اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الجهاد كنظرية اممية

علاء خالد غزالة

لا يشك أي مسلم في مكانة (الجهاد) كأحد اصول الدين الإسلامي، وضرورته عبر مراحل ظهور وانتشار هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها. كما وتتظافر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة على الحض على الجهاد ووصف مكانة الشهيد كنتيجة لفعل الجهاد، في الدنيا والآخرة. ولعل اكثر الأمنيات قربا للقلب لدى الكثرة الغالبة من المسلمين هي الموت استشهادا، في سوح الجهاد المقدس.

والجهاد، كما هو معروف، هو أي فعل يقدم عليه الإنسان المسلم من اجل الدفاع عن دينه في وجه الهجوم او الاعتداء الخارجي الذي يستهدف انهاء او تحديد او تهميش الدين الإسلامي وهو ما يسمى بجهاد الدفع. كما يعني ايضا المبادرة الى الحرب والسعي لفتح الأراضي والبلدان (الكافرة) من اجل هديها الى نور الدين الإسلامي الحنيف وهو ما يصطلح عليه بجهاد الطلب. وهذا يعني ان لدينا نوعين من الجهاد حسب التعريف الفقهي، نوع للدفاع ونوع للمبادرة. هذا ما كان في بداية ظهور وانتشار الدين الإسلامي، والذي مازال يصلح في نظر البعض الى هذا الوقت، بل وهو صالح الى يوم الدين كما يؤكد السلفيون.

ولست هنا بصدد البحث في صلاحية مبدأ الجهاد الدفعي او الطلبي.. او حتى من اجل اثبات صحة او خطأ ايا منهما. اذ ان من الثابت ان الجهاد في سبيل الله كان هو المبدأ الأساسي وراء الفتوح الكبرى في عصر صدر الإسلام والتي ادت الى انتشاره في بقاع شتى من المعمورة، وبالتالي تغيير الخارطة السياسية والديموغرافية التي استمرت لقرون طوال قبل ظهور الإسلام. ولان مبادئ الدين الإسلامي وروح التسامح التي اتسم بها رافقت المجاهدين في غزواتهم، لم يلق ناشرو الدين الأوائل عنتا شديدا في اقناع الناس المفتوحة اراضيهم في اعتناق الدين الجديد، بل والمحاربة في صفوفه. لقد انتشر الدين برغبة المجاهدين الجامحة للاستشهاد، وبقوة الفكر وسحر المنطق القرآني، وبالمبادئ السامية التي حملوها الى الأمم في اقطار الأرض.

وبينما توقف الفتح الحربي، وانحسرت حتى بعض البقاع المفتوحة كالأندلس، استمر الفتح الفكري، واستمرت امم تدلف الى حضرة الدين الإسلامي طواعية ودون اكراه، اقتناعا بفكر رجاله، او تمثلا بأعمالهم الجليلة. وخلال قرون من الزمن، تكونت خارطة ديموغرافية جديدة، وارتسمت خطوط معينة وحدود فاصلة، كانت الأديان عنصرا فيها وان كان عنصرها الأول القوميات. لم تكن الحروب الصليبية في حقيقتها الا حروبا سياسية استخدمت فيها الشعارات الدينية لخداع شعوب اوربا وتوحيدهم حول قضية ما، ثم جرّت عليهم بسبب ذلك الكثير من الويلات، والمزيد من الفرقة. وهكذا بعد اكثر من خمسمائة عام من ظهور الدين الإسلامي، بدأت اولى المواجهات بين الدينين العظيمين، الإسلامي والمسيحي.. بدأت تحت اهداف سياسية معروفة، وانتهت بإشعار كل من الفريقين مدى قوة الآخر، والاهم من ذلك، حدوده المقدسة.

وهكذا لم يعد هناك من ينادي بجهاد (الطلب) اليوم، فليس هناك من يفكر حتى في خوض حرب لجعل فرنسا مثلا بلدا مسلما. وانتهى على هذا الأساس مبدأ الجهاد بالطلب، او بالمبادرة. ولكن بقي النوع الثاني، الجهاد للدفع. ولاشك ان الدفاع عن النفس والعرض والأرض والمال والوطن ضد الاعتداء الغاشم، هي مبادئ سامية وحقوق مقدسة في كل اقطار الأرض، وتحث عليها جميع الأديان والشرائع السماوية والأرضية. ولكن مورد استخدام هذا الحق، مقيد بقانون ومحدد بنطاق. فأما القانون فهو العجز عن استحصال الحق او دفع الضرر الا بالقتال، وأما النطاق فهو مدى شمولية الاعتداء. فليس من الحكمة افناء النفس في الدفع منفردا ما يمكن دفعه بدون تضحيات، او بتضحيات اقل، اذا اجتمع عليه.

ورغم وضوح النيات السياسية دائما وراء الشعارات الدينية، الا ان العامة عادة ما تنخدع بها المرة تلو الأخرى.. تارة لأنها لا تفهم الا لغة الوعد الديني، وطورا لأنها اخذت تقطف بعض ثمار هذا الوعد، دنيويا على الأقل. وهذا امر عام، استخدمه البابوات في حملاتهم الصليبية، وهناك من يستخدمه في رد ما يدعي انه حملات صليبية.. وصدّام مثال حاضر في الأذهان.

فلو تصورنا ان متطرفين مسيحيون، على الشاكلة التي كانوا عليها في القرون الوسطى، من الذين نظروا الى الدين الإسلامي على انه دين (الكفر والإلحاد)، وان بيت المقدس مدنسة بيد هؤلاء (الزنادقة) وما الى ذلك من النظريات والشعارات التي استخدموها في شن الحروب الصليبية، لو تصورنا طائفة متنفذة من هؤلاء تدعو اليوم الى ابادة المسلمين كما كان يفعل اسلافهم، فماذا يمكن ان يكون عليه الحال؟ لو كانت هناك حركات تكفيرية مسيحية كما تظهر لدى المسلمين اليوم مثل تلك الحركات، فكيف سيكون شكل الجهاد، وتعريفه لدى كل فرقة؟ اذا كانت غاية المرء المسلم، حسب نظريات التكفير المعاصرة، ان يموت شهيدا في عملية (انتحارية) ضد (كافر) ما، فماذا ستكون غاية المسيحي الورع الذي عليه ابادة (الكفرة) بأية وسيلة؟

لقد ارتكبت الحكومات الغربية، خلال تاريخها الطويل الكثير من الفضائع، التي لا ينسبها احد اليوم على الدين المسيحي.. كما ارتكب بعض الحكام المسلمين مثل تلك الفضائع دون ان تعتبر تشويها للدين الإسلامي. فالدين والسياسة سارا عبر التاريخ في خطين متوازيين، وشكلت نقاط التقاطع منعطفات كبرى غيرت مسار التاريخ. ويجب مع زيادة استنارة العقل البشري، العمل على الحد من التقاطع، الذي لن ينجم عليه وفق توازن القوى الراهن الا انتكاسة عظيمة لا يعلم الا الله مدى خطرها


لمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان الحرية بين الوعي والممارسة

د.جمال العتابي

قضية الحرية الإنسانية، والموقف من الإنسان، من القضايا التي شغلت المفكرين منذ عهد بعيد بالجدل والتأليف والتدوين. وشغلت حيزاً كبيراً في آثارهم الفكرية. وظلت ولا تزال قائمة مثارة. فضلاً عن ان مباحثها اتخذت الآن ابعاداً أكثر اتساعاً من ذي قبل، كل ذلك لأنها قضية ومشكلة تتعلق بالإنسان وعلاقاته بالمجتمع والكون.

ان الوجود الإنساني هو اصل المشكلة، والبحث في هذا الأصل لا يتم إلا إذا بحثنا جوهرة، بناءً على هذا فان مشكلة الحرية انما هي مشكلة الوجود الإنساني نفسه.

وإذا سلمنا بهذه الاشكالية. فان (لفظ الحرية) تعددت تفسيراته ومعانيه عند المفكرين والفلاسفة والمعاجم اللغوية أو السياسية. فهناك من يرى ان الحريات هي حق الفرد في المجتمع الديمقراطي، باعتبار ان الحرية هي القدرة على التصرف بما لا يضر الآخرين، فمن ثم كانت هذه الحرية مقيدة بما يمنع اعتداء الافراد بعضهم على بعض. وجرى تبويب الدساتير المعروفة على افراد باب يتضمن حقوق الأفراد وواجباتهم، بما في ذلك الحريات العامة التي تقسم عادة إلى:

1ـ حريات ذات طابع مادي كحرية المسكن وحرية المهنة.

2ـ حريات ذات طابع معنوي كحرية الفكر والاعتقاد.

ونصت المادة (18) من (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) على ان لكل شخص الحق في حرية التفكير والدين والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الاعراب عنها بالتعليم والممارسة والقيام بالطقوس الدينية.

ونصت المادة (19) من الاعلان على ان لكل شخص الحق في حرية الأري والتعبير، وتقول المادة (20) "لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات" ولكل شخص الحق في العمل وله حرية اختياره بشروع عادلة مرضية. كما جاء في المادة (23).

وهناك ما يعرف بـ(الحريات الاربع) الذي استخدمه الرئيس الأمريكي روز فلت التي ينبغي ان تؤمن لكل مواطن وهي: حرية التعبير، وحرية العبادة أو العقيدة، وحرية التحرر من الحاجة، وحرية التحرر من الخوف.

لذلك يطرح التعريف الأخر للحرية، وهو القدرة على الاختيار بين عدة بدائل أو أصول أو فروض في الاختيار ليست متوفرة أو جاهزة، انما هي تتطلب جهداً ونضالاً في شتى المجالات لجعلها امكانية متاحة. فالانسان مقيد بقيود شتى تحول دون ممارسة خياراته، في مقدمتها التكوين الفسيولوجي، والبايولوجي، الذي يفرض عليه قيوداً معينة، وان كان يستطيع ان يتجاوز بعضها باكتساب الخبرة أو بالتربية البدينة والروحية والعقلية. والأكثر اهمية في مفهوم الحرية هو سعي الإنسان لتحقيق خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولكي يحقق الإنسان حريته فهو يسعى دوماً لتطوير النظم والضوابط بما يجعلها أكثر استجابة لنزوعه نحو الحرية، كما يسعى لخلق المؤسسات التي من شأنها حماية حقه في الاختيار.

ويرى البعض ان الحرية قيمة ايجابية تمنح الافراد والجماعات حق التصرف غير المقيد شريطة ألا تمس هذه الحقوق حقوق الآخرين، ولا تتقاطع مع ضوابط وقوانين المجتمع، وتعليماته، ومثله، وعاداته، وتقاليده. وتعد حرية الافراد والجماعات من العوامل الأساسية لتنمية وتقدم المجتمع في المجالات كافة، فالحرية تمكن المجتمع من التقدم الفكري، والسياسي، واداة فاعلة في تحقيق التنمية الاقتصادية، والتكنولوجية، وتعبر الحرية الاجتماعية عن نفسها في مجالين اساسيين هما: المجال الجمعي للحرية، وهو قدرة أو حق المجتمع على اختيار الطريق الذي يسير فيه، وهناك المجال الفردي الذي يمنح الفرد حق التفكير والسلوك الحر الذي يطور امكانياته الفردية، ويفجر قابلياته المبدعة.

ويعتقد هارولد لاسكي ان الحرية هي انعدام وجود قيود مفروضة على الظروف الاجتماعية التي تعتبر بمثابة ضمان تقتضيه الظروف لتحقيق سعادة الفرد. كما يقول روسو: انك لا تستطيع ان تجبر الناس على الايمان بالحرية وهم لا يلمسون الحرية في اطاعة القانون، ويعني هذا ان الحرية الفردية تعني اطاعة قانون المجتمع الذي انتمي إليه، وقد قيل ان شخصيتي ما هي إلا تعبير عن الكل المنظم الذي انتمي إليه.

والحرية الحقة اذن بعيدة كل البعد عن انعدام وجود القيود، فكلما قام المرء بتأدية الواجب على اتم وجه، استطاع التعبير عن نفسه. ويؤكد لاسكي شرط وجود الديمقراطية فبدون هذا الشرط لا يمكن ان تكون هناك حرية. لان الديمقراطية تعني وجود حكومة تتيح للأفراد فرصة اختيار نوع الحكومة التي سيعيشون في ظلها.

ومما تقدم يمكن القول ان لفظ (الحرية) اتخذ مسارات عديدة.. في الدلالة والمعنى.. واكتسى بمضامين عدة في سياق التطور الفكري الإنساني.

فاعتقد الفلاسفة اليونان انه يعني من يعيش في ارضه ووطنه وبين شعبه، ولا يخضع لسيطرة احد عليه. ومفهوم الحر والحرية هذا يقابل عندهم مفهوم الاسير والأسر، ثم تطور المفهوم ليكون من المصطلحات السياسية المرتبطة بدولة المدينة. والمدينة تعني بحسب هذا التطور الاصطلاحي ان من يعيش فيها هو حر، حيث يسود قانون يوفق بين القوة وبين الحق.

وكانت الحرية أكثر القضايا جللاً وإثارة للنقاش بين فلاسفة المسلمين ومتكلميهم كما ان العديد من آيات القرآن الكريم وجد فيها المفسرون ما يدل على الإرادة وحرية الاختيار.

غير ان اشكالية (الحرية) لم تكن أنذاك موضوعة تحت مصطلحات الحرية والاستبداد انما تناولها الفكر الاسلامي على أساس الجبر والاختيار واتسم هذا التناول بالفهم المتباين على وفق المنطلقات والرؤى التي تميز الفرق الإسلامية بعضها عن البعض الأخر.

ففسر الجبريون الإرادة أنها مسبب عن سلسلة من الأسباب والتي تنتهي إلى الله تعالى، فتكون هي اختيار صانع الإرادة، التي هي نتيجة وليست موقفاً اصيلاً للإنسان، وبالتالي لا حرية ولا اختيار بالمعنى الدقيق، الإنسان برأي الجبرية لا يملك القدرة على الفعل، ولا يملك الاختيار وليس هو صانع افعاله، وكل ما يصدر عنه من خير اوشر، ان هو ألا فعل الله وقضائه، وقدره. وابعد من ذلك فالانسان بنظرهم لا يستطيع ان يفكر أو يفعل شيئاً مهما كان صغيراً أو كبيراً إلا بمشيئة الله وقدرته.

ويكاد يتطابق المتصوفة مع هذا الاتجاه، سوى ان الحرية عندهم هي التحرر من كل الأشياء سوى الله. وتتجلى حرية الإنسان عند المتصوفة عند وصوله إلى العبودية الكاملة لله وحده.

وعلى النقيض من الموقفين السابقين، انتصر المعتزلة لمذهب إن الإنسان رب افعاله وخالق لها، وقد اعتمد المعتزلة على ادلة فلسفية لتبرير مذهبهم، ورأوا ان القول بـ(جبرية) الإنسان نفي للعدل من الذات الإلهية. فضلاً عن الدليل النفسي الذي يقول بأنه لدى الإنسان شعور مباشر بالحرية.

بدليل انه يشعر بالفرق بين افعاله الاختيارية وافعاله المجبر على القيام بها. ولو كان الإنسان مجبراً لما كان هناك ثواب وعقاب، بل الأكثر من هذا وذاك، انه لا داع لوضع قوانين وشرائع للحكم أو حتى لا داع لارسال رسل وانبياء، وما إلى ذلك من أوامر تتضمن النهي عن المنكر والامر بالمعروف.

آمن المعتزلة بعقيدة حرية الإرادة، وان الإنسان يختار افعاله، إذ لا يصح ان يجبر الله عباده على فعل شيء، ثم يحاسبهم ويعاقبهم على ذلك، العبد هو الفاعل للخير والشر، والايمان والكفر، والطاعة والمعصية، الإنسان حر مختار وان ذلك مرتبط بعدل الله وحكمته.

ومما يدعم تلك المنطلقات: ويوفر لها الأسس الفكرية المعقولة هو ان الاسلام فتح باب الاجتهاد واسعاً: وهذا يعطي الدليل على حرية الفكر واحترام دور العقل، وحرية الفكر حق للفرد في المجتمع الإسلامي، يكفلها ويحميها القانون وحدود هذه الحرية تتمثل بالطرح العلمي بالدليل والبرهان المنطقي.

ان حقيقة الصراع بين الاتجاهات والمذاهب الفكرية في ذلك العصر كان يجري على ارضية تتجاذبها مواقف وآراء لقوى واطراف سياسية عدة. وتباين حاد في الموقف السياسي من هذا الاتجاه أو ذاك. فليس من المستبعد ان يتهم دعاة الجبرية بأنهم ارادوا بخطابهم الفكري توفير الضمانات والمبررات لممارسات الحكام المستبدين وانحرافاتهم على المستويين السلوكي والفردي.

وشهدت أوروبا اشد حالات التجاذب الفكري منذ العصور الوسطى وكانت موضوعة (الحرية) من أكثر القضايا التي اثارت الجدل والحوار وتبادل الآراء واختلف الفلاسفة في تفسيرها: وتحديد مضامينها من وجهة نظرهم الخاصة.

ارتبطت فكرة الضرورة بفكرة واجد الوجود، وهو الله: واهب الخلق، وهو مركز كل الأشياء، ولا وجود للحرية المطلقة عند الإنسان واخذت فكرة الحرية تنحو منحى مختلفا عما كانت عليه.

فيرى توماس هوبز ان الحرية لا تزيد عن كونها حرية فيزيائية أو طبيعية تتحكم فيها أقوى الرغبات. ان الذي يحرك الإنسان لعمل ما، انما هو قوة الرغبة والسيطرة مع الطبيعة.

وكان فولتير يعتقد ان الحرية محدودة ومتغيرة، وتتمثل بأجمل معانيها في الخضوع إلى قوانين العمل، وعلى الرغم من دفاعه عن حرية الإرادة إلا انه يعتقد اننا نعمل دائماً بمقدار محدد من الحرية بغض النظر عن المبدأ الذي نعتنقه أو نؤسر على هذا الأساس يرى فولتير ان الحرية ليست حقيقة موضوعية، ولكنها مبدأ من مبادئ الحياة التي نعيشها، فعرفها ديكارت بأنها القدرة على فعل الشيء والامتناع عن فعله، ثم زاد التعريف وضوحاً بقوله: انها القدرة الحقيقية والإيجابية في ان يقرر الإنسان شيئاً. وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان. كما انه يميز بين نوعين من الحرية: حرية استواء الطرفين، وحرية الاختيار: والمهم ليس هو لحظة الاختيار، بل اللحظة السابقة على الاختيار.

أي ان يكون للإنسان ارادة تتفوق على العقل وتتخطاه. ويؤكد عدم وجود حرية مطلقة تنشأ عن إرادة ذاتية واختيار ذاتي مطلق.

اما (كانت) فيرى إننا احرار ومجبرون معاً.. احرار من جهة ذاتنا الحقيقية المتعالية مع الزمان، ونحن مجبرون من جهة افعالنا التي تحقق في الزمان، وايماناً بحريتنا يعود إلى شعورنا بان افعالنا متوقفة علينا.

ويتحدث كانت عن كيفية اثبات وجود الحرية عند الإنسان، فينبغي ان يكون الطريق إلى اثبات الحرية، هو التجربة الذاتية، والشعور بأننا قادرون على ان نختار. ذلك ان الاختيار يتكاثر بالبواعث النفسية والدوافع الخارجية المختلفة.

وبعد كنت العامل الاخلاقي، دليلاً لإثبات وجود الحرية عند الإنسان، ويفسره بالشعور الذاتي بالواجب، والواجب بدوره هو ضرورة أداء الفعل احتراماً للقانون.

واحترام القانون بالتالي هو الباعث الاخلاقي.

أما (هيدجر) فيعرف الحرية، بأنها ترك الموجود يوجد. على خلاف ما يراه كيركجارد بان الحرية هي ديالكتيك لمقولتين، هما الامكان والضرورة. اما (سبينوزا) فيعتقد انه لا توجد في النفس ارادة مطلقة (حرة) بل ان النفس مجبرة على ان تريد هذا الشيء أو ذاك بمقتضى عمله أيضاً محددة بعلة أخرى: وهكذا إلى ما لا نهاية.

اتفق الكثير من الفلاسفة على ان الحرية لا تعدو ان تكون رفضاً للضرورة (الحتمية أو الجبرية). والواقع ان كلاً من الحرية والجبرية على طرفي نقيض. لكن علينا ان لا ننسى ان ذكر احدهما ينطوي على ذكر الآخر. ولابد من الاعتراف بان وجود احدهما يتوقف على وجود الأخر.

ان الحرية والضرورة صنوان، والافعال الحرة خاضعة لضوابط معينة، وليست افعال عضوية تعتمد مع الموقف، أو جملة المواقف الإنسانية، ان الفعل هو الذي يصدر عن رؤية وتدبر وتفكر، ولا يمكن ان يكون فعلاً اعتباطياً. ويكون القول أيضاً: ان الحرية تمثل عملية خلق جديد قائم على المعرفة. وقد عبر هيجل عن ذلك بالقول: ان الحرية التي تلازمها ضرورة، انما هي حرية تعسفية، كاذبة، مناقضة لذاتها. ويعتبر مفهوم الحرية مركز فلسفة هيجل، وباعتباره هدف العالم ومبتغاه المطلق. لان تاريخ العالم كما يقرر، انما هو تطور الوعي بالحرية.

والانسان الحر عند هيجل، هو ذلك الذي تنبع قراراته من العقل. وعلى هذا الأساس فان الحرية الإنسانية لا علاقة لها باعمال الفرد التي يقررها بمحض إرادته. ولكنها نابعة من عقلانية الافعال المتطابقة مع إرادة قوانين الفكر فقط.

ويضيف هيجل: ان الافعال الحرة لا تكون حرة لأنها عقلية، بل لأنها ذات صبغة وعي ذاتي أيضاً، وعليه يقرر هيجل: ان العقل الحر لابد من أن يكون عقلياً اولاً، ثم واعياً ثانياً.

ويؤكد: ان ما يضمن الحرية الحقيقة للإنسان، انما هو ذاك الضرب من الضرورة.

وخير من عبر عن ربط الحرية بالضرورة، هم الماركسيون: أنها لديهم تلك التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعرفة القوانين الطبيعية، وتمتد هذا القوانين لتشمل الإنسان نفسه في حركاته وسكناته.

الحرية عند الماركسية هي وعي الضرورة. لانها تنظر للقونين العلمية كونها انعكاسات لعمليات موضوعية تحدث خارج نطاق إرادة الإنسان ويمكن للإنسان فهم هذه القوانين ليستخدمها لمنفعته ولكنه لا يستطيع ان يلغيها، أو يغير من طبيعتها، أو لا يكترث لوجودها. لأنها موجودة في الطبيعة.

ان الادعاء بقدرة الإنسان على ان يملك حرية بعيدة عن الضرورة، إدعاء، ولا يقوم على أساس صحيح، فلا وجود مصادفة محضة. أو بديهيات عقلية لا تحتاج إلى دليل، انما هناك قانون عام تتحدد فيه درجات المسؤولية بالقرب منه أو الابتعاد عنه.

ان المعرفة هي مفتاح الحل لدى الماركسية، ولابد من مصاحبة النشاط العلمي الفعلي للانسان للمعرفة. فهما كفيلان بتضييق دائرة المصادفة.

الماركسيون لا يؤمنون بحرية توصف بأنها ملكة موروثة، أو هبة أو منه أنها نتاج لصراع يدور بين الإنسان والطبيعة من جهة، وبين الإنسان المستغل والأخر والمستغل من جهة أخرى. وعلى ذلك ان يقرر الماركسيون ان الحرية ليست نقيضاً للضرورة أو الحتمية، بل هي على العكس من ذلك، نقيض للعبودية والاستغلال، وهذا يمثل رفضاً كاملاً للنظرية روسو في الحرية كما عرفها في كتابه (العقد الاجتماعي) والتي تقول ان الإنسان ولد حراً..

فيذهب الماركسيون بعيداً إلى ان الإنسان ولد مقيداً بقوانين خارجة عن ارداته..

اما الحرية عند سارتر فهي حرية ملتزمة. بمعنى ان الفرد يجد نفسه اثناء قيامه بالفعل الحر ملتحماً بمواقف معينة، ملتبساً بها، منخرطاً فيها انخراطاً، أنها ممارسة اولاً قبل كل شيء. وتسير في دروب غير مرسومة، أنها حرية الاختيار. دون معارضة لتيارات فلسفية أخرى.. بل من اجل مناهضة الحرية التي ينادي اصحابها بان الحرية الفردية خاضعة لضرب آخر من الالتزام.. يختلف عن الالتزام الذي يتحدث عنه سارتر.. ويعني به التزام الفرد بالظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التي يجتازها المجتمع.

وعلينا ان لا ننسى من ناحية أخرى، ان سارتر قد ذهب إلى انه لا وجود للحرية بدون قيود، فالحرية فعل، طرفه الأول هو الاختيار، وطرفه الثاني يتمثل في تلك المقاومة التي يلقاها الفعل الحر اثناء ممارسته للحرية لا قبلها.

بناء على ما تقدم لم تعد مشكلة الحرية، مشكلة نظرية فحسب، بل هي مشكلة عملية تقوم على الممارسة أكثر من قيامها على التفكير المجهول. وممارسة عملية للفعل الحر، بالارتباط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي لا نستطيع بحال من الأحوال ان نعزل الا نسان عنها، وعلى هذا النحو اتجهت الفلسفة المعاصرة في بحثها عن الحرية باعتبارها حرية في الفعل، ولم تبحث في الحرية السابقة على الفعل.

أياً ما يكون الأمر، فإن أهم ما يجب ان نلتفت إليه في تحديدنا لمعنى الحرية بوجه عام أنها مرتبطة بالضرورة والحتمية، لأن لا حرية بدونهما، لكنه الحرية من ناحية ثانية لابد ان تقوم كذلك على تحرير الفرد من قيود الحتمية المفروضة عليه، سواء كانت فردية أم اجتماعية أم اقتصادية أم تاريخية. وهذا التحرير هو المضمون الحقيقي للفعل الحر.


الرد على الطائفية.. بالطائفية!

في العراق اليوم ثمة ظاهرة يمكن ان اسميها: "ظاهرة تدفق الكلام". مع انحسار الثقافة الصدامية، وليس زوالها التام، وجد العراقيون انفسهم في بحبوحة من حرية التعبير لم تجد بعد ناظماً لها أو مسرباً طبيعياً ينظم مرورها بلوغا لأفضل طاقات الجدوى واطاراً مدنياً من خلال مؤسسات المجتمع المدني التي لم تزل فتية، مضطربة، في طور التشكل واستعادة اللياقة البدنية لتحمل أحزان العراقيين واشواقهم الحارة.

هذا عدا الخوف، وهو من نوع جديد غير الخوف من ذوي البدلات الزيتونية الغابرين، فثمة مجموعات عراقية ما زالت تمتلك قوة ضغط فاعلة، حتى وان القى بعضها السلاح، فثمة أسلحة خبيئة تهدد ليس حرية التعبير فقط، بل الحريات الشخصية فيما يتعلق بمظهر وسلوك وملبس وذوق الناس من الرجال والنساء.

كرست الحقبة الصدامية مرجعيات اجتماعية وثقافية برغم عدم ترحيب تلك الحقبة بمثل تلك المرجعيات، فعد غياب الحراك الاجتماعي الطبيعي، وانشطار المجتمع بين عدوين: السلطة والمجتمع (حيث ابتلعت السلطة الدولة دفعة واحدة) وانكفاء الناس بدون حماية حقيقية من استبدادا وسطو وجناية السلطة (غياب القانون) لم يجد اغلب العراقيين إلا النكوص نحو قيم وتقاليد بادت، أو أوشكت، تحت الشعور بالحاجة إلى حماية من عدو كأسر (سلطة العرفاء الكيمياويين) فانتعشت مع الأسف ثقافة غريبة عن المجتمع العراقي بتقاليده الحية، البديلة، ثقافة متمثلة بمقولات الطائفة والقبلية والمنطقة بل حتى الفخر بالانتماء لمدينة معينة بمواجهة مدينة معينة، من دون الحاجة إلى التذكير بسياسة المركز والتهميش.

أقول اسفاً، وجدت ثقافة الطائفية المغيبة في العراق مسوغاتها النظرية والأيديولوجية بمدى ما تعرضت لها من قمع وتغييب وتهديد، حتى بات الأمر قريباً من استعراض الجراح والاستعانة بغبن شبه تاريخي لحق بهذه الطائفة دون سواها، ولا اعرف هل من حسن، أو سوء، حظ العراقيين ان تتعرض اكبر طوائفهم المعاصرة، لتزدهر، بالتالي، ثقافة من نوع آخر: ثقافة رد الفعل!

من المثير للاستغراب ان نقرأ أو نسمع، أو نشاهد، مثقفين وكتاباً ومحللين سياسيين يطرحون انفسهم كعلمانيين، بغض النظر عن القيمة الحقيقية لما يقولون ولكنهم كثيرون، في معرض ردهم على طائفية صدام ومن لف لفه يبتعثون اسوأ ما في الطائفية من قبرها، وهم يفككون الطائفية بمنهج طائفي ويدحضونها بجدل طائفي ويكسرون رايتها برايات طائفية ويردون على فضائياتها بفضائيات طائفية، لنكتشف ـ ويا للاكتشاف ـ ان اغلب مفكري العراق وكتابه وشعرائه ومتحدثيه وفقهائه هم من الشيعة مثلاً، منذ سيبويه حتى الجواهري!

ما ضرورة هذا المنهج في عراق نريد له ان يكون لنا جميعاً، على اساس من مواطنة المواطن وليس راية الطائفة، بعد ان ضقنا ذرعاً بالحزب الواحد والزعيم الابدي المفدى بالروح والدم؟

وهل يبقى العراقي إلى الأبد محكوماً بخياره المقيت بين الأرنب والغزال وتعود عودة الإمام الغائب ليشمل الأرض بعدله ورحمته؟

أم ترانا نحلم واحداً من احلامنا المستحيلة، المؤجلة إلى..

دعونا نحلم، إذن!

استعارة(*):

"ان تودجمان وميلوسيفيتش وسواهما في يوغسلافيا هم ضحايا التاريخ اليوغسلافي، لقد عاش اسلافهم لعدة قرون في حالة من الفقر والجهل، حيث ملأت الأشعة الفراغ الذي تركه غياب الكتب والوثائق، وبعد ذلك جاءت أربعة عقود ونصف من الحكم الشيوعي الشمولي، حيث نشر الكثير الكثير من الكتب ـ وكلها تحتوي على اكاذيب.

ان الحرب الصربية ـ الكرواتية هي حصيلة بضعة ملايين من العقول المضللة بمجملها، والتي منحت، في نهاية المطاف، حرية التعبير".

(*) روبرت د.جابلان ـ "الكرواتانية/ الجمهورية الجديدة" 1991 ـ غير مترجم للعربية.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة