محمد عارف
"لا حرية لشعبٍ يستعبد شعباً آخر". عبارة مأثورة يقتضي
إدراكها درجة معينة من الوعي السياسي والتعاطف الإنساني.
أبسط منها القول "لا حرية لمواطنين من دون حرية لوطنهم". كيف
غابت هذه البديهية عن أذهان عراقيين ساعدوا الولايات المتحدة
وبريطانيا على غزو بلادهم واحتلالها؟ سؤال يساوي مليون
دولار، حسب التعبير الأميركي الشائع، ويساويه عدّاً ونقداً.
كشفت عن ذلك استقالة جلال الماشطة، المدير العام لما تُسمى
"شبكة الإعلام العراقي"، وهو ثالث مسؤول تطيح به الشبكة،
التي أنشأتها سلطات الاحتلال للإشراف على إذاعة وتلفزيون
العراق الرسميين. هاجم الماشطة في بيان استقالته "الهدر
المالي، وسياسة الإدارة العامة للفضائية، وهيمنة الإعلام غير
العراقي عليها". وأورد أمثلة فاضحة على الهدر، كبرنامج
المسابقات "المُمّيزون"، الذي تشارك في إنتاجه وإدارته شركات
"هاريس" الأميركية، و"الفوارس" الكويتية، وقناة "إل بي سي"
اللبنانية. سعر الحلقة الواحدة 28 الف دولار، في حين يمكن
إنتاج برنامج مماثل في العراق بكلفة ثلاثة آلاف دولار.
وبرنامج رمضاني عرضته القناة اللبنانية يكلّف 30 ألف دولار
للساعة، علماً بان معدل السعر العالمي للساعة التلفزيونية ما
بين 4 و5 آلاف دولار، أي أن حلقات هذا البرنامج الرمضاني
تكلّف التلفزيون العراقي ما يقرب من المليون دولار، وهي حسب
الماشطة برامج "موضوعة أصلاً لمُشاهد غير عراقي ولظروف
مختلفة تماماً عن ظرفنا الراهن، ولا تراعي المشاعر
والحساسيات المحلية، فالمهم للطرف البائع كان تصريف بضاعة لم
تعد رائجة في الأسواق التلفزيونية".
وتحدث الماشطة، الذي كان قد صدر مرسوم بتعيينه من
الحاكم الأميركي السابق بول بريمر في مايس 2004 عن "الأخطاء
الكارثية، التي ارتكبتها سلطات الاحتلال، وفاقمها غياب
الإجماع على مشروع وطني عراقي قضت على ما تبقى من مؤسسات
وهياكل الدولة". وذكر "أن الطرف العراقي لا يعرف حتى الآن
قيمة الأموال التي تم إنفاقها، وعندما نطلب معرفة ذلك،
يأتينا الجواب أن شركة هاريس تتعامل مع وزارة الدفاع
الاميركية، في حين يتعلق الأمر بأموال عراقية".
وترسم استقالة الماشطة، الذي عمل سنوات عدة مراسلاً
لصحيفة "الحياة" و"بي بي سي" في موسكو ملامح الطور الأخير من
الاستحالات التي مرّ بها منذ غزو العراق. مسافات شاسعة ما
بين افتتاحياته المستميتة في صحيفة "الحياة" ضد الحرب
ومشاركته المتحمسة في بناء الهيكلية الإعلامية للاحتلال.
مسافات مجسورة بمقالات تندد بعد أسبوع من سقوط بغداد
بالاحتلال، الذي يعمل على "إلغاء تاريخ العراق واستلاب
ذاكرته وطمس معالم هويته الحضارية والاخلاقية من دون المساس
بالنفط"، وتصريحات للإذاعة السويسرية، بمناسبة مرور عام على
الاحتلال بأن "كلمة الاحتلال مرفوضة من الجميع، وما جرى كان
مزاوجة بين التحرير والاحتلال، من حيث تحرير العراق من
الطغيان والاستبداد وبداية عهد الديمقراطية وما تفرضه
إشكالية الاحتلال من تعقيدات". يعني "كل مقلوبنا بالكلام"،
حسب المثل العراقي الساخر، الذي يقلب مواقع الكلمات. تأكيده
عشية صدور أمر تعيينه مديراً عاماً على "إيجابيات تحقّقت
خلال العام المنصرم، ومن أهمها التحرر من الطغيان وإصدار
الصحف..وترتيب ثقافة الحوار بين العراقيين..عبر المنابر
الديمقراطية القائمة، ومنها مجلس الحكم"! وإدانته أخيراً
"التنازل الطوعي عن السيادة في مجال الإعلام والعودة الى
هيمنة الإعلام غير العراقي".
هل تمثل الاستقالة "عودة الوعي"، أم هي خطوة استباقية
قبل قليل من صدور قرار إعفائه من المنصب، حسب متحدث باسم
الفضائية اللبنانية؟ أم السبب، في رأي صديق قديم للماشطة
عزمه على ترشيح نفسه للانتخابات؟ أو هو رد فعل على وقف
الحكومة العراقية مرتباته الخمسة شهور الماضية، حسب ما جاء
في بيان استقالته؟
هنا كما في تصرفات معظم الناس حصيلة الأسباب أهم من
الحسابات المصرفية، وحصيلة الاستقالة تبرهن على خطل العمل
لحساب الاحتلال وضدّه، وهو التبرير الموهوم لقيادات أحزاب
سياسية متمرسة تشارك في الحكم، كالحزب الشيوعي وحزب الدعوة.
وتشكك الاستقالة بجدوى ما يُسمى مبدأ "التقيّة" أو
"الباطنية"، الذي يخفي المُعتَقد الحقيقي، ولا يُظهر ما
يُبطن. فالإمبراطورية الأنجلوأميركية قائمة أساساً على أعتى
مبدأ "تقيّة" في التاريخ، والحرب على العراق واحتلاله أكثر
التطبيقات فشلاً للاستراتيجية "الباطنية". وهل هناك "تقيّة"
أتعس من كذبة "أسلحة الدمار الشامل"؟ تلويح وزير الخارجية
الأميركي كولن باول بقارورة "الأنثراكس"، التي ادّعى أن صدام
حسين سيدمر بها العالم صورة لن تنمح من ذاكرة التأريخ، حسب
صحيفة "نيويورك تايمس".
لا إعلام حراً في العراق من دون حرية للعراقيين، وتسمية
الأشياء بأسمائها أعظم سلاح في يد "المُستضعفين" ضد "تقية
الشيطان الأعظم". وهنا لا تساوي مئات الصحف وشبكات الإذاعات
والقنوات الفضائية، التي أقامها الاحتلال قارورة "أنثراكس"،
فالهدف ليس الإعلام، بل التعمية. وكلمة السر للتعمية محو
كلمة الاحتلال، أو التشويش عليها، بالهذر، أو الهزل، أو
الرقص، أو "التمشيط"! وهذا مكسب "لعين" للإعلاميين العراقيين
ما في ذلك شك، يتساوون فيه مع زملائهم في أرجاء الإمبراطورية
الإعلامية الأنجلوأميركية. لعنة المكسب كشف عنها الصحفي
الأميركي سيمون هيرش، الذي فضح جرائم تعذيب العراقيين في سجن
أبوغريب. ذكر هيرش في محاضرة قبل أسبوعين في جامعة نيويورك
"هناك موضوع واحد لا تقر به الصحافة، وهو عدد عمليات قصف
الطائرات الأميركية للفلوجة، التي تضاعفت مرات عدّة بعد تولي
أياد علاوي مسؤولية الحكم". وقال "الطلعات الجوية من مطار
الدوحة تجري يومياً على مدار الساعة. ونحن لا نعرف كم عددها.
لا نعرف، ولا أحد يسأل، ولا أحد يريد أن يعرف عدد الطلعات
وحمولة القنابل التي ألقيت". وأضاف "لا أحد في الصحافة يريد
أن يخلق مشاكل، وإذا واصلتَ الإلحاح ستحدث لك متاعب".
واليوم يُنظم نشطاء من بلدان مختلفة تجمّعاً احتجاجياً
أمام مقر هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في لندن. دعا
إلى التجمع عدد من ألمع الكتاب والأكاديميين العالميين
المتخصصون بفضح تواطؤ أجهزة الإعلام مع جرائم الاحتلال في
العراق. تواطؤاً يجعل العلاقة بين العالم وأجهزة الإعلام على
غرار الصورة التي رسمها الشاعر وليام شكسبير "العالم مسرح،
حيث لكلٍ دور يؤديه، وأنا دوري فيه تعيس". دور أجهزة
الإعلام، على سبيل أمثلة أوردها مراقبون إعلاميون استخدام
اختطاف مارغريت حسن من قبل أجهزة بريطانية لتغطية تحرك قوات
عسكرية بريطانية باتجاه الفلوجة، أو اختلاق مذابح في دارفور
بالسودان لتغطية مذابح سكان الفلوجة المدنيين. ويرتقي
الإعلام إلى مستوى مسرح العبث، إذا صحّ ما يُقال عن تلفيق
تقارير ضرب الفلوجة بالأسلحة الكيماوية والنابالم. هدف هذا
التلفيق المهوّل، حسب المراقبين، ردع المقاولين المحليين عن
تمويل انتفاضات في المناطق المحرومة في جنوب العراق لجني
موارد إعادة الإعمار!
- العدد 10742 بتاريخ 12/02/04
www.wajhat.com
مؤسسة الإمارات للإعلام
www.emi.ae
|