المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الوجدان - 19-

فائق بطي

لأهمية كتاب فائق بطي (الوجدان) الذي بث فيه سيرته الذاتية عبر نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، آثرت (المدى) الثقافي أن تنشر بين وقت وآخر حلقات من هذا الكتاب الذي سيصدر عن (المدى) بدمشق قريباً لما يلقيه الكتاب من ضوء على مفصل مهم من نشوء الصحافة العراقية، وتطورها وأثرها في المعترك السياسي، واثر التحول من النظام الملكي إلى الجمهوري وما رافقه من أحداث وانقلابات. والكتاب من زاوية أخرى يكشف أسراراً وحلقات مؤثرة من تاريخ العراق السياسي والثقافي.

(المدى الثقافي)

الفصل السابع

التجديد

ايلول 1980

شهر حزين ومؤلم ..

ففي الثاني منه، رحل فجأة، وتركه يدور حول نفسه وحول حزنه، حاملا ألم هذا الرحيل.. مات رافد.

وبعد عشرين يوما، بدأ الاف الشباب يتساقطون قتلى في حرب عبثية اشعل نارها دكتاتور، ضد الجارة ايران، وشعبها يعيش احتفالات متواصلة بالذكرى الاولى لانتصاره على الشاه وطرده خارج البلاد.

                                              ***

بدأ في تلك الايام حياة جديدة. انتقل من سكناه مع العائلة العراقية، الى شقة في شمال لندن. استأجرنصف المساحة لمطبعة يمتلكها هندي، يدعى محمد شافي، ووزع  فيها اجهزته الطباعية التي اشتراها بتمويل من شامل النهر وحسن شبيب لتساعده على العمل بصورة اوسع. كانت المطبعة لا تبعد عن مكان سكناه سوى مائة متر.

الا انه سرعان ما احس بالملل والضجر من وضعه الجديد هذا.

كان يريد حياة اخرى تملأ الفراغ الذي تركه رافد، وتعينه على تحمل الغربة والبعد القسري عن الوطن وعن وحيدته التي تبقت له ، لهيب، التي تعيش مع والدتها في بغداد.

كان يبحث عن شيء ينتشله من هذا الروتين القاتل.

يذهب صباحا الى المطبعة، وينتظر طيلة النهار، عسى أن يمر عليه زبون بعمل، لا يسد ثمنه  تكاليف المطبعة الباهضة. كان الصديق  فاروق الطائي هو الزبون الوحيد الذي يضخ له طلبات المطبوعات للشركات اليمنية مباشرة من هناك.

يعود مساء الى البيت، ليعد له العشاء ومستلزمات الليلة من متطلبات الشرب. واثناء السهرة اليومية، يطالع الصحف ويقرأ كتابا، وقلّ ما يشاهد التلفزيون، الا الافلام الغربية.

تمر الاشهر ثقيلة..

جاء قريبه  مع عائلته، بقوا لفترة ثم ترك له سيارته الجديدة التي اشتراها من ايطاليا اثناء تجواله السياحي في مدن اوروبا، وطلب منه العناية بها واستعمالها ان اراد، فهو عائد الى بغداد، ولم يلتقيه مرة اخرى لان الحرب اللعينة  منعت هذا القريب وغيره من حق السفر الى خارج الوطن.

وفي يوم آخر، جاءه رفاق لندن بطلب لمساعدة الفنانة ناهدة الرماح ريثما يجدون سكنا لها. كانت ناهدة قد فقدت نور احدى العينين، وهي تحتاج الى عملية جراحية سريعة لانقاذ الاخرى. اهتم بها كثيرا، فهي من رواد المسرح العراقي، وصديقة عزيزة عليه وعلى معشر المثقفين العراقيين.

وكان من زوار المطبعة شبه الدائميين، الصديق هادي منصور، والشاعر الوجداني الشفاف  فاضل السلطاني، والفنان عزيز النائب.

في تلك الايام، زاره في شقته الشاعر الفنان محمد سعيد الصكار وعائلته، تربطه بهذا الانسان علاقة صداقة وزمالة في العمل لسنوات طويلة، علاقة متباعدة الا انها تتجدد في كل لقاء.  كما التقى في هذه الايام ايضا الشاعر القادم من دمشق، عبد الكريم كاصد، والمخرج السينمائي قاسم حول.

وفي لقاء  دون ميعاد، زاره الصحفي البعثي لطفي الخياط  وبصحبته الكاتبة سؤدد القادري، قادمة من باريس. ان سؤدد تقوم بتحضير اطروحة االدكتوراه الموسومة بـ "المقارنة بين جريدتي "الجمهورية" و "الثورة". طلبت منه مساعدتها في مراجعة الاطروحة ، فوافق على تنفيذ طلبها، اذ سبق له أن قادها الى الصحافة عندما كان سكرتيرا لتحرير جريدة "التآخي" في عام 1970. تميزت بالجرأة  في كتاباتها واثارت العديد من المناقشات الحامية التي سببت له المشاكل والاحراج من قبل رئيس التحرير دارا توفيق، مما اضطره الى الطلب اليها بالكف عن الكتابة.

جاءت سؤدد الى لندن من باريس لتستعين به وليساعدها في الاطروحة، وهي تتطلع إلى أن تحتل مقعد الاستاذية في قسم الاعلام بجامعة بغداد.

بعد ايام ولقاءات، كانت ملاحظاته مفيدة لها، واعادت كتابة وصياغة المادة في كل الفصول التي تضمنتها الاطروحة. شكرته على الجهد الذي بذله معها، وتمنت ان يكون اللقاء الآخر في بغداد.

                                                  ***

في تلك الفترة - الانتقالية - في حياته، ازعجته واقلقت راحته، احداث، اضافت الى همومه اوجاعا كان في غنى عنها، بل فرضت عليه قسرا. كان يلتجئ في مثل هذه الحالات الى "الوجدان" .. الحضن الدافىء له في كل مرة تمتحنه الأيام والاحداث، في حلوها ومرها.

جاءت تلك الاحداث، وكان ابطالها رفاق يحبهم ويحترمهم ويذكرونه برفاقه في العراق، الذين استشهد البعض منهم في بغداد او مدن العراق الأخرى، وآخرون استشهدوا في جبال كردستان وهم يقاتلون قوات صدام حسين، وغيرهم الذين اغتالتهم الايدي الغادرة في بيروت أو عدن او الشام.

كان نقيا في علاقاته، وفيا لمبادئه وصريحا مع نفسه ومع الآخرين. لم يكذب او يحاول تبرير اقواله واعماله مهما كانت الظروف. الا ان التقارير اللعينة كانت تلاحقه، تلك التقاريرالتي دأب على كتابتها رفاق تدربوا وتثقفوا على يد حزبيين محترفين في مجال المتابعة والتحقيق، وكان بعض الرفاق القياديين يطلعونه على تلك التقارير التي تتعلق به في لندن في لقاءات جانبية.

أول الغيث من تلك الاحداث المؤلمة كان موجعا..

قدم الى لندن صديقه الشاعر يوسف الصائغ برفقة الشاعر البعثي حميد سعيد في محاولة لدعوة بعض المثقفين العراقيين والعرب الذين يعيشون في بريطانيا، لحضور مهرجان المربد الأول في بغداد.

كان يوسف الصائغ يعيش دوامة الضياع السياسي بعد  فشل قصة حبه مع الحزب الشيوعي العراقي.اتصل به محمد كامل عارف، الصديق المشترك لهما، واخبره بوصول يوسف، وسأله ان كان يرغب في لقائه.

تذكر قصة الحب الفاشل المنشورة في جريدة الثورة البغدادية، وفي مجلة الوطن العربي البيروتية يوم قرر فيه الصائغ اعلان البراءة من الحزب الشيوعي. كان المقال الذي اتخذ صيغة  قصة لحب فاشل، قد اثاره حينذاك بعد أن اخبره محمد كامل عارف تلفونيا بتفاصيل النشر واسباب كتابة المقال في جريدة الثورة.

قال محمد:

اتصل بيّ من بغداد جاسم الزبيدي، المصور الاعلامي المعروف، وهو يقضي خفارته في جريدة الجمهورية، وكان ينحب عبر الهاتف ويندب حظه لمعرفة يوسف طيلة هذه السنين ويصرخ:

محمد، ما هذا الهراء من يوسف الصائغ. ارجوك اقرأ ما كتبه في عدد الثورة هذا اليوم او غدا  في مجلة الوطن العربي اللبنانية، لصاحبها  وليد ابو ظهر الذي باع قلمه ومجلته الى النظام الصدامي لقاء تملك كازينو "ليالينا" في منطقة المسبح ببغداد.

كان المقال بعنوان "قصة حب فاشل عمره 25 عاما".

عرف محمد كامل من صديق في بغداد قصة نشر المقال بالصورة التالية:

ذهب يوسف الى جريدة الثورة لرئيس تحريرها حميد سعيد، وطلب من موظف الاستعلامات في الطابق الارضي مقابلة المسؤول. قال الموظف ان حميد سعيد خارج المكتب في زيارة خاصة. ألح يوسف على ضرورة اللقاء به هذه الليلة. وعندما لم يجد الموظف حجة في عدم الاستجابة لطلب الصائغ، اتصل هاتفيا برئيس التحرير الذي كان في زيارة خارج مبنى الجريدة، ثم نظر الى يوسف وأخبره بأن الاستاذ قادم بعد قليل.

صحب حميد سعيد صديقه يوسف الى غرفته في الطابق العلوي ، وكانت الساعة قد قاربت منتصف الليل. وبيد مرتجفة سلم قصة حبه الفاشل، وطلب منه نشرها في عدد الغد.

قرأ رئيس التحرير المقال مرة واعاد قراءته ثانية، وهو بعد كل صفحة يقرأها، ينظر من وراء نظارته صوب الصديق الجالس بهدوء امامه. ظل حميد ساكتا لدقائق، طلب منه بعد ذلك ان يعيد النظر بموقفه ويفكر اكثر قبل اقدامه على نشر "البراءة". الا ان اصرار كاتب القصة الفاشلة، جعل المقال منشورا في عدد اليوم التالي. فكانت فضيحة الصباح الحزين لشاعر وكاتب حكم على نفسه بالاغتراب الثقافي،  فتألم كل من قرأ او سمع ما كتبه يوسف في براءته الفاشلة.

                                              ***

لم يخذل محمد فذهب للقاء يوسف. قال له:

- لا مانع ابدا، فيوسف اسقط عن نفسه هوية، ولكنه يبقى صديقا جاء يبحث عن ملجأ بعد ان خذله الآخرون.

في المساء، وفي شقة عارف، تعانقا وابتعد عنه بسرعة، ونظرات محمد تلاحقه في  مشهد مؤلم للقاء حزين بين صديقين ورفيقين بعد فترة طويلة من الفراق، وفي موقف غير مريح بعد ان شطب يوسف تاريخه النضالي بصورة مضحكة وهزيلة.

بدد الحيرة والهدوء بسؤال دون مقدمات:

- هل كنت مقتنعا يا يوسف بصيغة البراءة من الحزب؟

بارتباك واضح، اجابه، بنعم.

وبنبرة حادة هذه المرة، قال له:

- انت كاذب.

سكت يوسف لحظات ثم اجاب:

- انا واثق من كل كلمة كتبتها.

رده بصوت اعلى من السابق:

- بل انت كذاب! لماذا يا يوسف انزلقت الى هذا الدرك وكنت احسبك صامدا كصمود رفاقك في الجريدة.

احتد الصائغ غضبا، وكلماته تتعثر، وتخرج من شفتيه المرتجفتين بصعوبة، وقال:

- اين كنتم  وانا اترقب كل يوم مجيء احد الرفاق الى بيتي.

أجابه على الفور:

- انت كاذب، فقد جاء اليك رفاقك مرتين، وفي المرة الثانية، اعطوك موعدا أمينا للقاء،  بل وقد رتبوا لك جواز سفر لمغادرة العراق.

تدخل محمد كامل بعد ان كان صامتا خلال الحوار الساخن، وقال ليوسف:

- انا شاهد على ذلك. ففي المرة الاولى حين هرّبوا لك القصائد الجميلة التي لم نجرؤ على نشرها خوفا عليك. أما المرة الثانية، فقد سمعت ذلك من الرفاق في موسكو.

طأطأ يوسف رأسه، وحاول ان يتهرب من الحقيقة، حين قال:

- صحيح، وجدت الرسالة  تحت باب الدار، فماذا يعني؟

استطرد عارف بالقول:

- يعني ان الرفاق ارادوا تهريبك الى خارج العراق كما فعلوا مع الآخرين.

- انا لا اصدق!

- لأنك جبان.

حاول يوسف التخلص من الحديث، فقال:

- على اية حال، اعتقدت أن مديرية الأمن العامة تدبر لي كمينا بهذه الرسالة.

رد محمد كامل ببرود:

- يا كمين.. انت في بيتك وبين ايديهم..

سكت الجميع، وفجأة بكى يوسف بحرقة، كانت الساعة قد قاربت الثالثة بعد منتصف الليل.

تحّول هذا اللقاء بين الزملاء والاصدقاء الحميميين، الى تقرير حزبي رفعه الرفاق في لندن الى قيادة الحزب في الخارج (هتخ) للتحقيق في هذا الخرق الحزبي، كما اعتبروه، وطالبوا بمحاسبته وتوجيه النقد له لأن اللقاء بالمرتدين يعرض الحزب الى مخاطر!

 لم يوجه اليه النقد الذي طالب به رفاقه في بريطانيا، بل وجهته القيادة الى كاتب التقرير.


مثقفو العراق يبدون آراءهم بالانتخابات إجراء الانتخابات في موعدها سيجنب العراقيين ضرراً اكبر من أرجائها

بغداد/ماجد موجد

تواصلاً مع ما انتهجته ثقافية المدى في استطلاع آراء المثقفين والأدباء العراقيين حول القضايا المصير التي تهم مستقبل العراق وهو يستعيد أنفاسه بعد نفق ظلمات النظام السابق وما تبعه من دمار وخراب طال جميع ابنيته ومقدراته على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، وبما ان الحدث الاهم الذي يشغل العراقيين ومستقبلهم في الوقت الراهن، هو اجراء الانتخابات العامة في موعدها المقرر والتي تعد الحل الامثل لجميع المشكلات العالقة، ارتأينا ان نتلمس بين الحين والآخر ما يجول في خواطر الادباء والمثقفين عن اجراء الانتخابات ومدى تفاؤلهم في استقراء المستقبل.. وهذه حصيلة آراء من شملهم استطلاعنا وسننشر لاحقاً حلقات أخرى تتضمن آراء ومواقف مجموعة أخرى من الادباء

 

الإرهابيون لا يريدون اجراء الانتخابات

الناقد فاضل ثامر: لا شك في ان العراق يواجه وضعاً امنياً غير مستقر فقوى الإرهاب والعنف تحاول افشال العملية السياسية والديمقرايطة من خلال حمامات الدم التي تغرق بها الابرياء من الناخبين والقوى السياسية والاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في اعادة الاستقرار لهذا البلد، وان هذه الفئات تدرك انها تواجه تحديات كبيرة في مواجهة قوى الإرهاب والردة، وهي قوى تراهن على عدم اجراء الانتخابات لتمرير مشروعها العدواني في زعزعة استقرار البلد وتحطيم ابنيته، لذا فأن الرضوخ لمنطق التأجيل قد يعد انتصاراً (مؤقتاً) لقوى الإرهاب التي ما انفكت تعمل على ارهاب المواطنين وترويعهم بدرجة يستحيل معها اجراء الانتخابات، ومع شرعية الكثير من مبررات التأجيل فانا أرى ان تجرى الانتخابات في موعدها، لكي نفوت الفرصة على الإرهابيين واعتقادهم بانهم قادرون على فرض شروطهم ومطاليبهم غير المشروعة من خلال لغة الإرهاب والتخريب والتفجيرات.نعم قد تكون الانتخابات غير متكاملة بشكل تام، لكنها بكل تأكيد ستكون خطوة إلى الامام في طريق خلق المؤسسات التشريعية والدستورية وكتابة الدستور العراقي الجديد..

وعن سؤالنا ان كان المكتب التنفيذي لاتحاد الادباء يعمل على التثقيف بين الادباء بشأن الانتخابات قال الناقد فاضل ثامر: نحن مع العملية السياسية، ولكننا لا يمكن أن نتدخل في التفاصيل الخاصة المتعلقة بمواقف مختلف أعضاء الاتحاد فهم احرار في اطار ما يرتأون وما يختارون، لأننا بالاساس مؤسسة مدنية مستقلة لكنها تحمل توجهاً سياسياً وطنياً شاملاً بدعم عملية التحول الديمقراطي واجراء انتخابات تشريعية وصولاً إلى استكمال سيادتنا واستقلالنا وسيطرتنا على جميع مواردنا وملفاتنا السياسية والامنية والاقتصادية ومنها السعي لانهاء حالة الاحتلال بطريقة سياسية متزنة.

 

الانتخابات ستنهي الاحتلال

الشاعر الفريد سمعان تحدث عن الموضوع قائلاً: بطبيعة الحال ان اجراء الانتخابات في موعدها المحدد امر ضروري للغاية، لا سيما واننا نعيش في هذه الظروف المريبة التي يتكالب فيها الطامعون بوطننا وحتى تثبت مؤسسات الدولة، يتطلب قيام سلطة شرعية تستند إلى برلمان يعد ويشرع الدستور الدائم ويختار بإرادة حرة وديمقراطية ممثلي الشعب في رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء حيث يستدعي الأمر وضع حد للفوضى الضاربة اطنابها هنا وهناك. ان الأمر يستلزم وضع الحياة في نصابها الحقيقي، وتطمين مشاعر المواطنين الذين يتحملون عبئاً كبيراً في الكثير من متطلبات حياتهم.

وأما المؤسسات الأخرى التابعة للدولة فلا نشعر بقوتها ووجودها إلا من خلال وضع ديمقراطي يستد إلى إرادة الشعب ويتوجه إلى تحقيق طموحاته، ان من يعرقل الانتخابات لا بد من ان يعي بان المحتمل لن يخرج من العراق إلا إذا انتخبت حكومة شرعية لها مؤسساتها الثابتة المستقرة وجيش قوي ومتكامل ورجال شرطة متوازنون متأهبون لحماية امن الناس وممتلكاتهم وكرامتهم من عبث اللصوص والقتلة والسفاحين واصحاب الذمم المريضة. علينا اذن ان نستعد جميعاً لممارسة حقوقنا وخوض هذه التجربة البالسلة والديمقراطية وهو انجاز للخطوة الاولى على طريق المستقبل.

 

عملية اجتماعية يقررها الواقع

وأشار القاص حنون مجيد مسؤول العلاقات العامة في اتحاد الادباء إلى ان الانتخابات العامة حق مقدس ومشروع تمارسه الجماعات والشعوب للإعلان عن رأيها في ممثليها أو من ينوب عنها، ولقد اكتسبت هذه الممارسة الجماعية قدسيتها من خلال النتائج التي كانت تتمخض عنها، والتي غالباً ما كانت ترسيخاً للحق العام على الحق الخاص.

وعودة إلى التاريخ العام لنشاط الجماعات والشعوب، سنرى ان هذه الممارسة لم تكن وليدة الواقع الحديث، بقدر ما كانت نشاطاً قديماً انتخبت الجماعة من خلاله القائد والرئيس والحامي، .. الخ، إذا هي عملية اجتماعية يقررها الواقع الموضوعي القائم على المتضادات لكي تتوصل إلى الكفيل الذي يكفل لها وحدتها ويحدد بالتالي مهامها. ليس من شك في ان الانتخابات قد تطورت واكتسبت صفة الحداثة في الأسلوب المتبع واختيار الممثلين وشرعية الممارسة وشكلها، فهي بذلك اذن واحدة من الأدوات الحضارية التي لا بد منها لكل شعب يريد ان يقرر مستقبله ضمن شروط الجماعة.

ومن هنا فأنني ادعو إلى ممارسة هذه الفعالية ضمن الوضع الاجتماعي القائم الآن كما أراه فيها من اجراء يضمن حقوق الجميع ويحقق الاستقرار والرفاهية التي يتطلع إليها الخيرون.

 

أجراؤها اقل ضرراً من ارجائها

وقال الشاعر إبراهيم الخياط: الانتخابات استحقاق قانوني والتزام دقيق امام الشعب، فأن لم يكن اجراؤها مقدساً، فانه بلا شك سيكون واقية وحافظة لكل المقدسات التي تؤمن بها مختلف الطوائف، ثم ان الانتخابات لو جرت ـ ويجب ان تجري ـ فأنها اقل ضرراً لشعبنا الصابر الجريح من ارجائها، ثم يجب التأكيد على نقطة مهمة اما التأكيد فهو ان المثقفين ملزمون باجتراحه، واما النقطة المهمة فهي ان السيادة والقرار الاممي بانهاء كل اشكال الاحتلال وكل ما احرزه شعبنا عن طريق مرجعياته وقواه، يبقى ناقصاً ما لم تجر الانتخابات في موعدها المقرر، ويمكن ان يكون النقص مركباً ان حصل الارجاء، فالظلاميون وأعداء الديمقراطية والرخاء والاستقرار هم من يسعون غير محمودين لاستلابنا في أول نطق لنهجي ديمقراطية الحياة واستقرارها ورخائها واملنا في ان لا ينجح أولئك المجرمون وأكثر ما يؤمن فشلهم هو اجراء الانتخابات في موعدها المقرر المحدد الذي صار سر حياة العراقيين لتحقيق امالهم.


نثرية العالم في قصائد متشرد

علي بدر

الكتابة عن قصائد الشاعر عبد اللطيف الراشد هي كتابة عن قصيدة النثر، أو بتعبير أدق الكتابة عن نثرية العالم. واعني قصائد ديوان (نزق) والدخول وبشكل كامل في نثرية الحياة. ونثرية الحياة هي الحياة بكل حدتها وعنفها وبساطتها وروحها وجمالها وأحزانها ومتطلباتها البسيطة والحيية والخجولة، وربما تعبر هذه القصائد عن هذه الحاجات فوراً دون جهد كبير دون عناء دون بلاغة، إنها نوع من حك المفردة لمطابقتها مع العالم، حك المفردة لمطابقتها مع الحياة، ومع ذلك فهذه الحياة، وهذا العالم، وهذه المفردات، وهذه القصائد لا تحتاج ان نعبر ظاهرها إلى باطنها، ولا ان نعبر شكلها إلى جوهرها، ولا سطحيتها إلى عمقها، إنما يتوحد فيها كل شيء: ظاهرها وباطنها، سطحيتها وعمقها، شكلها وجوهرها، إنها نوع من الكتابة الميلودرامية التي ترتكز على الحدود الوسطى والهجينة بين الشعر والنثر، وهذه السمة الميلودرامية - إذا صح التعبيرفي هذا المكان - لها قوة إيحاء لا يحمله الشعر ولا يحمله النثر أيضاً.

هنالك جانب آخر في نثرية العالم الذي تحاول هذه القصائد أن تعكسه، هو التصميم على نقل القبح الجوهري للعالم إلى الورقة المكتوبة، في النصوص التي تتوفر على قسط وافر من التخدير، والخمر، والعذاب، والذباب، والوسخ، والكدح والمشقة، نكون على الدوام بمواجهة أنفسنا، بمواجهة شاهد عدل على القبح الجوهري للعالم، نكون بمواجهة فضيحة من فضائح الحياة، ومن الناحية الفنية فإن هذا النص يتوفر على قيمة أخرى هي قيمة الوثيقة، إن الجهد الحقيقي في هذا النوع من الكتابة ينشأ من التركيب البصري للحياة، إنه نوع من التصوير البصري الذي يمكننا أن نتلمس آثاره في الأحداث الحقيقية التي يعرفها الجميع، ولكن هنالك رغبة حقيقية في أن يصبح كل ما هو متدن في المركز، وإن قوة هذه الرغبة وعظمتها وإنسانيتها من أنها لم تأت لغرض اقتسام أمجاد، أو نيل خلود باطل، إنما تأتي من متطلب إنساني كبير كلنا نتناساه ونتجاهله في لحظات الغرور الكاذبة والمباهاة العاطلة وهو - الشفقة -.

وتنبع اهمية هذه القصائد ايضاً من لغتها، اللغة العذبة والطرية والنثرية إلى حد كبير والتي تحولت إلى مرآة حقيقية، وليست زائفة للمشاعر الداخلية من جهة، وللحب المعطل والمهمل والفاقد المفعول ايضاً، فهنا على خلاف الشعر لا وجود للنساء يعلوهن زبد البحر، ولا عيون لا تشبع من الرغبة إنما هنالك اصدق تعبير عن الرفض والخذلان والجوع والتشرد، وكأن الإنسان يقف هناك، بكل إنسانيته المعذبة والمقهورة إزاء نوع من التمسك الأعزل بالحياة التي تريد ان تغادر ولا تغادر، ان هذه المواجهة هي بالاساس مرفوضة ومدانة ومهمشة، ومن هنا تبرز أهمية هذا النوع من الكتابة لأنها تقدم فضاءها وزمانها عن طيب خاطر، إنها صادقة وحقيقية وهي تعبير حقيقي وانساني عن الحب الشقي حتى وأن لم تكن غنية من الناحية السايكولوجية، إلا أنها استعاضت عن ذلك بما يطلق عليه الاختزال الدلالي للأشياء والمشاعر، والذي أنجاها من الإسهاب والإطناب والألفاظ المكرورة والموسيقى الشائعة.

وإذا تبدو هذه الكتابة سهلة فهي ليست كذلك، لأنها لا تنطلق انطلاقاً سهلاً من السحر، وهذه الموضوعات ليست خيالية بالضرورة، إنها كتابة أخبار وترويج عواطف مثل ترويج البضائع النادرة والتي نراها ولا نملكها، إنها سلسلة من أخبار النائمين في الشوارع، إنها العقدة ذاتها، العقدة ذات الآلة الجهنمية التي نسفت كل شيء في الحياة، عقدة الحب والفن غير المتحققين بطبيعة الأمر، والتي جعلت عذاب النوم في الشوارع سهلاً.

إن هذا الولع بالأشياء الكائنة، والأشياء الحقيقية هو الذي أنجى هذه القصائد من التقليد الأدبي الشائع، فالشخصية هنا متمردة، ومتحررة، لكنها مترددة، ومنطوية على نفسها، وهي على درجة كبيرة من الانبساط، هذا التمزق الهادئ يقابل المنظر الحقيقي للقصائد، وهذا من وجهة نظري هو سر المرض الذي يفتك بالشاعر، وما ينفك ينهشه، وإن كان بإمكاننا أن نحذف هذا المرض مثلما يمكننا ان نحذف اية كلمة من شعره، فاننا سنكون فوراً بمواجهة هذه البساطة التي يدفع المرض به الناس للحديث بحميمية خالصة، إنها نوع من الحاجة إلى الآخر، فهذه القصائد تتشبث بنا أو بالآخر اياً كان، تتشبث به مثلما تتشبث اية قصيدة ومهما كان كاتبها بالاطار الاجتماعي الذي تتجه نحوه القصيدة والشاعر، إنه مشهد عزلة حقيقية، يمكننا ان نرى في هذه القصائد عزلة الشاعر، نوبات مرضه، حالات تفككه الحقيقية، إنه يستعيض بالقصائد عن هذا الحوار المقطوع مع الآخرين، وقد يعوضه هذا الحوار عن الوظيفة التي تمنحها هذه الساعات مع الناس. إنه هذيان يكافح حقيقة عن وجوده ضد وجوده، إنه هذيان يكافح ضد أي تمذهب، ضد أي فن، ضد اية ادوات، سوى ادوات الشاعر التشاؤمية بطبيعة الامر، وهذه التشاؤمية الحقيقية لا المصطنعة هي التي تمنحه نوعاً من إغراء الجنون أكثر من اغراء العقل، وماذا يفعل المريض بهذا العقل؟ إنه هذيان يستخدمه كي يتجنب نداء هذه الآلام الضاغطة، إنه الشعور بتقلبات القلب، وتفكك الذات، والأحاسيس، والعواطف المتناقضة، إنه نوع من النزوة القاتمة التي تسكنه، والتي تعبر عن نفسها بسهولة ويسر، إنه نوع من الصفاء الذي يتداخل مع نفسه ولا يعبر عن نفسه، بل إنه نبع صاف وعذب وبريء وكانه انعكاس لملائكة الليل.

إن هذه الكتابة التي تخفي وتتنكر على الدوام لمنطقها، تجدد نوعاً من العذوبة الشفيفة لإنسانية كل واحد منا، لأنني يصعب علي الحديث عن قيمة جمالية هنا أزاء فضيحة من فضائح الحياة، وعذابها وآلامها ولا إنسانيتها والتنكر لمقاسمة الآخرين آلامهم بها، ولكن هناك فرح بالحياة في نوبات التهديد، ونوبات المرض، هذه الكتابة مستودع: للتحبب المفروض، للبساطة الشعبية، للخجل بسبب مراتبية الحياة، وهي جزء من اعتراف فنان ورث تشاؤمية كاملة، وفلسفة كلبية، واتصالاً عنيفاً بالإنسانية التي تدعو إلى جوهر واحد لا ينقسم ولا يتهدم، إنها الشكل الغامض الذي يصور فقدان الأمل الذي يتشبث بأخيلته الواقعية بقوة، إنها نوع من الاستمتاع بهذا الخراب التدريجي للنفس، أنها نوع من الانتحار العقلي، فهنالك وعي حاد بما يحدث، ولكن لا وجود لأية مقاومة، إنها نوع من التجول اللا نهائي في العالم، والهلوسة، والسقوط النهائي.

ما يهمني من هذه القصائد أن الذي كتبها هو فنان من الشعب بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وقد استطاع ان يصور المناظر الشخصية لحياته بلمسة حقيقية اشبه ما تكون بلمسة الكلاسيكيين، ولكتابته قدرة على الايحاء بأخطر الاشياء وأخفاها، لقد شرح لنا ببراعة خالصة حلمه كفنان وحلمه كإنسان في واحدة من أكثر الصور اضطراباً، ولوعة، ومازوخية، إنها إشارة هائلة إلى مصير، إنها روح تفاجئ العالم، وتشي بانقضائه إلى غير عودة، إنها تعبير عن مزاج تشاؤمي، إنها فن حقيقي وخالص يصور لنا الزهرة التي سيشهدها البلبل عبر عذاب طويل، فن كتبه الشاعر عبد اللطيف الراشد الذي أعده فناناً وشاعراً مهماً يجب ان نلتفت إليه.

 

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة