المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

فعل العمارة.. ونصها
 

د. خالد السلطاني*
معمار واكاديمي

*مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

قد لا يوجد ثم رابط متين بين مناسبة منح" محمد يونس" ومصرفه" بنك جرامين" المتخصص بتسليف القروض الصغيرة للفقراء، جائزة نوبل للسلام لهذه السنة (2006)؛ والمحاضرة الشيقة التى حضرتها مؤخرا في مدرسة العمارة بكوبنهاغن، والتى القاها" موحان شرمان" المعمار الهندي، مساعد" لو كوربوزيه" في عمله على صنيعه الذي عدّ واحدا من اجمل تصاميم القرن العشرين واكثرها طليعية وحداثة؛ وهو مشروع مدينة" جنديكار" الواقعة على سفوح جبال الهملايا بولاية البنجاب في شمال الهند، المشروع الذي اشتغل عليه المعمار الفرنسي الشهير مع مساعديه الهنود لمدة زادت على عقد من السنين، من عمل مثابر وخلاق، لا اخشى ان اقول عنه انه كان، ايضا، بطوليا، واستمر من بدايات الخمسينيات ولحين اكمال تنفيذ معظم ابنية المدينة الجديدة في السنين الاولى من ستينيات القرن الماضي؛ ربما لا يوجد رابط قوي وواضح بينهما، لكني ارى في المناسبتين استدعاء لتذاكر فائض المعطى الحضاري والانساني، المعطى اللصيق بهما والنابع عنهما والتمعن، كذلك، في اسلوب مقاربتهما الادائية.
ولئن حجبت اوهام" تمركز" الذات الجمعية المتعالية التى عادة ما تسم اداء خطابنا الثقافي والمتمثلة باقصاء" الاخر" ونفيه وعدم الاعتراف به، وخصوصا" الاخر" غير الاوربي او الغربي على وجه العموم، والعمل على تشويه منجزه الابداعي، توطئة لتكريس" اميج" مفتعل عن" انا جمعية" متغذية بمرويات التوهم بوهم النقاء والصفاء، وعن" اخر" مختزل بصورة نمطية وموسوم دائماً بالدنس والدونية؛ اقول لئن حجبت تلك الاوهام ما يتعين علينا ادراك ما اجترحته تلك الشعوب القريبة منا، والتى لا نعرف الشيء الكثير عن منجزها الابداعي، فاننا بالنتيجة نعد من دون شك، خاسرين ؛ خاسرين في المساهمة النشطة بعمليات" التثاقف" والتقارب اللذين يعتبران الان "خبز" المعرفة اليومي، ايا ً كان منبعها، والذي تتغذى به اليوم شعوب وامم مختلفة، ان كان ذلك لجهة فتح آفاق معرفية غير مسبوقة، ام لجهة اختصار درجات" سلم" التقدم العلمي والتكنولوجي.
ومن فكرة ايجاد رابط بين المناسبتين، يمكن التعاطي مع فعل العمارة ونصها: فعل العمارة العربية الحديثة، ونصها العربي المنشور في وسائط الميديا الحالية . اذ لا جدال في ان واقع مجتمعاتنا المعاصرة بجميع بلداننا العربية ينوء تحت ضغوط مشاكل كثيرة ومتنوعة؛ مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية وعمرانية. ورغم تشابه" مشاكلنا" الى حد كبير مع طبيعة ونوعية مشاكل مماثلة لدى شعوب أخرى؛ فثمة" خصوصية" تضفي بظلالها على واقعنا وتسم نوعية مشاكلنا بطابع خاص، يكاد يكون في بعض الاحيان.. فريدا ً. وهذه الخصوصية تكمن في نزعة التغاضي المتعمد في مواجهة تلك المشاكل وانكار وجودها اصلا من قبل النخب السياسية الحاكمة بجميع تلويناتها من اقصى اليمين الى اقصى... اليمين (اذ لايحضر مسار اخر بعموم المشهد السياسي العربي، حتى يكون ثمة حد ّ اقصى آخر، كما يتطلب ذلك سياق تركيبة الجملة!). وحتى لا ابتعد كثيرا عن تعداد المشاكل المتنوعة، اشير الى" ازمة السكن" المشكل الدائم الذي يعاني منه مواطنو المجتمعات العربية جميعها وبلا استثناء، معاناة تصل حد تجريد السكان من ابسط حقوقهم الانسانية، لاغية في احيان كثيرة، بوطأتها الشديدة، آدميتهم.
ثمة عاملان يحتم وجودهما كي يمكن ان نرى نتائج ملموسة في اتجاه حلول منطقية لهذا المشكل وهما وفرة السيولة المالية اولا، وثانيا التخطيط الصائب الذي يتضمن فيما يتضمن نوعية المقاربات التصميمية وحضورها الفعال في هذا المجال.
وفيما يخص العامل الاول فان مجمل اجراءات مؤسسات التسليف العاملة في بلداننا والمتخصصة بالشأن الاسكاني، تدور في حلقة مفرغة لا تهدف بجدية تحقيق اهداف ملموسة؛ فغالبية تلك الاجراءات غير معنية عناية صادقة بتقصي حلول ناجعة لهذا المشكل المزمن او مهتمة بالعمل على تخفيف وطأته عن كاهل الفقراء، بقدر ما ترمي الى زيادة نسب لربحية سريعة والتلويح" ببعبع" الاستيلاء في حالة عجز المقترضين عن دفع اقساط دورية لقروض منهكة. بالطبع ليس جميع المؤسسات المصرفية العاملة هذا ديدنها، بيد ان ما نشاهده على ارض الواقع من فضائح وضروب من احتيالات معقدة تقوم بها بعض تلك المؤسسات المتسترة وراء لافتات واسماء براقة ومغرية مثل البنوك" الشعبية" و" الاسلامية" و" التعاونية" والاشتراكية" وما شابهها، لا يجعل الكثيرين مطمئنين لاساليب عملها وغير مؤمنين بصدقية مقاصدها. وازاء طبيعة الواقع الملتبس وغير الصحي المخيم على نشاط العمل المصرفي التقليدي يعزف نشطاء المجتمع المدني العربي المؤلبة ضدهم الاتهامات الجاهزة، والمحاصرين من قبل سلطات دولهم، يعزفون عن تقديم طروحات وافكار جديدة تسهم في ايجاد بدائل اخرى لتنشيط عمليات التسليف الاسكاني، نظراً لانشغال اولئك الناشطين في تراتبية من اولويات لم تكن ازمة السكن وما جاورها ضمن اهتماماتهم الرئيسية؛ الامر الذي افضى الى تلاشي واختفاء اهم عامل من عوامل المعادلة الصحيحة وهي تنشيط حركة التسليف التى يمكن بها التعويل جديا ً على حل هذا المشكل الدائم.
وتبرز مبادرة" محمد يونس" ومصرفه" بنك جرامين" كاحدى المبادرات الخلاقة التى تبتغي مساعدة الاخرين مساعدة حقيقية، مؤسسة لنفسها سلوكية همها تحقيق مرام اجتماعية نبيلة من دون ان تبتغي الربح. بيد اننا وبحكم نزعات الاقصاء والتغريب والابتعاد لم نسمع بمثل تلك المبادرات المبدعة لحين الاشارة اليها من ..." نوبل". عند ذاك اتت الميديا العربية على ذكرها وتناقلت أنباءها بتعجب وتساؤل مشوب،، بالمفاجأة! عن كيفية اجتراح هكذا انجاز استثنائي، انجاز تتساوق اهميته مع اهمية الجائزة العالمية المرموقة، من قبل" آخرين" كان لحد قريب ينظر اليهم واعمالهم نظرة لا تخلو من مهانة وازدراء.
والتساؤل ما انفك قائما: هل بوسعنا تخطي مركزيتنا والشروع بالتعلم من تجارب الاخرين ايا كانت قومية" الاخرين" ومكانهم؟، ومن ثم الانكباب جديا ً للتعاطي مع مشاكلنا بصيغ غير تقليدية، ليس منها حتمية (وحتى وجوبية! ) نيل ارباح فاحشة والتسليم بان مساعدة الاخر، وخصوصا الاخر المحتاج لهذه المساعدة والتعاضد معه، ليس عملا وازعه ديني محض، بقدر ما هو عمل يكمل سلوكية الانسان المتحضر الواعي لادميته والتواق لمد يد المساعدة للاخرين والمدرك لمشاكلهم.
آثار" موحان شرمان" في محاضرته عن علاقة لو كوربوزيه الحميمية بمشروعه المتعدد الوظائف و المجسـّد مبادئ عمارة الحداثة، والذي يعتبر المعمار الفرنسي احد مؤسسي تلك العمارة واحد ابرز نشطاء ترسيخ قيمها في الخطاب المعماري العالمي، تلك العلاقة الحميمية التى تجلت في تبجيله الكثير للبيئة المحلية وتراثها البنائي واحترامه الواضح لسكانها وفهمه العميق لمشاكلهم وطموحاتهم. بيد ان المحاضرة لم تكن في عمومها مكرسة للحديث عن عمارة مباني" جنديكار" الرائعة، ولا عن لغتها المعمارية المتميزة التى اثرت على نهج كثر من المعماريين العالميين لا سيما العاملين منهم في مناطق ودول جنوب آسيا. اذ تطرق المحاضر الى نتاجه المعماري الخاص به، والمشيد في عموم مناطق الهند. وما شاهدته من امثلة مبنية وما لمسته من افكار عرضها المعمار بكل صدقية مشوب بتواضع شديد، وما اعرفه عن منجز العمارة الهندية وتطلعاتها؛ كان كافيا لاستحضار مقارنات عديدة بين ما يجرى في المشهد المعماري هناك، وما هو حاصل في نوعية الخطاب المعماري العربي المعاصر.
فليس امراً غير معروف من ان النشاط المعماري العربي بغالبيته العظمى يمثل جهدا ابداعيا غير مدرك بصورة كاملة من قبل العديد من المتلقين، انه لا يثير اهتمامهم كما انه لا يحظى بتعاطفهم. ومرد ذلك، في رأينا، قناعة الكثيرين من ان ذلك النشاط الابداعي متجه في عمومه باتجاهات بعيدة عن تطلعات الناس العاديين، او انه في احسن الاحوال غير مهتم بالاقتراب من مشاكلهم الحقيقية. هل يتعين التذكير باني، ايضا ً، المس هذا واحس ّ به من خلال قراءتي المتعددة لذلك المنجز ومتابعتي المهنية له؟. فالمشاريع المبنية التى عرضها المحاضر الهندي جميعها معنية في ايجاد حلول عقلانية للمشاكل التى تتصدى لها، باستخدمات وسائل متاحة ومواد انشائية معروفة ومتداولة. انها مدارس لطلاب لم يمنعهم فقرهم من تطلع مشروع في نيل المعرفة، انها ايضا لمبان صحية وادارية وسكنية يمثل حضور عمارتها اثراء حقيقيا لتلك البيئة المبنية المحيطة وترسيخاً لذائقة جمالية جديدة متأسسة من تآلف فعل العمارة المؤثر واليات تنفيذها بمواد عادية، مواد اضحت بيد المعمار المتمرّس مواد.. استثنائية!. انها فوق ذلك تتمتع بلغة تصميمية حداثية تطمح إلى ان تتساوق بتناصية مبدعة مع اعمال لو كوربوزيه ومقارباته المميزة. يمكن، وايضا، في هذا الصدد، استحضار تجربة المعماريين البنغاليين الذين حققوا بعملهم الدؤوب والابداعي انجازات كثيرة في مسعاهم لتغيير الواقع البنائي المعيش من خلال تكوينات تصميمية انطوت على مصداقية نفعية ومتانة انشائية وقيم جمالية عالية، تعيد الى الذاكرة مناخات المأثرة المعمارية الفريدة التى اجترحها" لويس كان" في عمارة رائعته" مجمع مباني البرلمان في دكا" (1961-1982)، العمارة التى اثرت على المسلك المهني للكثير من المعماريين، لا سيما على مسعى الذين ذكرتهم توا ً التواقين الى تقصي صيغ تصميمية بديلة تسهم في تحسين ظروف معيشة الاخرين وترتقي بمستوى فضاءات اماكن سكناهم وعملهم.
ولئن حضرت عمارة" حسن فتحي" (1899-1989) التى تدعي (بعمارة الفقراء) كمعادل تجريبي لما يمكن ان يفتخر به منجز العمارة العربية الحديثة من جهد تصميمي مميز ذي نبرة استثنائية في المشهد المعماري العالمي، فان ذلك ينبغي ان يقيم ّ الان ضمن معايير نقدية بمقدورها ان تضيء، بمصداقية، اهمية ذلك العمل وتقرأه قراءة ثانية. وليس في نيتنا بالطبع وضمن محدودية هذا المقال، ابداء رأي اخير ونهائي في اهمية نهج العمارة التى ابدعها المعمار المصري الراحل منذ ظهور اولى نماذجها في" قرية القرنة الجديدة" (1945-48) في صعيد مصر، تلك النماذج المميزة والمخالفة بلغتها التصميمية سياقات العمل المعماري الشائع، الى ما كان ينادي به من تغيير دراماتيكي وراديكالي لنوعية العمارة العربية الحديثة و تبديل مرجعياتها القيمية.
واذا استثنينا ميزة طزاجة الاشكال التصميمية التى انطوت عليها تلك العمارة و" شعبوية " مفرداتها مقارنة بالسياق العام للمنتج المعماري وقتذاك، اي في نهاية الاربعينيات، فان وضع الاهداف الاخرى اللصيقة بالعمل المعماري على طاولة التحليل ستكون باعثا لنقاشات واسعة يتعين التعاطي معها بجدية وحرص كبيرين، والنظر اليها من اوجه متعددة بضمنها التساؤل المشروع عن جدوى تغريب فعالية الانشاء ومواده عن سياقها المعاصر من جهة، ومن جهة اخرى استنطاق تسويغ مسعى اللجوء الى عملية" تحنيط" اشكال قديمة يراد بها ان تدرك كونها مفردات تشي بنوع من التماميمية الجاهزة، التى لا تقبل الحذف او الاضافة بل وحتى.. التأويل؟ والنزوع ايضا لاصطفاء لحظة من فعالية ماضوية وقطعها من سياقها ثم استنساخها لتكون لحظة معيشة صالحة دائماً لهذا المكان، ولاي زمان؟!.
ورغم ان مفردات تكوينات" عمارة الفقراء" التي اشتهر بها حسن فتحي، تعود بمرجعيتها الى التقاليد البنائية الشعبية، التى بالغ المعمار بافراط في الحرص على استنساخ" فورماتها"؛ فان ما آلت محاولات توظيف تلك المفردات في التصاميم المعاصرة وبالصيغة التى روج ّ لها المعمار افضت الى نتيجة شديدة المفارقة: وهي ان امراء الخليج النفطيين وبقية الاثرياء العرب بمقدورهم وحدهم استعمال عناصر" عمارة الفقراء" اياها في تصاميم قصورهم وداراتهم، نظرا ً لكلفها العالية التي لا يقدر على تحمل تبعات استخداماتها المكلفة حتى ميسورو الحال، بله الفقراء. ويلجأ الاغنياء الى تحقيق هذه العمارة طمعا في" الاستمتاع " باشكالها الماضوية، كناية عن ولع نوستالجي، يتمظهر احيانا ً في شغف الاهتمام بالمنتج الفلكلوري، وحب اقتناء مفرداته الشعبية" البلدي ". وهذا الامر يحمل بين ثناياه دلالات خاصة قد يمكن لها ان تدحض مصداقية اسلوب تلك العمارة، وتتشكك في جدوى منطلقاتها التصميمية.
ويظل المعيار النقدي الذي نثق به في تحديد اهمية المنتج المعماري من عدمه، يعمل بصوابية نراها منصفة عندما يشار الى وجوبية حضور" تميز ّ" ذلك المنتج ضمن اعمال معاصريه، و" تجاوزه" لسابقيه و" تأثيره" الحاسم والقوي على لاحقيه؛ عند ذاك يضحى العمل المعماري مؤهلا فعلا لان يكون متضمناً، قيمة موضوعية قابلة للادراك والاحتذاء والتأويل.
في كثير من الحالات يترك المصممون لعمارتهم ايصال مفهوم الفكرة التصميمية وما تنطوي عليه من قيم جمالية الى متلقي هذه العمارة انفسهم، مسقطين في الغالب الاعم دور توظيفات" النص" في الاشتغال على تحقيق هذه المهمة. فالنص المعماري يكاد يكون نصا مغيبا في الخطاب الثقافي العربي. فهو على خلاف نصوص بقية الاجناس الابداعية لا يحظى باهتمام الميديا العربية الحالية، كما ان المتلقين لا يشعرون جراء هذا الغياب، بان ثمة نقصاً ما حاصلاً في الجانب المعرفي. والقضية لا تقتصر على ايصال فكرة ما، بقدر ما يسهم حضور هكذا نصوص في خلق مناخات تتبنى شيوع جهد معرفي بمقدوره ان يقيم المنتج المعماري، ويشير بموضوعية الى نجاحاته واخفاقاته، بمعنى اخر ان تكون الثقافة المعمارية جزءا اساسيا ومألوفا من المدارك الابستمولوجية للمتلقي العربي.
ثمة قطيعة اذن، بين ما يُنتج معماريا وبين متلقي هذا المنتج لا سيما شاغليه؛ قطيعة يتحمل وزر انعكاساتها السلبية في المقام الاول، المعماريون الذين ارتضوا لانفسهم معايشة هذه القطيعة ظنا ً منهم انها تكرس حالة" نخبوية" مفتعلة يحرص الكثيرون منهم على ادامتها وترسيخها ابتغاء النأي عن تبعات استحقاقات نقدية تمارس عليهم وعلى اعمالهم.
وما عدا نشاط المعماريين العراقيين الكتابية، وخصوصا كتابات المعمار رفعة الجادرجي المتعددة الاهتمامات والجريئة في آن، فان" نغمة" النص المعماري تبدو خافتة جدا في الخطاب الثقافي العربي؛ الامر الذي يكرس قطيعة معرفية ومهنية بين المنجز المعماري العربي بكل تجلياته من مقاربات مختلفة ومواضيع متنوعة وبين متلقيه ومستخدميه. ومعلوم ان زوال مثل تلك القطيعة سيعمل في مصلحة تبادل الافكار والتعرف بتفصيل على نوعية الحلول المعمارية التى يتصدى لها المعماريون العرب اينما كانوا.
وايا يكن الامر، فان فعل العمارة وتأثيره الحاسم في تغيير ظروف البيئة المبنية مرتهن كما اشرنا بوجوب انغماس المعماريين العرب في مهام ايجاد حلول واقعية ومنطقية للمشاكل الكثيرة والمتنوعة التي تعج بها مجتمعاتنا. ولا يمكن بلوغ تلك المهام بيسر وبسرعة اذا لم نكن جادين في التعرف على ما يجرى حولنا مهنيا، والتعود على الانطلاق من خط نهاية التجارب البنائية الصحيحة التي انجزها معماريو بلداننا او" الاخرون" في تصديهم للمشاكل ذاتها التي تواجهنا؛ بمعنى اخر يتعين الاحساس بروح التكاتف والتعاضد والمساعدة وتبادل الخبر في تقصي حلول ناجعة للمشاكل التى يتطلب حلها تجديد البيئة المبنية وتحسين ظروف سكن وعمل غالبية الناس وخصوصا الناس البسطاء. وطالما كان اهتمام وجهد المصممين منصبا ً على قضايا حقيقية وواقعية تواجه مجتمعاتهم، فان ذلك الاهتمام وذلك الجهد سيحظيان على تعاطف واحترام الاخرين حيثما كانوا؛ فالقيم الانسانية التى ينزع المعماريون ان تكون حاضرة في تصاميمهم وابداعاتهم هي قيم واحدة ومشتركة، ولهذا بالذات، يحس ّ المصممون العاملون بمثل هذه المقاربة بانهم يشتركون شراكة اخلاقية مع آخرين معنييّن في تكريس تلك القيم الانسانية وترسيخ تلك العمارة. مرة، كتب" ادورد سعيد" بان (النظرة الانسانية تتغذى من حسها الجمعي المتمثل بارتباطها بالباحثين الاخرين والمجتمعات والمراحل التاريخية الاخرى، بحث لا يمكن القول ان هناك باحثا انسانيا معزولا..".
نعم، لا يمكن ان يكون ثمة عزل او اقصاء في مهام تقصي حلول معمارية تبتغي تغيير البيئة المبنية الى الاحسن، وتكون مفعمة، فضلا عن ذلك، بالحس الانساني. ومن الطبيعي جدا ان يكون لدور" النص" المعماري، النص المساهم الاول في عملية التعريف والتبشير لمثل تلك الحلول، الاهمية والخطورة ذاتها، كاهـمية وخطـورة" الفعـل" المعماري ذاته.


أحـــلامي
 

سهام جبار

 

أحلامي أيتها المتفرقة على الجبال
أجمعيني وادياً واسبحي فيَّ
لأتلألأ بضوء الجمال
أو لأصير قارورة عمرٍ ليس ينفد
أيتها الممكنة العصية
اذ تسكنين الحواف
وجنين الغد والموسيقى
وأتحرك بك من اقبية إلى اقبية
بوجهٍ من الوهم
ووجوهٍ من الخسارة
وآسى وأفرح واضحك وأمحى
لكني القريبة وأنت البعيدة
مختلطة بالمضي أنا
ودرجة من الارتحال أنت
مسافرة لا يد تحلب خيط آنسلالك
ولا غصن أمده أيتها الثمرة فتسقطين
أيتها الجميلة كأنك عيني
المدونة شكلي المقامر وورقي الأعمى
أيتها الممكنة كأنك خطاي
والعصية كأنك هذه الاسلاك
تمزقني
لماذا أيتها الاحلام؟
أأنا الطفلة التي لم ألد
وأنت أمي الظلمات؟
أأنا الضياع المعترض
موج وصولك إلى الشاطئ؟
هيا آرتديني
هيا صلي.. وتأرجحي
بقدمي لذتي من هذه الاشجار
اذ الوقود أطفال ماءٍ يابس
لم يدفئهم الحب
ولم يقلبهم إلى اليمين وإلى الشمال
أي جنون!!
لي الوحدة
ولك هذا الرفيف بكل الأجوبة
فأظن وأظن وأقبع في الظن
ويقبع بي الظن متحسراً
أي الأسئلة أولى
أي التذكر أعمق من نسياني
ولست الناسية انما النجوم
وقد رمت رأسي بأحجارها
ورمت أصابعي اشاراتها
أينا الاجدر بالرمي
أنت الكثيرة
أم أنا الواحدة؟!
وأتلصص علي وأبحث
في الوقت عن عطيتي
أدليت تلك الحبال
التي ينبذها الشاطئ بنفثه
للبحر يممت وجهي فيهرب
منسلاً مثل عاصفة آباءٍ مضوا
للنحر كل يومٍ اثر رب
وما أنا بالقارب وما أنت بالماء
لتجرفينني..
فقط أردّ التحية يا هذه الأحلام
تذوقيني!

5 / 11 / 2006


(رواية غربية) بوجه وجسد مشدودين على خلفية زمن الإغتيالات المروع في بيروت
 

دنى غالي
كوبنهاغن
عندما حل سامر أبو هواش ضيفا على بيت الأدب في كوبنهاغن وقرأ مقطعا صغيرا من عمل له، كان ما جاء في مداخلة لأحد الحاضرين من الدنماركيين هو (أن في أسلوب الكاتب تأثرا واضحا كما يظهر بالغرب). وبعيدا عن العودة إلى أصل الرواية ونشأتها، فهي ملاحظة تعكس جهل الاوروبي بالشعر والسرد العربيين الحديثين. رغم ذلك فنحن نجد أنفسنا أمام طريقة حديثة شابة في أسلوب رويها، تشد القارئ باختصارها الوقت وتوخيها الدقة من دون إضافات زائدة. صوت انساني يرشح بإيمانه بالمساواة الحقيقية كشف عنه أبو هواش في محاولته الجادة لفهم نوازع وهواجس الطرفين، وذلك عبر تناوله العلاقة الزوجية وعلاقة الحب في الوقت ذاته، وأيضا عبر حوار المرأة الواعي مع نفسها. رواية حديثة عصرية طازجة، تبدأ بألعاب كمبيوتر، العلاقة الزوجية الشابة الخالية من صدى طقطقة الصحون ورائحة البصل وصراخ الأطفال، في تناول الجنس، في التصدي لليقين والسروال الجي سترنغ والدردشة على الإنترنيت وأيضا في العام 2024!
زمن السرد في هذا الشأن على خلفية الإغتيالات المروعة التي مر بها لبنان قد يدعو القارئ للبحث عن انعكاسات ذلك على الشخوص، ومن الطبيعي أن يكون ما خاضه لبنان من حروب مادة خلفية تعمل بشكل لا إرادي في ذهن القارئ وتدفعه لأن يفكر في إيجاد ترميز وتحليل لخصوصيات وتفاصيل تلك العلاقات التي يود الكاتب من خلالها أن يقول بصيغة ما أنها أضحت شائكة ومعقدة. ولكن يمكن القول أن ليس بالضرورة أن نرد ذلك بأكمله إلى الظروف المحيطة ونتائج مرحلة مر بها بلد ما، بقدر ما هو نهج الشخصية الشابة التي طرأ تغير ملموس عليها في عقدنا هذا، ما يجعلها تناقش بجرأة أكبر طبيعة تداخل علاقات المجتمع ببعضها وعلاقة الفرد بمجتمعه وطرح الكثير من الأسئلة الوجودية بشكلها الآخر، غير التقليدي، وتحت إطار أشمل أقرب إلى أن يكون عالميا، من خلال تفاصيل اليومي المعيش والأخذ بالجوانب النفسية للفرد ودور الجنس وتعريفه. كل ذلك جمعه أبو هواش في مشهد سلس وصادق لم تثقله ظلال الحرب. و لعله حتى في اختياره للوالدة إشارة منه لرغبة في التغيير فاختار أن يجرد"حكمت" من كلمة ماما، وان يكون يوم الفالنتاين تاريخا لزفافها وأن تصطاف وتتظاهر وتزحزح حدودها، فكل شيء يجب أن يتغير ويتجدد.
التجريب وليس بدافع الطموح بالضرورة هو ثيمة مهمة في الرواية، عندما يأخذ الملل والضجر مأخذا في حياة الفرد وبسبب كل المحبطات و" الطفولة الخرائية" والأحلام العاجزة عن التحقق. ابتعد شبح الآباء والأمهات والعمات والخالات كسلطة. المشهد كان متحركا في غالبه، في سيارة او مقهى او نزهة خارج المدينة أو سفر خارج البلد، ضم الأصدقاء الشباب من الجنسين، في لقاءات ونقاشات مستمرة تخللها حشيش وكولا وويسكي، بإيقاع يود لو جاء أسرع كي لا نتمكن من اللحاق به. اللغة التي استخدمها أبو هواش حاول أيضا بعاميتها أن يبعد عنها شبهة الثقافة والمعرفة، أي ابعادها عن كل ما يمكن أن يصمها بوصمة اليقين. نجد شابات في بحث مسعور عن معنى وجودهن، في خوف الإستسلام للعلاقة التقليدية التي تلغي خصوصية الفرد. الشباب من الجيل التسعيني في تشكيكهم الساخر لما يحدث في ظل كل المتغيرات التي مرت بهم، في كشفهم" كذبة" المبادئ والسياسة والسعادة والحب.
ولا نستغرب أن تأتي تهمة التأثر بالغرب من قارئ عربي على السواء، لما طرح في الرواية من آراء، يظهر في بعضها شيء من تبن غير مباشر لمفاهيم هي غربية أم لا، لماذا؟ كونها مستمدة من صفات استقرار المجتمع الغربي ورفاهيته بالمقارنة، كون الإنسان تبقى له قيمته التي يجب أن تحترم. يمكن أيضا تعقبها في أبسط صورها كما ينشدها أبو هواش، طريقة حياة مستقلة، اقتصاد مستقر ببحبوحة عيش وبعض من وفرة من دون طوابير وسوق سوداء، بعض من مناخ منزلي مريح من غير شقاء بتوفير لقمة غداء وحلم بجهاز تلفزيون حديث، بعض من مدارس تعليم خاصة ولغات.
السمة الغربية في الفردية الواضحة، حتى في نهجها نبذ الحب باعتباره أداة قتل لكل" حركة انفصالية" يفكر بها أي من الطرفين للحفاظ على خصوصيته. عبر عنه الكاتب بشكل دقيق وامين ومثير للإعجاب في خلقه "جنان" ولعلها الشخصية المحورية في الرواية التي تمتلك صفات المرأة العصرية المبتغاة (في الخيال) الشابة المستقلة الحاصلة على تعليم عال. والتي تمتلك القرار. تعيش علاقة كاملة بوليد قبل قرار الزواج منه وهي التي تقرر طلاقه لتعيش لوحدها، ربما ليس بسبب فشل" وليد" وعطله عن العمل وعصبيته أو كآبته وليس بسبب الملل أو الضجر ولكن أزمة وجودها داخل هذا الإطار هي المؤرقة، إذ هي في تشكيك دائم لمعنى الحب والعلاقة العاطفية والسعادة والتملك، وربما أدخلت العلاقة الزوجية في حسابات الخسارة والربح، و كما فسرها وليد أثناء بحثه عن تبرير لها لطلبها الطلاق منه في" أنه من أعراض الزواج أن يظن أحد الزوجين انه خسر شيئا مهما وان الحياة تجري خارجه".
تبقى تداعيات العلاقة الزوجية مفضوحة سواء كانت العلاقة الزوجية تقليدية أم قائمة على خيار واع وحب بين اثنين، ولكنها غير تقليدية هنا عندما يصر الطرفان على طرح أوراقهما، لا لتأشير الخلل، بل الرغبة ثانية بتغيير القوانين المتعارف عليها، لا أسرار ولا لف و دوران مع النفس بل مواجهة أو محاولة متكررة للمواجهة من أجل فهم الإنسان لنفسه، سواء بخوف وتردد أم بجرأة وفي الحالتين فهي عملية يصاحبها ألم ولوعة، وليس من دون احتيال من الذات على الذات أحيانا، حينما يشعر الإنسان بهشاشته وضعفه لو انتهى وحيدا.
الغرب يظهر أيضا في مادية العلاقة، في المرأة" النيمف" ودردشتها في مواضيع الجنس، المرأة التي تنشد الإثارة والتجريب والغواية وتقليد"شارون ستون" في أحد أدوارها وإيقاعها شابا في ورطة، حد انها تبدو في سطحيتها نسخة نمطية فجة للمرأة الغربية.
ومن جانب آخر فالغرب يحضر في حجم الخوف من العمر المتخفي خلف الكلمات على لسان مختلف أبطالها. لا مكان لغير الشباب ولا حق في التمتع بالحياة لغير الشباب وهم يزيحون بحركتهم، بدعم من القوى المهيمنة في المجتمع، ما يعترضهم من أناس متقدمين في العمر من خارج الفئة المستهلكة الأكبر في المجتمع فلا يخدمون عجلة الإقتصاد بكل جوانبها.
جيل يرغب بالتشبث بشبابه رغم اكتشافه خذلانه نفسه، رغم انه الخائف المؤرق العاطل عن العمل المحبط، الذي يريد الحب ويستحي منه، يريد العائلة ويخشى الإستقرار، يهوى الرومانس ويتنكر له، يريد التغيير ولا يقوى على الفشل.
وقد لا تتعلق مناقشة النقطة الأخيرة مباشرة بالرواية بقدر الرغبة في مناقشة نقطة نبقى ندور حولها في الشرق، يُشك في أن الديمومة والتطور له سبب في جزء منها، وهي مناقشة الهدف الذي سبق وإن وصل إليه الآخرون في الغرب، وهم في طريقهم منذ زمن للبحث عن مفر إلى غيره، أو اكتشاف أهداف أخرى؛ - أننا ننحو منحى فرديا بوعي وسعي كي نصل المرحلة"الهدف"، بعد أن نطولها ننظر إلى ما حولنا، بدافع شعور ما، شعور بفقدنا لما هو أهم... ولكن ما هو؟ لا ندري. قد يكون الجانب الروحي، هو ما تناقص خزينه في دواخلنا أثناء تلك الرحلة! نروح عبثا نبحث عنه. لا نجده ولكننا نجعل منه دينا بعد أن كنا منهلا له.
"عيد العشاق" رواية شيقة ذات قيمة ابداعية ندرك في ختامها أن كاتبها ربما غير مسكون بهاجس التغيير بقدر ما يكون هاجس" يجب أن يحدث شيء" وكأن كل ما يحدث ويدور ليس كافيا ليهدئ من روعه، من قلقه، أليس هو الخوف من الحياة بعينها؟

(عيد العشاق) سامر أبو هواش، 189 ص. منشورات الجمل 2005

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة