المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

أصوات من المنفى قراءة في مرويات المنفى العربية عبد الرحمن منيف نموذجاً 3-4

د/محمد الشحات

الصورة تمثيل فردي أو جماعي، تدخل فيها –في وقت واحد- عناصر ثقافية وتأثيرية، موضوعية وذاتية، فلا يمكن لاي أجنبي (أو (آخر)) ان يرى بلدا من البلدان كما يريد اهله ان يراه، بمعنى ان العناصر التأثيرية تفوق العناصر الموضوعية، والتاريخ المقارن لما يسمى افكار ليس الا الطريق الذي تتبعه الاساطير:

(أن دراسة الصورة التي يكونها مؤلف عن بلد أجنبي، طبقا لتجربته الشخصية، وعلاقاته، امر مهم، حين يكون هذا الكاتب ممثلا حقيقا لبلاده، وعندما يكون قد مارس تأثيرا حقيقيا في أدب بلاده، والرأي العام فيها (..). وصورة بلد من البلدان، في أطار مجموع أدب ما، على مدى تطوره، غالبا ماتظهر تنوعا هو نتاج تطور البلد الذي نتناوله وتطور الملتقى في آن واحد، ولكي نرسمها يجب ان يكون لدينا احصاء بكافة العناصر الادبية التي تكونها، على ان نعطي لكل عنصر حقه من الاهمية).

والتفسير الاسطوري الذي يكمن في كل صورة يكشف لمن يتبناه عن اتجاهات ذات صبغة لا شعورية: فكيف يرى العربي الغربي؟ وكيف يرى الغربي العربي؟ ولم ينظر كل منهما الى الآخر على هذه الصورة او تلك؟ هذا النوع من الدراسات يمكن ان يساعد اي بلدين على القيام بنوع من التحليل النفسي القومي، حين يعرفان مصدر أحكامهما المسبقة المتبادلة معرفة أفضل، وبذلك بعرف كل منهما نفسه بصورة أفضل من ذي قبل، ويكون أكثر تسامحاً مع (الاخر) الذي كان يعتمد، أساسا، على ميول شبيهة لما عنده، هكذا، يفرض الادب المقارن على من يمارسونه موقفا من التعاطف والفهم بين بني البشر، مهما تباعدت الاقاليم، وامتدت حواجز الجغرافيا بتضاريسها ومناخاتها المتباينة، كما يفرض عليهم -أيضا- ليبرالية ثقافية لايمكن، دونها، محاولة انجاز عمل جماعي بين الشعوب. لذلك، لاتصبح دراسة الصورة في الرواية –من منظور الادب المقارن- وصفا تحليليا ومقارنة منهجية لظواهر أدبية تنتمي الى ثقافات وحضارات مختلفة فحسب، بل هي -فوق ذلك- تفسير تركيبي للظواهر الادبية المشتركة والمهاجرة بين اللغات او بين الثقافات المتعددة، بالتاريخ والنقد والفلسفة، بغرض فهم أفضل للأدب من حيث هو نتاج انساني، ومن حيث هو وظيفة نوعية للروح الانسانية، وبغرض فهم افضل لجوهر الانسان نفسه بعيدا عن حواجز المكان (الجغرافيا- البيئة) وتباينات الزمان (التاريخ-العصر) وفروقات الجنس (السلالة-العرق).

-3-

ان صورة المطارد الغريب والمنفي الذي تلاحقة (الكلاب) – بكل مايتحمل به دال (الكلاب) من دلالات استعارية وايماءات مجازية تنتقل به من حقل الحيوان المعروف الى حقل الانسان الخائن، المهادن، العميل،... الخ-صورة (متواترة) في كثير من روايات المنفى العربية، لكن جذورها –فيما يعتقد الباحث- تكمن في رواية نجيب محفوظ (اللص والكلاب) التي أرست دعائم هذه الاستعارة التمثيلية الكبرى في الادب العربي عامة والروائي بصفة خاصة، الامر الذي وصل الى درجة توغل مفردات هذه الصورة في (رواية السجن) أيضا لدى عبد الرحمن منيف، حيث يصبح العالم شرق المتوسط سجنا كبير تملؤه الكلاب التي تؤكد كوننا نعيش في أزمنة القمع وان واقعنا العربي لايزال يفتقر الى تمرد وعي المقموع على سلطة القمع بمؤسساته وتجلياته المنتشرة في ربوع الوطن العريض، كما يقول رجب اسماعيل (الراوي):

(سيطول الانتظار ايها المسافر، ستموت قبل ان تسمع الكلمات التي تنتظرها، شاطئ المتوسط الشرقي لايلد الا المسوخ والجراء، وانت تنتظر الخيول والسيوف! انتظر، سيظل الشاطئ يقذف كل يوم عشرات الجراء)، واولى هذه الوسائل لتعرية وجوه القمع الكشف المباشر عن عناصر تجربة السجن وعلاقاتها بواسطة سرد معلوماتي يواجه قمع التجربة بنوع من المعرفة التي تتحول الى قوة مضادة، تستعين بها الكتابة في فضح آليات القمع، و(ذلك في تصاعد يجاور بين تقنيات التسجيل في المستوى المهيمن على السرد وأساليب الكناية في البلاغة من حيث هي أساليب يراد بها لازم معناها مع جواز ارادة معناها، وتنتقل فيها الدلالة الى القارئ من الواقعة الفعلية الى المعنى او المغزي الذي يراد توصيله او تاكيده في وعي القارئ).

تتصل صورة (الكلاب) في مرويات المنفى، بتحليات عدة، ترسم كلها معالم وطن منفي، ممسوخ، وطن أشبه بسجن كبير كما يقول رواي عبد الرحمن منيف في أغلب رواياته، فـ(شاطئ المتوسط الشرقي لا يلد الا المسوخ والجراء.. وأنت تنتظر الخيل والسيوف) ولان راوي منيف يعيش في (عالم الكلاب) والنفي الابدي فانه يخلق -حتى على مستوى اللاوعي- صورة للخيول، بتداعياتها التي تنهل من عالم الفروسية وتوهج رغبة التحرر والخلاص والجموح: (فالافكار تتراكض في رأسه كانها الخيول الجامحة) (المنبت، ص:146)، أو: (تتراكض (..) مثل خيول مجنونة) (شرق المتوسط، ص:21) وعندما تموت الافكار بفعل برودة المنفى ووحشته تشعر الخيول بمشاعر الغربة والنفي ذاتها، وتغذو (عيونها كامدة مليئة بالحزن والعذاب) حتى تموت معلنة عن موت الرمز نفسه، فلا خلاص: (المنبت، ص ص: 236-239، 248، 258). وفي مقابل موت الخيول، تكون حياة الكلاب وتكاثرها الدائم (المنبت، ص:127) وفي مثل هذا العالم الموحش، تكون المدن مخذولة، خاسرة، (تشبه كلبا وضع ذيله بين رجليه) (الست ماري روز، ص:26)، حتى ان كلا من (طوني) المتعصب والاب الياس برمزيته الدينية الزائفة يصف الست ماري المناضلة بأنها (كلبة) يجب محوها والقضاء على أشباهها (ص ص:39، 83).

أما صورة الاشجار، بكل محمولاتها الدلالية التي تتحمل بها مرويات المنفى من جذور تتصل بالارض وثبات في وجه العواصف والرياح، فهي رمز للهوية والرسوخ وامتداد الجذور في عمق أعماق الارض، وأشجار الزيتون، بصفة خاصة، توغل في رسم معالم صورة (الهوية)، لأنها اشجار معمرة تقاوم أزمنة الشتات والتيه الابدي الذي اقتلع الفلسطينيين من اراضيهم وتركهم عرضة لرياح المنافي وغطرسة الاخر المحتل.

وفي مقابل تصريح بعض رواة المنفى او شخصياته بلفظ (الشجرة) أو صورة (الانسان/الشجرة) كما فعل جبرا في مرويته (البحث عن وليد مسعود)، يكني البعض الاخر عنها ويأتي باحدى لوازمها، فمريد البرغوثي، مثلا يسمي تجربة الشتات الاول تجربة (الاقتلاع الاولى) (رأيت رام الله، ص:157)، وراوي عبد الرحمن منيف يصف السلطان أبا مشعل في المنفى بانه (المنبت) (عنوان الرواية). وليس (الاقتلاع) أو (المنبت) الاكناية عن (الشجرة) التي غادرت تربتها / وطنها ووضعت في تربة أخرى (منفى). لذا، ليس غريبا ان تتواتر تشبيهات (الشجرة) او (النخلة) او (النخيل)، بصفة مباشرة، او بلوازمها اللفظية: فها هو السلطان بعد ان ادرك ابدية المنفى كانت يداه (ترتجفان مثل سعفة) (ص 241). أما رجب أسماعيل فقد زرعت له أمه شجرة بعد شهرين من سجنه الاول (ص:57) حتى تزرع بداخله حب الارض وعدم اليأس او الجزع، لكنه حين خرج بعد ان قدم تنازلاته وذكر اسماء رفقائه بالخارج، اقتلع الشجرة بنفسه اذ (تصورها عدوا) (ص:58) عندما أيقن ان السجن العربي كبير يكاد يشمل (شرق المتوسط) كله.

ان كتابة المنفى كتابة تتكئ على هذيان رواة منفيين تفيض ذاكراتهم بمشاهد شتى تجسد الام المنافي وعذابات الشتات، ولان (المنفى)- في جوهره- عقوبة لاتقل وطأة عن عقوبة (السجن)، بل تزيد في أغلب الاحوال، فان رواية (البحث عن وليد مسعود) بوصفها رواية منفى تعمل على سرد الذاكرة، مثلما تعمل ذاكرة الراوي رجب اسماعيل في رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) (1975) الذي خرج من سجنه داخل الوطن بعد مدة خمس سنوات قضاها وسط أجواء مشحونة بألوان من التعذيب والتشويه الجسدي والنفسي داخل (سجن) وكأنه (المنفى) او (وطن/منفى):

(لست متأكدا مما يجب ان أفعله، سأدرس الامر قبل ان أفعل اي شيء، لكن أتصور السكوت الان جريمة كبرى، جريمة يدفع ثمنها الناس المنفيون على شاطئ المتوسط الشرقي، بتقديري جميع الناس، ولكن أكثرهم السجناء السياسيون).

(شرق المتوسط، ص136)

وكلا النموذجين شكل من أشكال المقاومة بالكتابة التي هي تسجيل للقمع واحتجاج عليه، و(ذلك على نحو يمتزج معه التسجيل الذاتي بالتوثيق الموضوعي، ويكتسب السرد ملامح نوعية يتحول بها السارد الضحية الى شاهد على جلاديه، وتتحول الكتابة الى فعل جذري من أفعال الادانة).

وليست صورة مدينة (بادن بادن) في (المنبت) أو صورة (المنفى/الوطن) أو(الوطن/السجن الكبير) في (شرق المتوسط) أو (الاشجار واغتيال مرزوق) بعيدة بحال عن صور للمدن العربية الاخرى في مرويات المنفى التي تضرب بجذورها الى ماقبل العام السابع والستين، تلك المدن التي تحول أغلبها الى مناف او ملاجئ فيها ما فيها من التناقض والتعدد والتباين الكثير، الامر الذي يجمع بين مدينة (رام الله) عند مريد البرغوثي (رأيت رام الله) و (بونة) الجزائرية عند حيدر (وليمة لأعشاب البحر) وواسيني الاعرج (ذاكرة الماء) والمدينة (ن) الكوزموبوليتانية عند بهاء طاهر (الحب في المنفى) او المدينة اللبنانية عند إتيل عدنان (الست ماري روز) وحليم  بركات (عودة الطائر الى البحر) أو المدينة السورية عند حنا مينة (الثلج يأتي من النافذة) أو غيرها من المدن العربية التي تشاركها الظرف القمعي نفسه.

هكذا، تصبح الامم مرويات وسرديات يتناقلها البشر جيلا بعد جيل لحفظ (الهوية) ضد كل مايمارسه (الاخر) نحوها من ضغوط وممارسات امبريالية، حين يرغب في طمسها، بل وابادة كل من يدافع عنها او يعرب عن انتمائه اليها، وفي روايات المنفى العربية التي تفتقر الى درس من منظور نوعي Genre، ومن حيث هي مرويات مقاومة ومناهضة بالاساس، فان (ثمة استراتيجيات معقدة للهوية الثقافية والخطاب المنطقي الذي يعمل باسم (الشعب) و(الامة) ويجعلهما فاعلين مفعولين لكثرة من اشكال السرد الاجتماعي والادبي) فالاصرار على وصف الاماكن وصفا يتتبع دقائق تفصيلاتها، وسرد المرويات المتراكمة عبر الذاكرة الجمعية عنها، وتكرار رواة المنفى وشخصياته ذلك الفعل في مواضع متباينة من مروياتهم التي تتجلى في أساليب (أو انواع) ادبية عدة، سلوك يعكس مدى وعي هؤلاء الرواة- المؤلفين بمفهوم (الامة) او (الوطن) من حيث هي –او من حيث هو- هيئة من السرد المزدوج الذي يقبض على الثقافة في اكثر مو اقفها انتاجية، الثقافة بوصفها قوة من قوى الاحلال والابدال والتمزيق والانتشار واعادة الانتاج والخلق... الخ، فالامة مبدأ روحي، نتيجة لتعقيدات عريضة على مر التاريخ، انها (عائلة روحية) وليست مجموعة حددها شكل الارض. كما ان الامم ليست، فحسب، ذلك الجماع من المفاهيم الذي يلتف حول البشر، او يلتفون هم حوله، من (عنصر Race) أو (لغة) ، أو (دين) أو (جغرافيا)، أو حتى ضرورة عسكرية محض، انها كل ذلك، وفوق ذلك كله في الوقت ذاته.

 


الكينونة والسلطة: هيدغر وفوكو

هيوبرت ل.دريفوس

ترجمة: خالدة حامد

في صميم فكر هيدغر يكمن مفهوم (الكينونة) ، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن مفهوم (السلطة) في كتابات فوكو . تاريخ الكينونة يمنح هيدغر منظوراً يمكن الانطلاق منه لفهم الكيفية التي تحولت بها الأشياء في عالمنا الحديث إلى موضوعات . وبالضبط مثلما أن هيدغر يقدم تاريخ الكينونة الذي يتأوج في الفهم التكنولوجي للكينونة لغرض مساعدتنا على فهم وتجاوز طريقتنا الراهنة في التعامل مع الأشياء بوصفها موضوعات أو مصادر ، يحلل فوكو الكثير من نظم السلطة التي تتأوج في السلطة البايولوجية الحديثة لغرض مساعدتنا على تحرير أنفسنا من فهم أنفسنا بصفة ذوات .

توحي مثل هذه التوازيات العامة باحتمال وضوح رؤية المدى الذي يمكن فيه دفع مقارنة (كينونة) هيدغر بـ(سلطة) فوكو . فهل يشير هذان المصطلحان إلى وظيفتين متماثلتين ؟ وهل أن حقب هيدغر في تاريخ الكينونة تضاهي نظم فوكو في جينالوجيا السلطة ؟ وإلى أي حد يقود فيه هذان التأويلان لتاريخنا هذين المفكرين إلى نقد شرطنا الثقافي الراهن بطرق متشابهة ؟ ما الخطر الذي يراه كل واحد منهما ؟ كيف يعمد كل واحد منهما إلى التحريض على المقاومة ؟ وعلينا أن نتساءل ، قطعاً ، عمّا إذا كان هذان المفكران يختلفان في أية طرق مهمة .

بدءاً أقول أن دعم هيدغر للاشتراكية القومية وتوصيته لاحقاً بالسلبية السياسية تبدو معارضة تماماً لتركيز فوكو على الحرية الاجتماعية والفاعلية السياسية . ويتضح أن هيدغر متحفظ بعض الشيء ويبدو فوكو عند اليسار بوضوح . ولئلا يساء فهم الفرق المذهل بين هيدغر وفوكو فيما يخص المواقف السياسية ، علينا أن نتذكر تعليق فوكو على هيدغر في آخر مقابلة له :

بالنسبة لي ، كان هيدغر الفيلسوف الأساس دائماً … فتطوري الفلسفي بأكمله متحدد بقراءتي لهيدغر.

إن هذا التعليق الأخير الذي صدر عن فوكو قبل أن يقتنصه الموت وتركه ليقول الحقيقة حتى في باريس يجبرنا على أن نتساءل عن الكيفية التي تمكن بها فوكو ـ على الرغم من روحه السياسية المختلفة راديكالياً عن هيدغر ـ من التصريح ، وبطريقة مهمة ، بأنه يتبع هيدغر؟

من المهم أن ندرك أن الكينونة عند هيدغر ليست جوهراً أو سيرورة ، بل هي ، وكما ورد في كتاباته الأولى ، (الأساس الذي عليه يتم فهم الكينونات). ويمكن للمرء القول أن فهم الكينونة هو أسلوب الحياة المتجلي بالطريقة التي يتم بها تنسيق الممارسات اليومية. ففهم الثقافة للكينونة يتيح للناس وللأشياء بالظهور بصفة شيء ما ـ يظهر الناس بصفة أبطال في اليونان وبصفة أولياء صالحين في العصور الوسطى ، مثلاً ، في حين أن الأشياء كانت عند يونانييّ هوميروس تتبدى بطريقة تستحق الإعجاب ، وتتبدى عند المسيحيين بصفة مخلوقات لابد من إتقانها وتأويلها.

وعموماً ، فإن الممارسات المشتركة التي نتكيف معها تزودنا بفهم ضروري لما يفسر الأشياء ، ولما يفسر الأشياء الكائنات البشرية ، وما الذي يعطي فعل ما معناه ، وعلى أساس ذلك نتمكن من توجيه أفعالنا نحو أشياء معينة وأناس معينين . ولهذا يُولِّد فهم الكينونة ما يطلق عليه هيدغر تسمية (التوضيح) (Lichtung). وهو يرى أن تاريخ الكينونة في الغرب كان تاريخاً لسوء فهم (التوضيح). فمنذ أفلاطون فصاعداً ، شعر الفلاسفة بأن ثمة شيء يكمن ما وراء الكينونات الاعتيادية هو المسؤول عن وجودها بصفة شيء ما ، ولما كان التوضيح يبقى دائماً في الخلفية ـ أو ينسحب ، مثلما يقول هيدغر ـ فقد عمد الفلاسفة إلى استبداله بالكينونة الأسمى التي هي أساس الكينونات ومصدر لفهمها . ويرى أفلاطون أن هذه الكينونة الأسمى هي الخير ، وهي الناقل اللامنتقل عند أرسطو ، والرب عند المسيحيين لتصير الإنسان نفسه في عصر ما بعد الأنوار . يستدعي هيدغر هذه المحاولات كلها ليحل (كينونة الكينونات) ، أو اللاهوت الوجودي ، أو الميتافيزيقا محل التوضيح .

أما فوكو فيرى أن السلطة عانت من سوء فهم مماثل . ونجد ، عموماً ، أن من الممكن فهم الكثير من تعليقات فوكو الصعبة التي تتعلق بالسلطة إذا أدركنا أنه معني بالتوضيح الاجتماعي الذي يركز على الطريقة التي تتناسق بها ممارسات الأفراد والجماعات اليومية لتنتج وتديم وتعين ما يفكر به الناس وما يفعلونه وما يكونونه . و(سلطة) فوكو ، مثل (كينونة) هيدغر ، ليست كياناً أو مؤسسة ثابتة بل متجسد في الممارسات الاجتماعية التاريخية .فهو يقول (يحتاج المرء لأن يكون محدداً ، فالسلطة ليست مؤسسة ولا بنية ، ولا هي قوة معينة نحن موهوبون بها ، إنها الاسم الذي يعزوه المرء إلى موقف استراتيجيي معقد في مجتمع معين). ينشأ هذا الموقف الستراتيجي عن أفراد وجماعات معينة تعارض أحدها الآخر . وتؤدي هذه الأفعال ، التي يتم اتخاذها معاً ، إلى تدشين فضاء اجتماعي يتم فيه تعريف الناس والأشياء والحقيقة . والسلطة ـ مثل التوضيح ـ منتجة جداً، إذ يخبرنا فوكو قائلاً : السلطة تنتج إنها تنتج الحقيقة (أي أنها تحدد معنى الاعتقاد والعمل. ويرى أن السلطة، عكس العنف، تسيطر على الأفعال مع أنها تتركها حرة برغم ذلك :

السلطة لا تمارسها سوى الذوات الحرة ولا يتم لهم ذلك إلا بقدر ما كانوا أحراراً . وأعني بذلك الذوات الفردية أو الجماعية التي يواجهها حقل إمكانات يتوفر على العديد من الاحتمالات السلوكية والعديد من ردود الأفعال والتناقضات.

وهو مثل هيدغر ، يتحدث عن هذه الطريقة اللاعنيفة في توجيه الفعل بصفة حُكم:

السلطة بالدرجة الأساس مواجهة بين خصمين ، أو هي آصرة بين أحدهما الآخر لاقضية حُكُم … أن تحكم، ضمن هذا المعنى ، يني أن تبني حقل الفعل الممكن للآخرين.

وإذا أردنا أن نعيد صياغة عبارات هيدغر فإن السلطة هي الأساس الذي بناءً عليه يتمكن البشر من فهم أحدهم الآخر . ولأن فوكو غير معنيّ بالكيفية التي تتبدى بها الأشياء ، بل يقصر اهتمامه على الناس ، لذا فإن السلطة التي تُستعمل عادة في وصف الطريقة التي تتحكم بها الحكومات بأفعال الناس تبدو هنا اسماً ملائماً ـ إن لم نقل مضلِلاً ـ لما يسيطر على طريقة فهم الناس لأنفسهم وللآخرين . وينبغي أن يكون معلوماً أن نوعاً ما من السلطة ضمن هذا المعنى الانطولوجي هو ضروري لأي مجتمع بقدر ضرورة وجود فهم معين لكينونته . بل يمكن لنا أن نعيد ما قاله فوكو من أن (مجتمعاً بلا علاقات سلطة لا يمكن أن يكون إلا وهماً).

 


مدخل لمعاينة تاريخ السلطة الإسلامية

مهدي النجار

إن الشعوب العربية الإسلامية، نتيجة ازماتها وفقرها وقهرها وانتكاساتها لم تعد تستطيع فتح صدرها أكثر مما ينبغي لهيمنة السلطة السلالية الكلية (الاستبدادية الشمولية) فباتت تتطلع إلى تغييرات حاسمة في جوهر السلطة ونوعيتها، سواء أخذ هذا التطلع منحى ديمقراطياً من قبل التيارات المعتدلة والوسطية والعقلانية أم منحى كراهياً وعنفياً كما هو في تطلعات التيارات الاحيائية المتطرفة، محصلة هذه التطلعات تستدعي الغاء الفهم التقليدي العليل لتاريخ السلطة الإسلامية وفحصها بأنظمة فكرية حديثة وآليات فهم جديدة غير تلك التي كانت تستخدم في أنظمة سرديات العصور الوسطى، لكن المنغمسين كلياً في يقينياتهم يلغون التاريخ ويلغون امكانية حصول اشياء جديدة.

إن تأسيس السلطة الاسلامية يرجع بداية إلى ما قبل نشوء الدعوة الاسلامية فقد قدمها لنا التاريخ بشكلها البدائي على هيئة قبيلة تتركز في المدن التجارية والربوية (مثل مكة) وبحثاً عن الجذر الاجتماعي لهذه الهيئة ودورها البدائي كالة تسلط نجده في التمايز داخل الهيئة القبلية الواحدة من جهة وبين قبيلة وأخرى من جهة ثانية، فكان مثلاً اسياد قريش يتعاضدون في حلفهم "لعقة الدم) فإذا كان هذا الحلف يخضع في تأسيسه لرابطة الدم القبلية فإنه في نهاية المطاف يعبر تعبيراً واضحاً عن تطلعات المتنفذين اقتصادياً داخل الهيئة القبلية القريشية، صاحبة الجاه والنفوذ الواسع، مقابل هذا الحلف وبالتضاد معه تشكل تجمع حلف "الفضول" وكانت اهدافه كما يخبرنا ابن هشام في سيرته: "على ان لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته" ابن هشام "السيرة" ج1 هذا التضاد داخل القبيلة الواحدة، حلق "لعقة الدم" من جهة وحلف "الفضول" من جهة ثانية غالباً ما يطمس داخل القبيلة لصالح التناحرات القبلية فالتسيد القريشي على المنطقة هيأها لأن تكون نموذج سلطة بسببين، أحدهما موقعها في النشاط الاقتصادي (الربوي والتجاري) كعصب اساس لهذا النشاط ومركز لتراكم المال أما السبب الثاني فهو نفوذها الروحي وإشرافها على الوظائف الدينية بجانب ضخامة عددها السكاني بين القبائل العربية. إن الملاحظ في ترتيب هذه الهيئة القبلية هو هرميتها المشيخية، أي ان شيخ القبيلة يكون فيها قمة الترتيب السيادي حيث يتم اختياره على اساس السن والامكانيات المالية اضافة إلى المواصفات الأخرى كالشجاعة ودرجة القرابة الدموية والكرم والحكمة إلا ان السعة المالية تلعب دوراً مهماً في هذا الاختيار كما حدث مثلاً في تفرد عمرو بن عبد مناف (هاشم) بالزعامة وهو التاجر القريشي الكبير الذي نشط رأسماله في رحلتي قريش المشهورتين (الصيفية والشتوية) ومن هذا التفرد بالذات حدث الخلاف بين بني أمية وبني هاشم الذي سيأخذ في الفترات التالية شكللاً مأساوياً من الصراعات الدينية والسياسية إن ما يبعدنا عن تلمس أي شكل تقليدي للدولة في هذا النمط البدائي للسلطة هو اعتماد الهيئة القبلية على افرادها المتصلين بعضهم ببعض بروابط دم القرابة (العصبية) وهم يشكلون دعامة السيادة الاساسية.

ماذا يمكننا ان نعاين بعد نشوء الدعوة الإسلامية بهذا الصدد؟ هل تم نقض السلطة التقليدية.

وتأسيس سلطة جديدة، بمعنى آخر هل تم كسر السلطة التقليدية وتحطيمها؟!

إن الإسلام الذي انبثق من داخل هذا المجتمع القبلي المتماسك، المغلق استطاع ان ينقل السلطة نقلة نوعية جديدة وتاريخية ويؤسس لنموذج غير معروف سابقاً، نموذج ظهر فيه التوازن الاجتماعي وانزاح نسبياً التشكيل القبلي التقليدي ونلمس في هذا النموذج وبصورة واضحة الشراكة الجماعية لمختلف الاجناس البشرية في قيادة السلطة وهم ينتظمون بأخاء فريد تحت راية الدين الجديد وتحت شعار "المؤمنون أخوة" سيكون الناس داخل هذه السلطة الشعبية متآخين على اساس التقوى، وما برحت السلطة تطالب اعضاء المجتمع بانصاف احدهم الآخر، وحماية الفقراء وايقاف تعاظم الاستغلال والتراكم المالي "التكنيز" والمساواة بين الناس كأسنان المشط، والالتزام بتشريعات ووصايا الله والامتثال بسيرة وأخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وآله.

إن اهم الاسباب التي تمنعنا من اعتبار السلطة في صدر الإسلام قد أخذت شكل دولة تقليدية هو غياب مؤسستين اساسيتين في تشكيلتها هما: الدواوينيه والجيش الدائم. لم تكن هاتان المؤسستان متمايزتني بوضوح فلم يزل تنظيم السلطة وحمايتها وكذلك نشاطات الفتح الاسلامي، كل ذلك يتم عن طريق الجيوش القبائلية، المعبأة دينياً وغير الدائمة، لم تنشأ الأطر العسكرية لحد الآن بمفهومها الانضباطي الدائم، كانت الجيوش تسرح بعد الغزو أو المعارك الداخلية، تمنح الرواتب بعد التحصيل الحربي (الغنائم) قائد الجيش هو شيخ العشيرة أو من شجعانها وليس قائداً عسكرياً (موظفاً)، لم تكن ثمة هيكلية مدنية أو عسكرية في جهاز السلطة مفصولة عن الجهاز الديني، إلا إن ذلك لا يمنع من القول، ابتداء الفترة النبوية (أي بعد وفاة صاحب الدعوة) بدأت نواة الدولة بالبروز، إن هذه النواة ستأخذ شكلها الناضج والواضح في فترة عبد الملك بن مروان (72 - 86 هجرية) هذه الفترة ستشهد فيها الدولة الإسلامية لأول مرة تأسيساً منتظماً لمؤسستيها الاساسيتين: الدواوينية والجيش الدائم، وستضع نفسها فوق المجتمع وتبدأ بالأنفصال عنه أكثر فاكثر، وستنشغل كلياً بالغنائم واحتكار العنف المشرعن، ففي خطاب نادر لأحد الامراء العسكريين إلى جيوشه يقول متذمراً من الخليفة: (وإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الاعداء البغضاء) تاريخ الامم، الطبري AZ وستظل السلطة تموه الناس بأحقيتها الإلهية واصطفائها الرباني، لذا من هنا على الوعي الاسلامي ان ينتبه في قراءة التاريخ، من لحظة تماهي الدين في الدولة أو اختطاف الدولة للدين وانفصاله عن مهامه الالهية وانضباطه الاخلاقي وبعده الروحي الخلاق.

 


 

  ذكرى...... اين نضع الذكرى

عمر الشاهر

تمر هذه الايام علينا الذكرى الاولى لرحيل المطربة ذكرى التي لم يسعفها الوقت كي تقول كل مالديها في عالم الغناء .... وكان فعلا بودي ان اسمي كلمتي هذه ( ذكرى ذكرى ) لكن امكانية التلقي السيئة هي التي حولتني عن وجهة نظري التي اجدها ضرورية رغم تبدل الضروريات في ايامنا هذه ، ولعلني بموقفي هذا اطرح تساؤلا ارهق مخيلتي ... اين نضع ذكرى رحيل في الذاكرة المثقوبة للفن العربي ؟ واقول المثقوبة لان النقودات ماانفكت توجه الى هذه الذاكرة عبر كل ماهو متألق ، ولعل الابرز منه هو كاظم الساهر الذي وصف عربيا بالمؤدي رغم تربعه على عرش الغناء العربي عالميا ، قد اجهدت كل شيء عربي .

وانا اذكر ذكرى بالخير اود ان اسفه الراي الذي صور رحيلها وكأنه حادث عرضي قد يحدث في اي  مكان، وذلك من خلال ادعاء وجود مادة مخدرة في دم الجاني حفزته لاقتراف هذه الجريمة. وكأن ذكرى لم تكن الا مكملا مثل بعض المكملات التي امتلأت بها الارض ..... حتى صورت وكأنها خائنة وقد آن الاوان لان تنال مصيرها، وتناسى هذا الرأي كل شيء قدمته ذكرى ، وقدمها على انها منحرفة ليس الا ، ونسي ان مثيلاتها ( من حملة لقب مطربة ) وصلن بغنائهن حتى تخوم الخلاعة . ونسي هذا الرأي ان ما من موسيقار في العالم اجمع كان بامكانه ان يفصل بين صوت ذكرى وبين اية الة موسيقية اثناء غنائها .

انا اتساءل اليوم هل يعد رحيل ذكرى كأي حادث عرضي من الممكن ان يحصل لاي مبدع عربي ..... انا شخصيا اجد ان اغتيال ذكرى ، التي احتفظ لها بوصف خاص قد اتطرق اليه فيما بعد ، اعتبره حلقة اخرى في سلسلة الاغتيالات التي وجهت الذاكرة الفنية العربية والتي ابتدأت باغتيال صوت ذكرى مرورا بتهميش اصاب الكثير من المبدعين العرب.

اقول ذكرى لانها فعلا احدى ذكريات الهيمنة النسوية الراحلة على ساحة الغناء العربي ، والتي بدأت بام كلثوم واستمرت مع نجاة الصغيرة و فايزة احمد وميادة الحناوي وغيرهن من سيدات اللحن العربي  وتكاد ترحل مع ذكرى.

بعد كل الذي قلته انا لا ادعو الى شيء سوى الى وضع حادثة اغتيال صوت ذكرى ضمن سياقها العام ، كمحاولة من محاولات قمع الابداع العربي ، الذي بدأ من اعتبار العقل العربي نمطا مغايرا من العقول وصولا الى محاولات التهميش التي اصابت عددا كبيرا من المثقفين وصولا الى رحيل ذكرى وياله من رحيل .

وان كانت مراكز صنع القرار  قد حاولت ان تعوضنا عن ضياع القدس بتكريم الشعراء فبم تعوض تسوق اغتيال صوت ذكرى على انه حادثة عرضية لا تستحق الوقوف ولا الذكر .

لا اود ان اكون متشائما .... لكنني لااملك من اسلحة التفاؤل غير صوت صابر الرباعي ووائل جسار وشيرين من الذين لم تمتد الى اليوم يد الوضع والتقييم اليهم ... ولعلهم الى اليوم لم يصلوا إلى النضج الذي وصلته ذكرى مما أسرع بنحبها .... ندعو لكل الأحياء .. وتحية لذكرى اخرى راحلة.


نص : الرؤى والأمكنة النقيض الأمثل للعزلة .. مقهى الصفـاء

زيد الشهيد

المقهى : هذا التواجد المكاني المتماهي مع تواليات البناء الزمني يشكل كينونة تحمل مبررات وجودها وصيرورتها المطلوبة... حالة استّدعتها طبيعة ٌ غريزية تحكِّم أسلوب البشر في العيش.  الحياة تجمّع؛ والإنفراد المستّل من تصرف الانعزال يُنظر إليه على أنّه جمود شاذ.. التجمّع يتطلّبهُ المكان / تستحثُّهُ لحظة اللقاء.

يلتقي الآخرون / يتحاورون بمفردات التواصل اليومي.. الالتقاء وقوفاً أولاً ، وعلى أرض لا يحددّها القصد بل الرغبة مرّةً والضرورة مراّت .ثم تتوالى اللقاءات تترى .. التوالي ولّدَ حاجةَ تقديم خدمات، فإذا الكيان الناشىء مقهى ؛ وإذا اللقاء العابر يطول؛ وإذا الودّ يتمترس والرغبة تتفاقم ؛ وإذا النهارات أو الليليات قصائد متوالية وأفواه تبعث الترانيم ؛ وإذا المقهى لافتة تُعلن عن نجاح تجربة الألفة على حساب صدمة الذاتية رديفة النرجسية / الوجه الآخر للتعالي .

                                            ×    ×   ×

قد نرى إلى" عكاظ" مقهى برؤية الآن ؛ والشعراء - مثلما المستمعون - روّاداً .

هنـا : يرتشفون الشاي والقهوة الداكنة ، والمرطّبات الباردة .

هناك :  يعبّونَ الشعرَ صوراً ومفردات ، وتبارياً .

هنا : يدخلونَ سجال الأحاديث اليومية التفصيلية ، ويفتضّون بكارة اللحظة وصولاً لزئبقية المتعة المرتجاة.

هناك : يعرضون فخاراً بفخامةٍ نارية تُذيب قارات الثلج وتمسك بلؤلؤةِ الرجاءات الواهمة :

       ونشربُ إنْ ورِدنا الماءَ صفواً         ويشربُ غيرنُا كدراً وطينا

وقد يعرضون الحال حنيناً إلى الماضي / بكاءً على الأطلال:

      وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيّهم         يقولون : لاتهلكْ أسىً وتجلَّدِ

أو يعتلون صهوة الكلمات إدراكا لاكتمال التوصيف / تطهُراً في خمرة الغزل الشفيف :

          نواعِمُ لا تُعالجَ بؤسَ عيشٍ           أوانِسُ لا تروحُ ولا ترودُ

        يرِحنَ معاً بِطاءَ المشيِّ بُدَّاً           عليهُنَّ المجاسِدُ والبــرودُ

الإثنان : هنا / هناك - مع اختلاف الزمن - يشكّلان مقهى يعرف اللقاء ؛ إذ المقهى لم يكن تعريفاً مفرداتياً آنذاك فتمثّلت وجوداً ناجزاً هاهيَ ذا .

                                     ×     ×      ×

تتفاوت المقاهي إنجاداً وتتباين في أداء الخدمات .. لا تتساوى إلاّ في كونها ملاذات يُلتجأ لفضاءاتها خيمة اجتماعية لا تثير الريبة ، باعدة عن العسس فكرة التجمّع  الرمادي الشَكوك .

في أزمنة الرفاه أو الكساد تُقاس حيوية المجتمع من إحصاء مقاهيه . فكلّما ازدادت المقاهي وانتشرت أفشى الأمر بالانحطاط وموت الفرص . وإنْ نهضَ الوجود البشري صوب البناء والإنجاز ضمر أُخطبوط المقاهي وانكمشت أذرعهُ .

قد ينحاز المقهى لزمرة من الرواد تلمّهم وشيجة جماعيّة أو همٌّ نقابي يتطلّبه الأمر فنبصر مقهى للبنّائين والعتّالين ، وسائقي المركبات / مقهى للعجزة كبار السن يمارسون في أبجديّتها وأدَ الوقت / مقهى للترفيه عبر ألعاب" الدومينو" و"الشطرنج" ، وقد تتعدّاه إلى" البليارد" و" البنك بونك " / مقهى للكتّاب والمثقّفين والذين يتشبّهونَ بهم / مقهى بمثابة محطة يُريحُ المُتعّبُ فيه ساقيه ثم ينهض ليودّعها بلا وداع .

*في ( السماوة ) مدينتي الفراتية اعتدتُ الجلوس في مقهى" السيد ياسر" .. الجُلاّس هنالك ليسوا حكّائين؛ والحوار الطويل المُفترَض، المبني على أحاديث تستدعي النقاش لا وجودَ لإنفاسهِ في المكان . فقط السلام وردُّ السلام.-تحية الدخول والخروج ليس إلاّ- . الوقتُ المسروق من هفوة الحياة يمنحونه للأراجيل .. الأرجيلة في المقهى المذكور سيّدةُ الحوار . والدخان المتعالي صعوداً للسقف هو النتاج المتَّبع لمضمون المقهى... الجُلاّس يتحاورون بقرقرة الأراجيل بينما الأذهان طائرة والعيون راحلة في خضم الأفكار... عاملُ المقهى - مُعِدُّ الأراجيل - هو الوسيط الأمثل الذي يدرك كنهَ دورٍ يؤدّيه هذا الاختراع السحري مثلما يدرك اهتمامات القيامات الآدمية التي تشغل حيوز المقهى جلوساً على الأرائك .

*في ( عمّان) رأيتُ المقهى يتّخذ مكاناً يضمُّ روّاداً - جلّهم من وطني - يرتدون معاطف الاغتراب . أحاديثهم شؤون الوطن والأسئلة المتناسلة عن الأهل: ما حلَّ بهم ؟ .. ما جرى ؛ وماذا يجري؟ ... رأيتهم يتحدّثون بلغة الذكرى والأعشاش التي خلّفوها ورحلوا.. آهاتهم واللّوعات  يترجمها دخان سجائرهم / أصابعهم الناحلة ، المرتعشة تُفتّت بعصبيّةٍ فاضحة أعقاب السجائر في جوف المنافض . الحلمُ بعرفهم تكلَّسَ. ومسارب الآمال غدت مومياءات ومعابر للمنفيين باتجاه منابت الضياع... ثمّةَ الوجوه مرايا ؛ والغضون شروخ تؤثث للأعوام زينتها الرثائيّة .تضاريس الروح تحكي وعود" انتراكتيكا" الغاطسة أسفل وحول الوهم .

*في (صنعاء) وجدتُ "المَقيل" يأخذُ شكلَ مقهى ، والمنتشين بلذاذات ورق القات روّاداً.. وجدتُ أعلامَ الثقافة يوظِّفون "ديوانيّاتهم" للجلسات الثقافية إذْ مقيل الشاعر عبد العزيز المقالح ندوة أدبية مفتوحة . الشعراء يقرأون ما كتبوا ؛ والنقاد يعرضون ما استنتجوا .كذلك مقيل الروائي زيد مطيع دمّاج تدور فيه الحوارات / تتساجل؛ والمعارك الأدبيّة التي تندلع في الصحف تتسرب إلى فضاء المقيل لتنفتح بمقاتلين جُدد .. وأيضاً أيضاً ا تحاد أدباء صنعاء في "هايل" تقمّصَ مقهى واستحالَ مقيلاً ..لا يعتلي الشعرُ ظهر القص . ولا يتبارى الأخير لإلغاء الأول ، وليس النقدُ منحازاً لجنسٍ على آخر .

×     ×      ×

مقهى" الصفاء " حديقة مُجتزأة / روض مُختصَر مُشتق من تأثيثات فندق . هندسة مُشجّرة لتضاريس اللقاءات .[ لقاءات تتم لويحظات الأصيل تواصلاً مع سويعات المساء / زمن لا يبلغ حدَّ انتصاف جسد الليل.] .. نافورة حسيرة تتوسط مستطيل المقهى الأخضر بمثابة اختزال حياة وثّابة تحتضن أشنات خضر دكينة تفتقد الماء الراعف ( هل تقصّدَ أولياء امور الحديقة ذلك ؟ ) .

عندما تخلِّف البحر وتقتفي أثر الطريق صعوداً - مجانباً الفندق الكبير - باتجاه المقهى يحتويك الباب الخشبي / القوسي / الموارَب، ويدخلك لتواجه سلّماً صغيراً ينتهي ببابٍ صاجي مزجّج تنده بك محتويات ما وراءه .[ والذي وراءه صالة تفضي إلى حضن المقهى الشتوي حيث الروّاد محبّو الجلسات المدينية..  التلفاز يعلو على رفّ فوق الرؤوس يعرض فحوى القنوات الفضائية / المناضد الناصعة بالشراشف البيض ومنافض السجائر الزجاجية / المعرض الأمامي تقف وراءه الساقية - ثلاثينية خمرية البشرة كأنها أُخرجت من نبيذ أحمر معتّق للتو، طويلة القوام بامتلاء خجول - محضِّرة العصائر ، معدِّة القهوة العربية / شلالات النور تنسكب من مصابيح متزاحمة ، من ثريّات سقفية وأخرى تتكىء على الجدران تسفح ضوءاً برّاقاً تستقبله الأقداح الزجاجية المنتصبة على أرضية قاعدة المعرض الأمامية فتبثّهُ حزماً تهاجم عيون الرواد باسترخاء مُفضَّل . ] .الإنحراف يساراً يعني الدخول من منفذ خفيض وطئتهُ كثافة الزروع الهاطلة من أعلى القوس.

وهنا ...

وهنا قطع تمسك الأجواء المّفترضة / الفناءات المطلوبة ، المستحبّة ... وجوه تستقبل ومناضد تنتظر؛ ونافورة تحثُّ على الاقتراب . لحظات غسقية ترتدي نسمات البحر الفتيّة .

النافــورة مُضــاءة ...مصابيح تبوح بلونٍ حليبي / اشراقي تمتصه شجيرات " الشبّو " و" الأكاسيا " الكثيفة الصانعة سوراً يفصلنا عن أعين المارّة في الشارع.. المناضد بيض تجاورها الكراسي المحيطة بذات الارتداء اللوني .. وجوه تلتقي شوقاُ وعيون تفضي تحايا المودّة ممتزجة بارتعاشات الشفاه .. ارواح مفعمة بالثراء الإبداعي.[ التلاقي في هكذا مقاهٍ - في عواصمَ أخرى غير طرابلس - لا تكتمل الجلسات إلاّ بانتصاب قناني النبيذ والبيرة الذهبية ، والعرق المستحلّب . ولا يهنأ الجُلاّس بغير صحون تملأها مقبّلات الأّنس ؛ لكنّ أكواب القهوة العربية وعلب المشروبات الغازية -هنا- كافية لإضفاء الحميمية وبث عطر البهاء الشذي في نفوس الزبائن ، وفوق أرفف الهواء . ]..

هنـا يلتقي الحالمون ..

يتقارب المتحلِّقون ..

يتجالس الموتى من المبدعين على ألسنة الأحياء الخلاّقين . تمتزج أسماء أديث ستويل، وليم وردزورث، المتنبي، الطيب صالح، مانيه، نجيب محفوظ، جورج أورويل، سعدي يوسف، أدونيس، أحمد إبراهيم الفقيه، إيتالو كالفينو، الجواهري، جاك بريفير، رامبرانت،  السيّاب، أحمد شوقي، غوغول، جوته، خوان رولفو، مفتاح العماري، دالي، جمال الغيطاني، أحلام مستغانمي، (احدّثهم عن محمد خضير ولطفية الدليمي وقصي الخفاجي وحسن النوّاب وجحفل من المبدعين الرازحين تحت غيمة التعتيم في جزيرة منفية اسمها العراق )، ديلاكروا، ميلان كونديرا، سيلانبا.. مقاربات تتطلب السعة ، تجتاز المنضدة الواحدة.

ينهض المقرَّبون فتتحد المناضد ويحتشد السجال .

تتشائم النادلة المغربية ( سيضيع عليها الحساب..) .

يتفاقم الحوار.. النقاش يعلو.. تبتسم النادلة هذه المرّة. تدنو؛ وفي أذني تهمس :

- ما لكم والآخرون؟‍

- ضربٌ من الهلوسة .. احسبيه هكذا.

ترتد بابتسامة أعرض ، وبصفيف أسنان من بَرَد،  مع قدْحِ حدقتين من برق . ثم تُنتج ضحكةً لوجه خلاسي مشاكس.

في إحدى لقاءات التعارف في المقهى ألتقي الروائي أحمد إبراهيم الفقيه فيخبرني استقباله ببشاشة تلغي صرامة تحملها صورهُ المنتشرة على صفحات الصحف والمجلات، أو تلك التي احتوتها الأغلفة الخلفية لمدوناته الروائية والقصصية... وتجمعني المصادفة بالقاص كامل المقهور فأكتشفُ فيه خالقاً ، تواضعه الثر يسبق بناءه المعماري القصصي الشهير . ألفيه منشغلاً، غارقاً في قضية إثبات براءة متّهمي" لوكربي"، الوطنيين الليبيين كمحامِ دفاع ؛ لكنّه لا ينسى كونه مبدعاً كتبت له ريادة الهم ّ الواقعي في مسار القص الليبي .يدعوني لزيارة مكتبهِ فأعده بامتنان . بيدّ أنَّ الزيارة لم تتم لأنَّ شخوص (الأمس المشنوق) سرقوني من لقائهِ بأنانيّة مفرطة وقيّدوني حبيساً طوال تواجدي في طرابلس .. وهكذا بقي حنيني للجلوس معه أملاً ؛ ولو في مقهى .

                             ×       ×       ×

الاحتفاء باللحظة مؤرخةُ اللقاء ومهندسة المعرفة ؛ منها يستقي المبدعون مواقفَ حاضرة تيمناً بإبداع قادم .

هي المقهى إذاً .. بؤرة المكان وباعثة عطر المودّة .

منشور صارخ بالحميميّة ..

لافتة باعثة على الخلق المؤَجـل ، وتعانقات الرؤى .

وجود يلغي التلاشي ويهزأ من الفراغ .

يرفض حوارية الموت بإصرار مكين على الخلود.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة