المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الادباء يتحدثون عن العمليات الارهابية: ما يحدث من قتل لاعلاقة له بالمقاومة - عمليات إرهابية يندى لها الجبين

 

استطلاع عبد اللطيف الراشد

طرحت المدى (الثقافي) سؤالاً على مجموعة من الأدباء والمثقفين حول ما يحصل الان من مذابح ومجازر دموية يدفع ثمنها الابرياء من العراقيين والادعاء بانها عمل جهادي، او ما يسمى بالمقاومة، تحدث مجموعة من المثقفين عن الموت الذي يحصد ارواح العشرات كل يوم، فتحدث الشاعر والكاتب ياسين طه حافظ قائلاً:

من قال لك ان ما يجري الان عمل جهادي او مقاومة، فبوسعك ان تسأل أي انسان عاقل سيجيبك على هذا السؤال بان ما يحدث هي اعمال اجرامية، وقتل عشوائي للابرياء، وتحطيماً للقدرات العراقية.

وجاب القاص والروائي حميد المختار قائلاً:

ان ما يحدث الان في بعض المدن والمناطق العراقية من اعمال يندى لها جبين الانسانية ويخجل منها الوطن والضمير الانساني، وهي في حقيقتها بؤر حمراء دموية للارهاب والتطرف والسلفية المفخخة المقبلة والعنصرية والاحقاد التي لا تريد للعراق الخير ولا تريد له ان يستعيد عافيته ودوره، ولا تريد له في تحوله الديمقراطي الجديد بحجة الاحتلال وما الى ذلك من اعذار واهية متناسين انهم باعمالهم هذه يطيلون من عمر الاحتلال وهي طروحات بعيدة كل البعد عن المنطق والصواب، والمسألة برمتها واضحة وضوح الشمس لكل ذي بصر وبصيرة وهي ان هؤلاء الذين يعيثون فساداً في الارض وفي الحرث والنسل ويقتلون الطفل والمرأة والشيخ العراقي هم مدفوعون من جهات عديدة اهمها فلول صدام المهزوم، وايتام صدام من العرب، ومتطرفون، وعرب مرتبطون بمخابرات اقليمية معروفة واجانب مرتبطون بقوى ودوائر عالمية تحركهم اصابع خفية في الظلام ومن هؤلاء الاجانب من يحسب على المسلمين بالطبع.

من كل هذا نستشف ان الوضع الامني العراقي يزداد سوءاً وفوضى لهذا فان العراقيين يراهنون على العملية السياسية والانتخابات القادمة التي بدأت جهات عراقية وغير عراقية محاولة ارباكها وتسويف مواعيدها لإدامة الفوضى والرعب والقتل اليومي بحجة وجود  الامريكان بينما الحقيقة ان الانتخابات هي خطوة لخروج قوات متعددة الجنسيات وعلينا كمثقفين ان ننشر الوعي السياسي الخاص بالانتخابات وان ندعو له ونبشر به ونثقف لاجله وهي اقل ما يقدمه المثقف في هذه الفترة الحرجة من تأريخ بلدنا العراق الجريح .

الدكتور خالد احمد، التدريسي في كلية الفنون الجميلة اجاب بلغة اخرى عن هذا الموضوع:

في الإرهاب ومجانية الموت

مع فطور الصباح اعتاد العراقي ان يحتسي وجع الانفجارات، وربما مشهد حصد ارواح العراقيين - تحت ذريعة المقاومة- بات روتينياً اثناء ممارسة حياتنا الطبيعية، وانتقالات سيناريو الموت من المستشفى الى المدرسة او الشارع او أي تجمع (بشري) بما في ذلك الأسواق التي يلجأ اليها الناس لكي يقطعوا تذكرة حياة يوم آخر إلا ان (القتلة) حولوها الى تذكرة موت رهيب كل حالات الموت تمر بالعراقيين يومياً، فاتساءل .. هل يمكن لعراقي اصيل شرب من دجلته وفراته ان يلعب دور (العدالة العمياء) كما يريد؟.. اشك في ذلك. مجانية الموت للعراقيين ليست (مقاومة) ولاعدالة (جهاد) لطرد قوات الاحتلال، انها رعب وانتقام وارهاب، من شعب مسالم كل مطلبه ان يحيا بكرامة وعزة . يامن تحصدون ارواحنا ! كل الشك في ان ذلك مشهد عراقي، هو تصدير من الاخ والصديق والعدو، تصدير كي لا نستعيد دورنا وقدرتنا، وكي لا توضع الحلوى في افواه  الفقراء، فصبراً يا اهل العراق . تكشف الاقنعة وسترى (النخلة) العراقية، شامخة باقية.. ولن يوقف الحياة حفنة من القتلة .

وحوش وبرابرة معاصرون!

فيما يرى الناقد حاتم العقيلي. ان ما يجري الان هو امر محير حقاً ولكنه من المؤكد ان الحياة العراقية الجديدة وبعد زوال الطاغية تثير الحساسية المريضة لاعداء الحياة ولهذا فنحن نجد افضل وصف لهؤلاء الاعداء هو انهم وحوش وبرابرة العصر الجديد .

اما الدكتور شاكر اللامي كيف يمكن لنا تفسير ما يجري باعمال الجهاد او المقاومة. وهو عمل يهدد حياة الابرياء والبنية التحتية فضلاً عن الاستقرار؟ ، لذلك علينا كمثقفين ان ندرك ابعاد هذه العمليات الوحشية ويكون لنا دور في توعية ممن تخدعهم شعارات مزيفة تروج للارهاب. والتطرف.

وذهب الشاعر والاذاعي احمد المظفر الى ان هذا السيناريو المرعب برغم خطورته فانه سينتهي بالفشل المصحوب بالخذلان .

وهذا الامر يتوقف على مدى الوعي الذي يتمتع به الانسان العراقي اليوم. بعد ان ظهرت اماه الصورة البشعة لهذه العمليات التي لاصلة لها بالانسان العراقي وانا متفائل بان نجاح الانتخابات سيقصم ظهر هذا الوحش الغريب الذي كتب سيناريو الرعب والموت لاجل تدمير الحياة ولكن ديمومة حبنا للحياة سيجعلنا ننتصر عليه حتماً .

وتحدث الشاعر جمال هاشمي قائلاً:

انا مع كل الفصائل الوطنية والاسلامية التي تضع شعار العراق اولاً وعلينا ان نعزز المعارضة الوطنية الشريفة التي تريد انهاء الاحتلال وبين من يريد ان يبقى الاحتلال الى امد طويل بذريعة المقاومة او الجهاد . خصوصاً عندما تستهدف  الشرطة والجيش ومحطات الكهرباء والوقود ورجال الفكر والعلم والمثقفين العراقيين والعوائل الامنة واخلاء مدن كاملة واضطرار ناسها ان يسكنوا في العراء في ظروف صعبة، وغياب ابسط شروط الحياة.. مثلما حدث لاهالي مدينة الفلوجة الذين عانوا بسبب هؤلاء على الرغم من المساعدات التي تحاول الحكومة توفيرها.. علينا الآن كعراقيين ان نضع كل شيء في صالح الوطن ومستقبله، من اجل التعجيل بالانتخابات ومحاولة انهاء الاحتلال باقرب فرصة ممكنة.

الرفسة الاخيرة

وبصدد المقارنة بين المقاومة وما يجري الآن من عمليات ارهابية تحدث الشاعر عبد الحميد الجباري قائلاً:

ارى ان المقاومة لها نظرياتها  وهي مشروعة لكل شعوب الارض التي تبتلى بظرف مثل ظرفنا الحالي.

اما ما يجري الان امر غريب على ابنا الشعب العراقي فنحن لم نعتد السيارات المفخخة وقتل الابرياء وتفجير المستشفيات والمدارس وقتل العزل من الناس وما يحدث الان هي عمليات إرهابية جبانة ولكن حتماً ستلقى مصيرها بالرفسة الاخيرة باصرار العراقيين ومباركة وجهد رجاله.

ويرى الشاعر الكوردي محمد البدري ان المشكلة العراقية لاتحل ابداً عن طريق القتل وذبح الناس الابرياء والتصدي لافراد الشرطة الوطنية، مقاومة الاحتلال يجب ان تكون عن طريق بذل الجهود من اجل تأسيس مؤسسات المجتمع المدني وإجراء الانتخابات لاختيار برلمان شرعي وحكومة عراقية ودستور دائم يضمن لجميع حقوقهم ودستور يرسخ دعائم العراق الجديد في الديمقراطية والفدرالية، وحين ننتهي من إجراءاتنا القانونية الشرعية هذه، نستطيع ان نقول للأجنبي نشكركم على تخليصنا من الدكتاتور ونظامه الدموي وعليكم الان مغادرة بلدنا وسنكون في علاقة ودية معكم وبعكس ذلك سيكون لكل حادث حديث.. المهم ان نبني البلد ونعيده الى وضع جيد آمن فيه نعيش بحرية .


الوجدان  - 18-

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

 

عاد الى ديترويت، واجتمع باعضاء واصدقاء الاتحاد الديمقراطي العراقي في ندوة عامة لابناء الجالية هناك. كان الهدف من الندوة، اعطاء صورة عن واقع الحرب الدائرة، وآفاق المستقبل، بعد تحرير الكويت.

دعاه اعضاء سكرتارية الاتحاد بعد انتهاء الندوة، الى اجتماع تنظيمي. قبل البدء بفترة استراحة بثوان، صرخ زهير سلمان:

-الله.. يا جماعة بدأت الحرب البرية.

تحلق الحضور حول زهير لمتابعة اخبار الهجوم على الكويت، من محطة قناة ( سي. أن. أن.) الشهيرة في الاخبار العالمية لتمتعها بامكانيات عالية، وبمراسلين يملأون عواصم العالم، خصوصا في المناطق الساخنة.

اذن .. الحرب البرية اشتعلت ..

القوات الامريكية والبريطانية الزاحفة من الاراضي السعودية تدخل الاراضي الكويتية، وتتوغل بسرعة لم يتوقعها الخبراء العسكريون والقادة الذين خططوا للمعركة.

كانت وسائل الاعلام الامريكية والغربية تبالغ في قوة صدام العسكرية وجيش المليون. هل انخدع الجميع بهذه المعلومة؟ ام ان صدام هو الذي انخدع بعدم جدية اسياده الامريكان بمقاتلة " الأبن المدلل " على حد تعبير الرئيس الامريكي، جورج بوش.

القوات المتعددة الجنسيات، تتقدمها القوات العربية تتبختر في صحارى الكويت دون اية مقاومة من الجيش العراقي. طوابير طويلة من الضباط والجنود العراقيين تستسلم، ومئات الدبابات والاليات العسكرية تحترق في اماكنها وخنادقها.

ذهل الكل ..

بكى البعض من مناظر الاستسلام وصور الجنود العراقيين الذين بدت على وجوههم ملامح الشحوب والجوع والخوف، وقد تركهم صدام حسين، واركان حربه، عراة في الصحراء الحارقة، وفي خنادق خاوية من الطعام ومن العتاد ومن اي وسيلة راحة ومتطلبات الاستعداد للمعركة. تركهم صدام وقادة البعث، يواجهون آلة الموت الزاحفة من وراء الحدود، لتحصدهم، وتدفنهم احياء في الخنادق.

ذهل مع غيره من هذه المناظر التي اراد منها المتحالفون في المعركة، اهانة الجيش العراقي وتمريغ كرامة الجندي في الوحل. ان المسؤول عن هذه الاهانة، صدام القابع في مخبئه المزود بكل ما يحتاجه لراحته وسلامته الشخصية.

صرخ زهير سلمان مرة ثانية:

الله يستر...

وفجأة، ظهرت على شاشة التلفاز، صورة جندي عراقي، يركع ويقبل جزمة جندي امريكي، ويتوسل اليه بجرعة ماء، ولو قطرة واحدة.

كفر، وبكى مع بكاء الجندي العراقي المهان، كما يبكي الاطفال، وراح بحقد، يلعن صدام وحزب العفالقة وكل من ساهم في هذا الفصل الحزين لمأساة شعب عريق أذله حاكم اهوج، وشلة من حثالة المجتمع العراقي.

بكى، ولطم صدره دون وعي، كأنه يبكي على الشهيد الحسين في كربلاء يوم عاشوراء.

ان ما حدث للجندي العراقي من اذلال، وهو في الصحراء، ابكى حتى الجنود العرب الذين دخلوا الكويت دون ان يحاربوا.

أذلت هذه الصورة التي بثتها وسائل الاعلام المرئية لأيام طويلة، كل العراق بشعبه وارضه وسمائه.

أن صورة الجندي  الذي أذله صدام حسين، جعلت العراق وكأنه قد ركع وذل، وهو يبكي الشهامة والكرامة والعزة المشهور بها ابناؤه في كل شبر من ارض الوطن.

انطبعت صورة الذل المشؤومة في ذهنه الباكي الحزين .. لم تفارقه الحرقة والألم، كل الفترة التي  استغرقتها الرحلة من ديترويت الى دمشق، ومن فندق الجلاء في منطقة المزة  الى مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت.

في قاعة المؤتمر الكبير، شعر انه قد تحول الى قنبلة موقوتة يريد بها نسف كل من كان السبب في مأساة هذا الشعب.

كانت ايام انعقاد جلسات المؤتمر كابوسا جثم على صدره وهو يستمع الى رجال المعارضة يخطبون ويتبارون في انتقاء  الكلمات الثوروية والقومية. ما ان " يبدع " احدهم، حتى يتسلق الآخر المنصة ليعيد ترتيب كلماته الطنانة دون توقف.

صعد الى منصة المؤتمر رجل ذو عمامة، وما ان امسك بالمذياع، حتى صرخ: أنا قادم من ارض الانتفاضة.

مال على  رفيقه الجالس على يساره وهمس في اذنه:

-لماذا جاء من ارض الانتفاضة؟ اما كان الاجدر بنا نحن اعضاء هذا المؤتمر ان نذهب بكل هذه الحافلات الكبيرة التي نقلتنا من دمشق الى بيروت، صوب ارض الانتفاضة، بدلا من كل الخطب والكلمات الوطنية الصادقة، وأن نلتقي هذا الشيخ هناك في الجنوب المنتفض بدلا من ان يأتينا هو الى هذا المؤتمر ؟

سؤال مشروع .. ولكن ..


الهروب من الذات: ما وراء الوضعية وتحرير الانتهاك

الكسندر ستايهر

ترجمة: خالدة حامد

كتب دولوز مرة: نحن مخطئين إذا ظننا أن من الممكن تقديم الحلول بشأن الخطأ والصواب من البداية … هذا الإجحاف يبدأ من  الطفولة لحظة الصف تحديداً: يبدأ من معلم المدرسة الذي " يطرح " المشكلة ومهمة التلميذ هي اكتشاف الحلول. فبهذه الطريقة نبقى رهينة عبودية من نوع ما. الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على اتخاذ القرار ؛ على إيجاد مشكلات. ومع وجود شعارات من قبيل " الانعطافات اللسانية " أو " الانعطافات الأدبية " أو ظهور نظرية المؤسسة ما بعد البنيوية، طال الشك معظم المقدمات المنطقية والافتراضات المستمدة من منظور آلي أو عقلاني للمؤسسات. (كزارنيواسكا، 1999).

ومع ذلك مازال البحث الوضعي جارٍ للآن من دون أن يخضع للتساؤل. ولهذا السبب يصعب الحديث عن نظرية مؤسسة ما بعد وضعية أو ما بعد عقلانية بوصفها خلفاً لمحاولة سابقة تبغي فهم الكيفية التي تعمل بها المؤسسات. والأدهى أن الدراسات الوضعية وما بعد الوضعية (أو ما قبل الوضعية) تتم جنباً إلى جنب. ولعل أهم نقد وجه لهذه النظرية هو أنها تتكل على لوغوس الفرد وعقلانيته.  لكنه خضع من ناحية أخرى للتمحيص من مفكرين آخرين مثل نيتشة وفرويد وهيدغر مروراً بالفلسفة ما بعد البنيوية ؛ دولوز وفوكو ودريدا.

لقد ابتعدت الذات البشرية عن المركز الفكري وأعيد تصورها بوصفها شبكة من الاعتقادات والأفكار والانطباعات والأحاسيس التي تطوقها بيئات خارجية بإحكام. ومع ذلك حتى عندما تتحرك الذات اللامتمركزة في نظرية المؤسسة، فإنها تتسم بالضعف. بل تكون الذات في موقف ثنائي ؛ إما تكون سيد العقلانية أو يتم استبعادها من عالم العقلانية. إلا أن هذه الثنائية تثير إشكالية واضحة لأنه مثلما أشار دولوز فإن " كل ما هو مثير يحدث عند الوسط).

ومن خلال مفهوم الانتهاك، الذي استعمله الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي، يمكن الإفادة من فرص تفادي هذه الثنائية. أي من خلال التفكير بالتفكير بالوجود الإنساني بوصفه مرتكزاً على مفهوم الانتهاك، يمكن التأمل في المشكلة بأفق أوسع. ولا ينتمي هذا المفهوم إلى حقل ما بعد البنيوية بالضرورة بل إلى ما أسماه " آنسل بيرسون " البايوفلسفة biophilosophy، أي الفلسفة التي لا تفترض أية مقولات متعالية وإنما تهدف ببساطة إلى الوصول إلى تفكير ما بعد ديالكتيكي ؛ ما بعد ثنائي.

 

النظام الاجتماعي: تنظيم المجتمعات

كتب كورنيليس كاستورايدس: " العالم متشظٍ، ومع ذلك لا يسقط متهشماً إلى قطع صغيرة. يبدو لي أن التأمل في هذا الوضع أحد أهم مهام الفلسفة اليوم ". 

يبدو أن البشر في المجتمع المعاصر مأمورين بأن " يُخرجوا شيئاً من ذواتهم " ؛ أن يتصرفوا كذوات إحصائية، نقابية.  ولهذا يعبر البشر عن مختلف أشكال الفرادنية في المجتمع. ومع ذلك تبقى الحاجة إلى النظام والثبات والتنبؤ. وتشكل هاتان القوتان المتضادتان ؛ المتمركزة (الفردانية) واللامتمركزة (البحث عن نظام) مجموعة مشكلات داخل الحقل الاجتماعي أثارت الفلاسفة والمنظرين الاجتماعيين مثل القديس أوغسطين وهوبس وميل وماركس وزيمل.

وقد سعى هابرماز إلى تحويل المجتمع إلى " مشروع حديث " يرتكز على مفهومي الاتصال والعقلانية. ويبتعد هابرماز في مشروعه هذا عن الذات ما بعد البنيوية، اللامتمركزة ويمسك برأي الأنوار القائل بأن الذات عاقلة، مستقلة، متأملة لذاتها.

وبدلاً من تطويق الذات في كيان عقلاني مستقل وواع بذاته، أرغب أنا بالتفكير بالذات كما تصورها نيتشة ودريدا وهيدغر وفوكو. بدلاً من النظر إلى الذات بوصفها كينونة موهوبة بعدد من الخواص الثابتة، يمكن تصورها بصفة ذات " تنتهك " الحقل الاجتماعي باستمرار. وبدلاً من إثارة شرط العقلانية بوصفه مقولة تحمل تفسيراً ممكناً للأنشطة المؤسسية، يمكن التحدث عن " دازين " هيدغر ؛ أي الكينونة في العالم Da-sein (ek-sists). ولابد من الالتفات إلى مسألة مهمة وهي أن مفهوم ek-sists يلعب على الكلمات على نحو خطير ؛ ليعني " الوجود " في حين يعني بالإغريقية " أن تكون خارج ذاتك ". بل يعني هنا أن الفرد هو مركز التجربة من ناحية، وهو من ناحية أخرى عضواً في المجتمع. وبذا يشير الانتهاك والدازين إلى الظاهرة نفسها: وجود الإنسان، لا بوصفه متخفٍ وراء جسده فحسب بل وصفه خارج ذاته أيضاً ؛ فالذات تنتهك النفس. ومن خلال سيرورة الانتهاك، يستفيد الفرد من نفسه، لا عبر استخدام قابلياته الإدراكية بل عبر التغلب على نفسه بوصفها إسقاط لجسده. ولهذا السبب يكون الانتهاك عميقاً، أساسياً ؛  إمكانية مستقلة عن الزمان والمكان. وإذا رددنا ما جاء به إريك فروم فإن الذات التي تَنتهِـك لا تهرب من الحرية بل تهرب من نفسها ؛ من التنبؤ، من الثبات، من الضجر. الانتهاك هو الهروب إلى المجهول، إلى ما هو خارجي على المألوف والمسلّم به. ويرتبط مفهوما الانتهاك والدازين بمفهوم السلطة. ففي معظم نظريات المؤسسة، تقترن السلطة بدلالات القمع والاستغلال والاغتراب. يعدّ هذا المنظور للسلطة أحاديّ الجانب ولا يأخذ الثواب والمبادرة والخواص الإنتاجية المرتبطة بالسلطة بنظر الاعتبار. ويأتي مفهوم الانتهاك ليتبنى هذا المنظور الثاني.

أن تنتهك نفسك يعني أن تلعب بأفكار الهوية ؛ بالأفكار المسلّم بها بخصوص العلاقة بين الذهن والجسد ودور النفس. أن تنتهك المقولات الاجتماعية (مثل الكرنفال الذي يتم فيه قلب التشكلات الاجتماعية رأساً على عقب) يعني أن تلعب على المقولات الاجتماعية مثل الطبقات والهابيتوس (1) والمواقع في المجتمع.

وبانتهاك النفس يمكن للفرد أن يقبل كون جسده مستعملاً في أنشطة مؤسسية. الانتهاك طريقة لمط الحياة خارج ما هو معروف بغيّة خلق تحديات جديدة. الانتهاك هو ما وراء النسب، والفكر، والتفكير. إنه التحدي، بل هو النمط المنتج من الدازين داخل المؤسسة.


الشاعر احمد العاشور.. ما يشبه التقديم لقصائد قصار- انسجام.. الفروض والنتائج

خالد خضير

حين يكتب احمد العاشور قصائده القصيرة فإنه يحرص على ان تبنى بشكل يتفرّد عن كتاباته الاخرى، ويحرص بشدّة على احكام البناء التقني لتلك القصائد، ومحاولة التخلص من اية (زوائد) يعتقد انها لا تخدم تركيز النصّ حتى لا يبقى من قصائده سوى (هندستها الخفية) ، وهو مصطلح استعرناه من كتاباتنا في النقد التشكيلي، ونراه يصلح للكتابة في نقد الشعر، فهو اذن يحاول ان يصل الى (روح الشعر) او الى (هيكله الرياضي)، ذلك الشراب المعتّق والمركّز والمقدّس في آن معاً، لتقترب قصيدته رويداً من تركيبة انماط من الشعر المركّز، كالها يكو الياباني، وربما بشكل اكثر قرباً لنا، نحن العراقيين، من شعر الابوذية والزهيري، وربما بشكل اكثر قرباً من الدارمي، حيث تحتشد المعاني مركّزة في بيتين يؤلفان ذات (البنية الهيكلية) ونعني بها (الفروض والنتائج) ويمكن القول ان احمد  العاشور يبدو مستسلماً تماماً لغواية الصور الهندسية والتفسير الجبري، غير المباشر والاستدلالي للاشكال الهندسية شديدة الاغراء للحدس.

يستعير احمد العاشور الهيكل الخفيّ لقصيدته من البساطة (الواحدية)، كما يسميها القاص محمد خضير، وهي بساطة برهانية يستلمها من منطقيات ارسطية تنبع من علاقات منطقتين متوالجتين، يبنى النصّ من تنافذهما وتواشجهما (المنطقي)، وهما: الفروض والنتائج، حيث تتماهى الفروض ومقدمات القصيدة التي يركزها الشاعر احمد العاشور لتنتهي النتائج بخواتمها المنطقية:

نص (1):

الفروض:

1- لأني رسمت القفص بلا طائر.

2- لأني لا ارغب ان اسجن احداً.

النتائج:

1- اعطوني صفراً في الرسم.

نص (2)

الفروض:

1- الرياح لم تحرك غصناً.

2- الرياح شرعت نوافذنا.

3- نوافذنا كشفت كل الوجوه سوى وجوهنا.

النتائج:

1- الرياح لا تستحق الاشرعة.

2- وجوهنا لا وجوه لها.

وبذلك يكون احمد العاشور حريصاً على المحافظة على مفهوم (saving appearances) وهو مفهوم فلسفي يعني المحافظة على انسجام الفروض والنتائج،  رغم انه في احيان كثيرة يبدو غير مكترث للبرهنة على صحة فروضه وجعلها مقبولة من المتلقي، انها صحيحة بالنسبة اليه في الاقل، وهو الامر الجوهري بالنسبة اليه ايضاً، فهو يبتدئ دائماً بفرض مقبول منه في الاول. فلأنه لا يرغب ان يسجن احداً، فقد رسم قفصاً دون طائر، ولأنه رسمه كذلك و دون طائر فقد اخذ صفراً في درس الرسم، انها اذن علاقات سببية من نمط آخر رغم انها  قد تحكمها ذات العلائق التي تحكم الاسباب بالنتائج.

نقدم الآن نماذج من شعر احمد العاشور تاركين للقارئ مهمة البحث عن (الفروض والنتائج) في كل نموذج منها:

(قفص)

لأني رسمت القفص

بلا طائر

ولأني لا ارغب ان

اسجن احداً

اعطوني صفراً

في الرسم

(غرفة)

ما كانوا كثراً

لتضيق بهم تلك الجدران

وليس لأن الغرباء كثيرون

ولكن..

للواحد منهم وجهان

(لمس)

لمّا ارخيت على شعرك

يا قديسة كفي

تعلمت اللمس

(مرآة)

كنت أخبّئ وجهي

عن مرآتي

والآن اراك 

في المرآة

(اخرجك قسراً)

اخرجي من مرآتي

اخرجي من عطري

من الواني

او اخرجك قسراً

كي استرجع ذاتي

(جلسة اسفنجية)

الدقائق مشبعة بالقهقهات

يستدير سنانها

كالمجذاف

تستكمل دورة ساعة

لاتينية الارقام

حين انفص الجمع المضحك

اعتصرناها

كانت ..

..ت

..ق

..ط

..ر      دمعاً

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة