محافظة نينوى السيد غانم الياس في حديث له مع (المدى)، في معرض حديثه عن الغش في مادة الطحين، او رداءة النوعية الواصلة الى المواطن:- الطحين الموزع على العوائل على وفق البطاقة التموينية في (المحافظة)، والشكاوى التي ترد حوله، والاتهامات الموجهة لاطراف عديدة لها علاقة، تعود لاسباب كثيرة، منها التلاعب بنوعية الطحين المنتج بعد خروجه من الشركة، ولكن ابتداء من الشهر الجاري سيطرأ التحسن على هذه النوعية، بعد ان قامت الشركة باتخاذ عدة خطوات، منها اضافة نوعيات جيدة من الحنطة المحلية والمستوردة الى طحين (الحصة) فضلاً عن تشديد الرقابة على المطاحن الاهلية والحكومية لضمان عدم حصول التلاعب في نوعية الطحين المنتج فيها، اذ ان القياسات الموضوعة من قبل الشركة العامة لتصنيع الحبوب تهدف الى انتاج طحين على وفق المواصفات التي يرغب بها المواطن ويحتاجها.
وحول سؤال عن التأخير في تسلم المواطن لحصته، (والبعض يعدها ذريعة لاستهلاك الوقت في اجراءات الغش، فلو وزعت المادة حال تسلمها، لقلت فرص الغش) اجاب السيد المدير يجري التأخير فعلاًَ في بعض مناطق المحافظة ولكن .. له اسبابه، فهناك صعوبات جمة تواجه المطاحن في هذه الايام، منها شحة الوقود والانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي، الامر الذي اثر بشكل كبير جداً على عملها، مما ادى بالنتيجة الى تأخر توزيع الطحين على المواطنين في بعض المناطق، والشركة جادة في وضع الحلول المناسبة لتلافي التأخير، وسيلمس المواطنون ذلك خلال الاسابيع القليلة المقبلة.
ويتساءل المواطنون ونحن معهم، اين كانت الشركة من قبل لتتخذ الاجراءات التي تؤدي الى تحسين نوعية (الطحين)؟ ولماذا تفعل ذلك الان فقط، وبعد مرور سنوات طويلة على العمل بالبطاقة التموينية؟ ومتى يكف المسؤولون عن استخدام التسويف وزرق الابر المخدرة بوعود لا يعلم الا الله ان كانت ستنفذ ام لا؟
ويقول بعض الوكلاء الذين طلبوا عدم ذكر اسمائهم وعناوينهم- ان منافذ التوزيع التابعة لوزارة التجارة يجبرهم موظفوها على دفع مبالغ لا تدخل في (الفاتورة) (وهذا توصيف دبلوماسي للرشوة) وبعكسه تقطع او تؤخر حصتهم، وهناك من يدفع اكثر لتسلم حصة جيدة لا ليوزعها على المواطنين، وانما ليستبدلها ببضاعة ومفردات اخرى مغشوشة، وهنا ايضاً، نجبر على ابتياع اكياس بلاستيكية غير صالحة للاستخدام واستئجار شاحنات معينة لنقل حصصهم المقررة والمتسلمة الى مناطقهم الخاصة بهم لقاء اجور عالية بالاتفاق مع موظفي منافذ التوزيع هذه وبخاصة (المناطق الساخنة) التي يرفض الكثير من سواق الشاحنات دخولها، اليست هذه اساليب للغش ايضاً ولو بصورة غير مباشرة، وهل نخبرك ان بعض منافذ التوزيع تجبرنا على التوقيع على تسلم كمية اكبر مما نتسلمه حقاً، والا تعتبرون التزوير نوعاً من الغش؟
-ويقول الوكيل (...) من منطقة العطيفية.
-اعرف بعض العوائل التي كانت تتسلم مني حصصاً لعائلتين وهميتين او اكثر، وبعضهم تضم قائمة افراد العائلة اسماء وهمية، والبعض لا يشطبون اسماء الموتى، وبعضهم يضيف اولاداً جدداً غير موجودين في المواقع، اريد ان اقول بهذا.. ان المواطن ايضاً يغش هو الآخر.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة