الوجدان
- 18-
فائق بطي
لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية
عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي
أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن
(المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم
من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك
السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما
رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف
أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.
(المدى الثقافي)
عاد الى ديترويت، واجتمع باعضاء واصدقاء الاتحاد الديمقراطي
العراقي في ندوة عامة لابناء الجالية هناك. كان الهدف من
الندوة، اعطاء صورة عن واقع الحرب الدائرة، وآفاق المستقبل،
بعد تحرير الكويت.
دعاه اعضاء سكرتارية الاتحاد بعد انتهاء الندوة، الى اجتماع
تنظيمي. قبل البدء بفترة استراحة بثوان، صرخ زهير سلمان:
-الله.. يا جماعة بدأت الحرب البرية.
تحلق الحضور حول زهير لمتابعة اخبار الهجوم على الكويت، من
محطة قناة ( سي. أن. أن.) الشهيرة في الاخبار العالمية
لتمتعها بامكانيات عالية، وبمراسلين يملأون عواصم العالم،
خصوصا في المناطق الساخنة.
اذن .. الحرب البرية اشتعلت ..
القوات الامريكية والبريطانية الزاحفة من الاراضي السعودية
تدخل الاراضي الكويتية، وتتوغل بسرعة لم يتوقعها الخبراء
العسكريون والقادة الذين خططوا للمعركة.
كانت وسائل الاعلام الامريكية والغربية تبالغ في قوة صدام
العسكرية وجيش المليون. هل انخدع الجميع بهذه المعلومة؟ ام
ان صدام هو الذي انخدع بعدم جدية اسياده الامريكان بمقاتلة "
الأبن المدلل " على حد تعبير الرئيس الامريكي، جورج بوش.
القوات المتعددة الجنسيات، تتقدمها القوات العربية تتبختر في
صحارى الكويت دون اية مقاومة من الجيش العراقي. طوابير طويلة
من الضباط والجنود العراقيين تستسلم، ومئات الدبابات
والاليات العسكرية تحترق في اماكنها وخنادقها.
ذهل الكل ..
بكى البعض من مناظر الاستسلام وصور الجنود العراقيين الذين
بدت على وجوههم ملامح الشحوب والجوع والخوف، وقد تركهم صدام
حسين، واركان حربه، عراة في الصحراء الحارقة، وفي خنادق
خاوية من الطعام ومن العتاد ومن اي وسيلة راحة ومتطلبات
الاستعداد للمعركة. تركهم صدام وقادة البعث، يواجهون آلة
الموت الزاحفة من وراء الحدود، لتحصدهم، وتدفنهم احياء في
الخنادق.
ذهل مع غيره من هذه المناظر التي اراد منها المتحالفون في
المعركة، اهانة الجيش العراقي وتمريغ كرامة الجندي في الوحل.
ان المسؤول عن هذه الاهانة، صدام القابع في مخبئه المزود بكل
ما يحتاجه لراحته وسلامته الشخصية.
صرخ زهير سلمان مرة ثانية:
الله يستر...
وفجأة، ظهرت على شاشة التلفاز، صورة جندي عراقي، يركع ويقبل
جزمة جندي امريكي، ويتوسل اليه بجرعة ماء، ولو قطرة واحدة.
كفر، وبكى مع بكاء الجندي العراقي المهان، كما يبكي الاطفال،
وراح بحقد، يلعن صدام وحزب العفالقة وكل من ساهم في هذا
الفصل الحزين لمأساة شعب عريق أذله حاكم اهوج، وشلة من حثالة
المجتمع العراقي.
بكى، ولطم صدره دون وعي، كأنه يبكي على الشهيد الحسين في
كربلاء يوم عاشوراء.
ان ما حدث للجندي العراقي من اذلال، وهو في الصحراء، ابكى
حتى الجنود العرب الذين دخلوا الكويت دون ان يحاربوا.
أذلت هذه الصورة التي بثتها وسائل الاعلام المرئية لأيام
طويلة، كل العراق بشعبه وارضه وسمائه.
أن صورة الجندي الذي أذله صدام حسين، جعلت العراق وكأنه قد
ركع وذل، وهو يبكي الشهامة والكرامة والعزة المشهور بها
ابناؤه في كل شبر من ارض الوطن.
انطبعت صورة الذل المشؤومة في ذهنه الباكي الحزين .. لم
تفارقه الحرقة والألم، كل الفترة التي استغرقتها الرحلة من
ديترويت الى دمشق، ومن فندق الجلاء في منطقة المزة الى
مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت.
في قاعة المؤتمر الكبير، شعر انه قد تحول الى قنبلة موقوتة
يريد بها نسف كل من كان السبب في مأساة هذا الشعب.
كانت ايام انعقاد جلسات المؤتمر كابوسا جثم على صدره وهو
يستمع الى رجال المعارضة يخطبون ويتبارون في انتقاء الكلمات
الثوروية والقومية. ما ان " يبدع " احدهم، حتى يتسلق الآخر
المنصة ليعيد ترتيب كلماته الطنانة دون توقف.
صعد الى منصة المؤتمر رجل ذو عمامة، وما ان امسك بالمذياع،
حتى صرخ: أنا قادم من ارض الانتفاضة.
مال على رفيقه الجالس على يساره وهمس في اذنه:
-لماذا جاء من ارض الانتفاضة؟ اما كان الاجدر بنا نحن اعضاء
هذا المؤتمر ان نذهب بكل هذه الحافلات الكبيرة التي نقلتنا
من دمشق الى بيروت، صوب ارض الانتفاضة، بدلا من كل الخطب
والكلمات الوطنية الصادقة، وأن نلتقي هذا الشيخ هناك في
الجنوب المنتفض بدلا من ان يأتينا هو الى هذا المؤتمر ؟
سؤال مشروع .. ولكن ..
|