مواقف

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ديمقراطية اسلامية للعراق؟

بقلم -ايان بوروما

مترجمة عن النيويورك تايمز

ترجمة - احسان عبد الوهاب.

 

هل ان (الديمقراطية الاسلامية) امراً كقولنا ممكن حقاً؟ او انها الى حد بعيد تعبير عديم المعنى هي لعلم اليهودي)، هل هي تعبير يحمل التناقض في ثناياه ككلمة (ديمقراطية الشعب) في النظام الشيوعي؟ هذا هو السؤال الذي سيقرر مستقبل العراق نظراً لان الوجل صاحب المصداقية العظمى في ذلك القطر المحطم. رجل الدين الشيعي اية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي يرفض خوض السباق من اجل المناصب ولكنه يقول بأنه يساند فكرة الديمقراطية الاسلامية، يصر اية الله على ان المجلس العراقي التأسيسي يجب ان يتم اختياره عبر انتخابات مباشرة وان (أي قانون اساسي يكتب من قبل هذا المجلس يجب ان تتم المصادقة عليه بواسطة استفتاء وطني). يعطي السيستاني اشارات خاطفة للعمل بالشرائع كأساس للقوانين التشريعية. تمت مقاومة اية محاولة لتأجيل الانتخابات العامة بسبب القلق على الوضع الامني وبصورة خاصة في المناطق السنية وبصورة عنيفة.

اصدر السيستاني في اواسط تشرين الاول فتوى يطلب فيها من الرجال والنساء التصويت معتبراً التصويت من الواجبات الدينية الاساسية تماماً مثل صوم شهر رمضان وطبقاً لفتواه فإن من واجب الشيعة حماية مصالح اهل السنة والمسيحيين ايضاً، وبالرغم من معارضته لخطة تسمح للأكراد الذين يشكلون ما بين 15-20 بالمئة من السكان بإعطائهم حق نقض الدستور، فإنه لم يخمد آمال الأكراد بالمحافظة على درجة ما من الحكم الذاتي تحت ادارة جديدة، كل هذه هي بالطبع كلمات في منتهى الروعة ولكنها لا تزال في الواقع تنتظر الاختبار وهي كلمات استثنائية لرجل دين مولود في ايران ويجب ان تؤخذ بصورة جدية.

بالرغم من انبثاق الحركات المسيحية المحافظة في الولايات المتحدة مؤخراً، فإن الرأي المعترف بصحته في العالم الغربي هو انه لا يمكن الخلط بين الكنيسة والدولة في الانظمة الديمقراطية. يقال كثيراً ان الاسلام غير ملائم بصورة خاصة لنشوء الديمقراطية، لان الدولة لم تتحرر من سلطة رجال الدين في الاقطار الاسلامية. ولكن يفترض ان، العراق هو حالة خاصة لكونه والى درجة كبيرة علماني التوجه، في الحقيقة ان كلا التوكيدين هما شاملان اكثر مما ينبغي، لانه نادراً ما تم حكم المسلمين من قبل رجال الدين. تم التفريق بين السلطات الدنيوية والروحية في الشرق الاوسط وبصورة طبيعية كانت الاقليات الدينية تعامل بتسامح اكبر في العالم الاسلامي مقارنة بالحالة التي كانت سائدة في العالم المسيحي والى فترة ليست بعيدة، ولكن عندما تصبح السلطات الدنيوية قمعية الى درجة لا تطاق فإن الدين يصبح الاساس الوحيد للمقاومة. هذه هي الحالة التي كانت في بولندا تحت ادارة الحكم الشيوعي عندما وفرت الكاثوليكية ينبوعاً للمعارضة. بدأ الجامع يلعب دوراً مماثلاً تحت حكم صدام حسين. كان الاسلام السياسي طريقة للنضال ضد البعث العلماني، وكان علي السيستاني احد المتحدثين الرئيسيين للشيعة تماماً مثلما لعب البابا دوراً مماثلاً ضد الحكم الشيوعي.

ومع ذلك فإن المحافظين الجدد حول الرئيس بوش يفضلون طريقاً علمانياً نحو الديمقراطية في العراق والى درجة كبيرة. كان نائب وزير الدفاع بول ولفتز في الايام الاولى من الحرب ينوه بصورة متكررة بتركيا (كنموذج مفيد للآخرين في العالم الاسلامي). كانت الادارة تعلق آمالاً على منفيين علمانيين مثل احمد الجلبي وليس على الملالي الشيعة المنفيين في لندن وطهران. تطابق هذا النمط من التفكير مع وجهات نظر شخص اثير اخر لدى الادارة: برنارد لويس الاكاديمي في جامعة برنستون والذي يقول ان الطريقة التي اتبعها كمال اتاتورك في تركيا كانت محسوبة بطريقة صائبة وتتضمن تعزيز التحديث ومحو السلطة الدينية قسرياً من السياسة. قال اتاتورك عام 1917 بانه سوف يغير الحياة الاجتماعية التركية بضربة واحدة وهو ما باشر بعمله في العام 1923. اجبر النساء على خلغ الحجاب، اغلق المدارس الاسلامية ومنع الطرق الصوفية، حتى حرم ارتداء الطربوش التركي في مجتمع جديد تحكمه (العلوم، المعرفة والحضارة).

حدثت ثورات مماثلة او حاولت ان تحدث في اماكن اخرى، بعد عودة الميجاي (لقب الامبراطور الياباني موتسو هيتو والذي يعني السلام المتنور: المترجم). في الستينيات من القرن التاسع عشر دمرت المعابد البوذية تدميراً كاملاً حتى سويت بالارض وباسم الحضارة والتنوير، كانت ثورة الطلاب في الصين في 4 مايس 1919 محاولة لاستبدال التقاليد الكونفوسشسية و (الخرافات) الدينية بالعلوم والديمقراطية. حاول رضا شاه بهلوي في فارس خلال العشرينيات من القرن الماضي تحديث الدولة التي سميت فيما بعد بإيران، وذلك بتهديم المساجد وقتل واعتقال رجال الدين ومنع لبس الشادور، كان البعثيون الاوائل ذوو التوجهات العروبية علمانيين متأثرين بالفكر القومي الالماني، وكان البعض منهم من المسيحيين السوريين.

لسوء الحظ، الذي ظهر من كل هذه الحماسة العلمانية هي ليست الديمقراطية وانما التسلط العسكري، الملكية المطلقة، الفاشية واشكال مختلفة من الستالينية اتت الثورة الدينية التي تتفشى الان في العالم الاسلامي كرد فعل ضد الفشل في تنفيذ السياسات العلمانية الحديثة، ومع ذلك فإن العديد من المحللين المختصين بالشرق الاوسط يتعاطفون مع ادارة بوش. يعتقد دانيال بايبز ان رجلاً قوياً علمانياً يسير على خطى اتاتورك وشيانك كاي تشيك هو الاختيار الافضل للعراق، لان الانتخابات في المدى القصير سوف تأتي (بملالي مشابهين للخميني) الى السلطة، ليس المحافظون الجدد هم الوحيدين الذين يرتابون في نوايا رجال الدين، لقد شق هذا الارتياب المعارضة ذات الميول اليسارية والمعادية للشيوعية في بولندا ايضاً. لقد كان امراً عسيراً لبعض المنشقين ان يساندوا القساوسة ضد مفوضي الدولة الشيوعيين وكما اشار جيري اوبان احد الناطقين بلسان الحكم الشيوعي في اواخر ايامه: ان الاختيار سيكون بيننا ومادونا السوداء في سيشتاد (المادونا السوداء هو تمثال لمريم العذراء المنحوت من صخر اسود ويعتبر رمزاً للكاثوليكية في بولندا: المترجم)، ولكن هل يجب ان يكون الاختيار في العراق بين اتاتورك وخميني؟

ليس للديمقراطية الاسلامية سجل حافل في الماضي، لانها بالكاد قد وجدت لحد اليوم في ايران ديمقراطية من نوع ما ولكنها يتم الاشراف عليها من قبل مجلس لرجال الدين، ربما اقتربت تركيا الى ما يدنو من النموذج الاوربي للديمقراطية كما نعرفها ولو انها مبنية على قيم دينية فضفاضة من دون ان تتحول الى دولة دينية وبالرغم من ذلك فإن العديد من الاوربيين لا يثقون بها ويعتبرها بعض المسلمين اثمة. تتجذر فكرة كون الديمقراطية الحديثة مرتبطة بالعلمانية في روحيتها هي بالطبع جزء من التاريخ الاوربي، لقد كان عصر التنوير الى حد ما هجوماً على سلطة الكنيسة وخاصة في فرنسا، يجب على المنظمات السياسية ان تكون قادرة على اقناع الناس بالمنطق وليس باللاهوت، ولكي تكون عصرياً يجب ان ترفض الدين او (الخرافات) وان تؤمن بالعلم، حسب راي فولتير من ضمن اخرين، انه ليس كافياً ان تضع المؤسسة الدينية في مكانها المناسب ولكن من الضروري ان (تزيل كل هذا الهراء). لقد اصبح الايمان بالعلم كحل لمشاكل الانسانية نوعاً من الخرافة بحد ذاته، وقادت الاشتراكية العلمية طبقاً لرؤية ستالين وماو على سبيل المثال الى انواع معتوهة من التجارب سببت موت الملايين.

ليس كل العقلانيين بالطبع هم متطرفون بهذه الدرجة، فلقد كان العديد من المفكرين التنويريين مثل جون لوك مقتنعين بأن نظاماً سياسياً مبنياً على المصالح الشخصية المتنورة لا يمكن ان يحيا من دون اساس قوي من الاخلاق الدينية. ان هذا النوع من معاداة رجال الدين والذي الهم الستالينيين والسلطويين الآخرين كان من نتائج الثورة الفرنسية وليس من نتائج الكفاح من اجل الديمقراطية نفسها. شكل العداء لرجال الدين اكثر من التطرف الديني الاساس للعديد من التجارب الدموية الفاشلة سياسياً في الشرق الاوسط مثل الناصرية في مصر، البعثية في سوريا والعراق، ونظام الشاه في ايران، ثم ان قيادة هذه الانظمة من قبل نخب علمانية اعتقدت بأن الين الى حد ما يعيق التقدم ويترك البلاد في حالة من التبعية للدول الاستعمارية. ثم ان تعرض العديد من المصلحين ذوي القبضات الحديدية مثل ناصر نفسه الى محاولات اغتيال متكررة من قبل المتحمسين دينياً يشير الى الفجوة بين النخبة (التقدمية) العلمانية والشعب الذي يحكمونه. وعندما تدمر المؤسسات الدينية النظامية فإنه في احوال كثيرة تحل ظاهرة عبادة الشخصية التي تستغل من قبل الطغاة، وعندما يهمش الدين كما حدث في مصر واجزاء اخرى من الشرق الاوسط فإن ذلك يحرض على ظهور التمرد الديني.

هذا لا يستدعي القول بأن رجال الدين المسلمين هم ميالون الى الديمقراطية بصورة طبيعية، ولكن كما اشار مايكل هيرش في مقالة حديثة نشرت في مجلة الواشنطن مونثلي، ان العديد من العلماء المختصين بشؤون الشرق الاوسط يجادلون بأن الدين في الحقيقة وعلى مدى قرون عديدة كان يمثل كابحاً للطغيان في العالم الاسلامي. تدمير المؤسسات الاسلامية التقليدية مثل المدارس الدينية والجوامع باسم التحديث يترك فراغاً اجتماعياً يتم ملؤه في آخر الامر بازدهار التطرف في الفكر الاسلامي السياسي.

عندما استلم اية الله الخميني السلطة كرجل سياسي قائد لم يكن يتصرف كرجل دين شيعي تقليدي ولكن كثوري عصري، وفي اعين العديد من المؤمنين قوضت دكتاتوريته الدنيوية مكانته كشخصية دينية لان المفروض ان الملالي لا يمكنهم التصرف كرجال السياسة، يعتبر الكثيرون اسامة بن لادن رجل دين هاوياً له دراية بالتحويلات المصرفية السويسرية والتأثير على وسائل الاعلام اكثر من معرفته بمشاكل الاسلام المعقدة، ولهذا فمن العسير ان تجد رجل دين وقوراً يكن له الاحترام.

قد يكون من المفيد التأمل للحظة كيف استطاع الغرب التغلب على المشاكل مع الدين، فصل الكنيسة عن الدولة كان في الحقيقة شرطاً ضرورياً لنمو الديمقراطية في اوربا والولايات المتحدة، ولكن هذا الفصل لم يكن ابداً مطلقاً، يتضمن النظام الدستوري البريطاني المؤسسة الدينية النظامية، فالعاهل البريطاني هو حامي حمى المؤمنين الانجليكانيين. من الممكن ان لا يكون هذا في الوقت الحاضر اكثر من اجراء شكلي. لكن في السياسة لدول اوربا القارية، لا تزال الاحزاب الديمقراطية المسيحية تمثل اتجاهاً رئيساً، تم تأسيس اول هذه الاحزاب في هولندا عام 1879 من قبل ابراهام كيوبر وهوقس كالفيني سابق واطلق عليه اسم حزب المعادين للثورة، كان هدفه اعادة الرب (وليس الكنيسة) كملك مطلق على شؤون البشرية، كان يعتقد ولا تزال الاحزاب الديمقراطية المسيحية تشاركه الرأي انه فقط اذا كانت الحكومات العلمانية مترسخة في الايمان بالدين المسيحي فإنه يمكن للمؤسسات الديمقراطية ان تستمر. انا لا اؤمن بهذا الكلام واجد انه من الامور العسيرة لشخص يعتقد بالمذهب اللاادري في الشؤون الدينية بأن يحال في اهمية المؤسسات الدينية النظامية (مذهب اللاادرية هو مذهب يؤمن ان وجود الله وطبيعته وأصل الكون من الامور التي لا يمكن للعقل البشري ان يتوصل الى اليقين فيها: المترجم)، و لن اجادل بأن اناساً اكثر يجب ان يكونوا ملتزمين بالدين، او بأن الديمقراطية سوف لن تزدهر من دون الله، ولكنني اود القول ان اصوات الناس المتدينين يجب ان تسمع، الشرط الاكثر اهمية لقيام ديمقراطية فعالة هو مساهمة الناس بالعملية. اذا كان الانتماء الديني يوفر الاجماع الضروري للعمل بموجب القواعد المشتركة فعليه يجب التسليم بها. لن يكون نظاماً ديمقراطياً حكم رجال الدين الشيعة المؤسس على الشريعة حتى ولو تمت مساندته من قبل الاغلبية ما لم يتم ضمان حقوق ومصالح الجماعات، الاثنية والدينية الاخرى والتوصل الى حلول وسط مع بقية الجماعات عندئذ فقط يمكن للمرء ان يتحدث عن تحقيق ديمقراطية فعالة.

قد يكون هذا مطلباً صعباً، ولكن اذا اخذنا بنظر الاعتبار السجل التعيس للسياسات العلمانية في الشرق الاوسط وفي مناطق اخرى، فإنه قد يكون امراً ذا معنى بأن العديد من الخبراء الممتازين في القضايا الاسلامية قد عارضوا الحل الاتاتوركي في العراق. يجادل ريو مارك كيرشت زميل مؤسسة المشروع الامريكي لبحوث السياسات العامة وهو خبير سابق في وكالة الاستخبارات المركزية بأن اتباع السيستاني الاتقياء يمنحون ليس فقط الامل الافضل لنشوء الديمقراطية، ولكن ربما الامل الوحيد. طبقاً لوجهة نظر كيرشت فإن السيستاني (لكونه من اصول ايرانية فإن ذلك يجعله من دون ريب اكثر حساسية للمأزق الذي وقع فيه رجال الدين في الجمهورية الاسلامية وتصرفاتهم الدكتاتورية، اما في مسألة الديمقراطية في العراق فإنه يمكن له ان يصبح واحداً من اكثر حلفاء امريكا المؤثرين). يجادل نوح فيلدمان استاذ القانون في جامعة نيويورك وبقوة بأن الديمقراطية الاسلامية هي امر ممكن في العراق، ديمقراطية تضمن لهم ليس فقط حق الانتخاب ولكن الحق بأن (يصوتوا لقوانين مغروسة في المعتقدات والقيم والمثل الاسلامية ويمكن للدولة ان تقر بالاسلام وتمول المؤسسات الدينية والتعليم الديني).

قد لا يشاطر معظم الناخبين في الولايات المتحدة اراء الشيعة الورعين حول حقوق المرأة والمواضيع الاجتماعية الاخرى، ولكنهم يدعون بالرغبة في تحقيق سيادة الشعب، سيادة مبنية على الانتخابات الحرة. يبقى السؤال فيما اذا كان السيستاني وأتباعه سيقومون بالمحافظة على هذا الموقف لكونهم يشكلون الاغلبية في العراق ولان الانتخابات ستحابيهم او انهم يتوقون لاجراء الانتخابات كمعتقد اساسي. لن نعرف الجواب حتى يحين موعد الاختبار، عندما يخسر احد الفريقين السلطة ويعطي قبوله بحكم حزب بديل. بذل السيستاني جهداً بالغاً من اجل خلق تحالف شيعي موحد، ولكن الشيعة ابعد من ان يكونوا متوحدين. يمكن لتحالف بين الجلبي ورجل الدين الشيعي المتطرف مقتدى الصدر ان يجذب العديد من الاصوات الشيعية، وسوف يتنافس في كانون الثاني ما يقارب المئتين من المجموعات السياسية على مقاعد الجمعية الوطنية المكونة من (275) مقعداً، كما هو الحال في اوربا من المتوقع ان تشكل هذه الاحزاب مزيجاً من التحالفات (العديد منهم لأسباب دينية على طول الخط) وبعد ذلك سيحاولون تعيين رئيس وزراء ووضع مسودة لدستور دائم، ومن المفترض ان تجري الانتخابات لحكومة دائمية في نهاية عام 2005. وبمعزل عن الانتخابات المحلية للقيادات الاقليمية فإن الاكراد يصوتون لجمعية منفصلة في المنطقة الكردية الشمالية في نهاية كانون الثاني.

قد يبدو هذا معقداً، ولكن ليس اكثر من الوضع في اندونيسيا والتي هي اكبر الدول الاسلامية في العالم من ناحية عدد السكان. قام مجموعة من المندوبين السياسيين العراقيين قبل ثلاثة اشهر ونصف بزيارة لاندونوسيا لمراقبة طريقة اجراء الانتخابات في ذلك القطر، قال عاكف خليل ابراهيم من الديمقراطيين العراقيين المستقلين وهو حزب سني الى درجة كبيرة (الدرس الاكثر اهمية هنا هو ان التعقيدات والصعوبات لا يمكن ان تعيق المهمة، انه عمل يمكن انجازه). عبر مهدي جابر مهدي المندوب عن الحزب الشيوعي العراقي وهي منظمة علمانية في الغالب، عبر عن مشاعر مماثلة عندما اخبر محرراً من وكالة الصحافة الفرنسية ان العراق مثل اندونيسيا يملك تنوعاً من المجموعات الدينية والعرقية وان الشيء المهم هو القيام بـ (ادارة هذا التنوع). واضاف كذلك (كلما استطعت ادارة هذا التنوع بطريقة اكثر ديمقراطية استطعت ان تكون على ثقة اكبر بأن البلاد سوف لن تتمزق). لم تكن مسيرة الديمقراطية في اندونيسيا سهلة في اعقاب سنوات من الدكتاتورية العلمانية والتي تم خلالها قمع الاسلام السياسي والى حد بعيد مثلما حدث في العراق، ولكن النتيجة النهائية لم تكن حكماً اسلامياً اصولياً ولكن نظاماً ديمقراطياً بالرغم من العيوب والنواقص التي تشوبه، نظاماً تشارك فيه احزاب اسلامية تطرح فيه برامجها بحثاً عن اصوات الناخبين مثل أي حزب آخر.

يختلف المسلمون الاندنوسيون عن العرب من دون ادنى شك، فعاداتهم الدينية هي اقل تزمتاً، ولا يشكل التعصب جزءاً من تقاليدهم، وتتمتع المراة عندهم بمرتبة ارفع . ولكن سياستهم يمكن ان تكون بالدرجة نفسها من القسوة، حتى ولو انها كثيراً ما تصاغ بالفاظ من لغة التسامح والرضا المتبادل. استولى الرئيس سوهارتو على السلطة عام 1967 بعد انقلاب دموي ومن ثم قام بقمع الاسلام السياسي بإجبار الاحزاب الاسلامية على الاندماج في كتلة تمثيلية واحدة باسم حزب الاتحاد من اجل التنمية والتي كان عليها ان تقبل غير المسلمين فيها ايضاً. كانت الايدلوجية الرسمية للدولة البانكسيلا وليس الاسلام البانكسيلا مصطلح سنسكريتي يشمل خمسة مبادئ: الايمان بالكائن الاعلى، الانسانية عادلة ومتحضرة، وحدة اندنوسيا، الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لكل الاندنوسيين، يمكنك القول انها عقار مهدئ بما فيه الكفاية مع درجة قليلة من المكر لانه لم يكن هنالك حكم ديمقراطي في عهد سوهارتو. اجبر المسلمون على اعطاء ايديولوجية الدولة الاسبقية على الاسلام فشعرواا بانهم قد سلبوا من هويتهم الدينية. اندلعت التظاهرات في جاكارتا وتمت مهاجمة المسيحيين والمواطنين من اصول اجنبية، قذفت المعابد البوذية بالقنابل. لكن سوهارتو ليس من النوع الذي يتقبل حتى المعارضة السلمية برفق ولهذا قام باتخاذ اجراءات صارمة اجبرت المنظمات الاسلامية على قبول البانكسيلا.

شجع التطرف الاسلامي وتم تمويله من قبل الوهابيين السعوديين، وبدأ يجتذب اعداداً متزايدة من الاندنوسيين لنفس الاسباب التي جعلته رائقاً للعراقيين تحت حكم صدام حسين. عندما يتم تحطيم المعارضة من قبل الحكومات الفردية المطلقة يصبح الجامع الملاذ السياسي الوحيد ، سقطت دكتاتورية سوهارتو بعد احدى الازمات الاقتصادية وخلقت البداية المشوشة للديمقراطية الجديدة حيزاً للمتطرفين المطالبين بقيام دولة اسلامية. ورفض السياسيون العلمانيون انتقاد الاسلاميين خوفاً من اتهامهم بمعاداة الاسلام، وحاول المسلمون المعتدلون اهمال المتطرفين، لكن هذا الادعاء اصبح غير ممكن بعد ان قتلت مجموعة مرتبطة بطريقة فضفاضة مع القاعدة اكثر من مائتي شخص في مرقص للديسكو في بالي، وتوجب على الاندنوسيين ان يعترفوا بان لديهم مشكلة مع الارهاب ذوي الميول الاسلامية.

يمكن ان نستنتج ان سوهارتو ربما كان محقاً بالرغم من حكمه الوحشي والفاسد، ولكنه ابقى على المتطرفين مسيطراً عليهم، بينما اثمرت الديمقراطية الارهاب، ولكن ذلك سوف يكون استنتاجاً خاطئاً، نشوء التطرف الإسلامي هو الى درجة كبيرة نتيجة للأساليب السلطوية لسوهارتو، بل ان الديمقراطية سوف تبرهن على كونها العلاج الافضل، لقد تم ترويع المسلمين المعتدلين والذين لا يزالون يشكلون الأغلبية في اندنوسيا بسبب الاذى الدموي المتعمد الذي سببه الإرهابيون، وسوف لن يصوتوا لأي حزب يرتبط بالتطرف، ما اجبر الأحزاب الإسلامية على رفض المتطرفين علانية .

هل سيكون العراق مثل اندنوسيا ؟ هل ستسمح الديمقراطية بحل الخلافات بين العرب والأكراد، والشيعة والسنة والمتدينين والعلمانيين من دون استعمال العنف؟ من حيث المبدا ، يجب  عليك ان تقول انها ستقوم بذلك ولكن للعراقيين مشكلة لم يواجهها الاندنوسيون، فعليهم بناء المؤسسات الديمقراطية تحت ظل احتلال أجنبي بغيض.

انه امر في غاية الصعوبة بناء ديمقراطية من قبل تلاميذ لمعلم أجنبي فرض نفسه بالقذائف والدبابات ، حتى ولو كان هذا الاحتلال الأجنبي يقول انه يريد ديمقراطية عراقية ايضاً فان أي شخص او أي حزب يقف الى جانب هؤلاء الأجانب فانه معرض لفقدان الثقة به منذ البداية. كلما يصر هؤلاء الأجانب على العلمانية اكثر، فان الاحتمال الأكبر هو تحول الناس الى الإسلام المتطرف، وكلما اطلق الإسلاميون العنان للعنف بدرجة اكبر، فان احتمال تمكن العراقيين من الاقتراع بسلام سيكون اقل، وبصورة خاصة فيما يسمى بالمثلث  السني شمال وغرب بغداد, انه امر حسن تماماً لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد ولقادة الشيعة و الاكراد ان يقولوا بأنهم لا يزالون يفضلون اجراء الانتخابات حتى ولو ان العديد من الناس لن يكون بامكانهم المشاركة فيها، ولكن ذلك لن يحقق الاهداف المرجوة من الانتخابات. اخبر سعد جواد قنديل وهو مسؤول رفيع في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية احد الاحزاب الشيعية الرئيسة صحيفة البوسطن جلوب(ليست هنالك انتخابات مثالية في العالم، اذا كان هنالك البعض من الاقليات التي لا تستطيع المشاركة بسبب الامن، فان ذلك ليس سبباً لالغاء قرار الاغلبية). حسناً، نعم وهو كذلك ، ولكن اذا لم يستطع السنة التصويت فان الديمقراطية العراقية سوف لن تعمل ن لانه من دون رضا الاقلية، لايمكن للاغلبية ان تحكم بسلام ابداً.


رجل المارلبورو والعواطف الخطرة

جودت جالي

منذ زمن بعيد وأنا أؤمن بخطورة الأنسياق وراء العواطف ، فهي على العكس من العقل مسكونة بكثير من الأسرار وفيها من المداخل مايجعلها متاهة يصعب التحكم فيها . بالعاطفة ( ومن مغذياتها الغرائز ) تستلم الكثير من الطرود الملغومة التي لاتدري كيف ومتى ستنفجر عليك . أما العقل فأبرز صفاته كثرة مثبتات الأمان في تصميمه الأساس ، صعب التقبل وصعب الأستعمال مما يوفر فيه أفقا أضافيا يتجلى بالتدبر والتريث ، ويمكنك أن تقلبه قدر ماتشاء دون خوف من مفاجاة غير سارة . ليس فيه شيء خطر حتى في أسوأ نماذجه لأن القدرة على التحقق من الرداءة ممكنة ودون أعراض جانبية أو مضاعفات فقوانينه معروفة . لكن العواطف أمرها مختلف ، أخطر مافيها أنها سهلة التقبل سهلة الأستعمال ، ولذلك غالبا مايلجأ الى توظيفها السياسيون الأذكياء منهم والأغبياء لأنها في ميدان السياسة هي الأقل تكلفة والأسرع أثرا . يمكنك أن تشغل العالم بمنظر طفل يموت على سرير المرض ( ولنقل أن الهدف أحتجاجا على حصار مزعوم سبب فقدانا مزعوما للدواء ) وتسحب أمه وأبيه الى وراء جدار بعيد لتذبحهما دون أن يشعر العالم الراكع باكيا عند قدمي طفلهما الذي يموت . الأنظمة بالعواطف ترقص الشعوب وتضحكها وتبكيها وتقودها الى المحارق . بالعاطفة تجعل الحق باطلا والباطل حقا . بالعاطفة تثير النعرات والأحقاد وتؤلب الناس بعضهم على بعض ، والأسوأ من الأنظمة ( العطفاوية ) هو المثقف ( العطفاوي ) ، اول الخونة وآخرهم ، سيد المنحرفين وشيخ الدجالين ( وهنا أقصد هذا النوع من مختلف الأختصاصات في التوظيف السياسي بدءا من الدين وحتى الفنون الجميلة كالتصوير الذي سيكون ركيزة موضوعنا ) ، لاعب أساس في جملة من الأنتماءات قومية ودينية وطائفية .. وهلم جرا . قدرة الخطاب عنده ملكة الكوارث غير الطبيعية ، يضغط بها على أزرار الأورام  الخبيثة ، ومثله يفعل التتر الجدد على أيقاع متفق عليه حسن الدربة والتصميم  ، أحفاد هولاكو الملثمين ، ومثلهم وعلى نسق جوقتهم وعاظ وحائكي فتاوى الدمار يحلون دم شعب بكامله على خلفية قتيل بريء كانوا أول قتلته بفتاويهم .

صورة الجريح الذي قتله الجندي الأمريكي دخلت من باب العاطفة الى الناس ولعمري لم تكن كثرة عرضها ألا أعادة لدرس مقصود . كلاهما ( الجندي والجريح ) كانا مفتاحا لها ، والحقيقة لايعرف أحد مدى برائتهما أو ذنبهما ، مع ذلك فالمكان الذي أحتله كل منهما في الأعلام كان بمنتهى الوضوح والتحديد ، كما لايعرف أحد خفايا فضائح ( أبي غريب ) ودور الجلاد والمجلود ، المهم أن الصور الشنيعة العارية أزاحت كل شيء من أمام الناس سوى شناعتها، وعرضوا لنا على الشاشات أناسا ( ضحايا ) كشفوا ( مافعلوه بهم )  مع الأبتسامة للكاميرا أو البكاء حسب الطلب ودون حرج  ، الجرائم أرتكبها أمريكيون وصورها أمريكيون ونشرها أمريكيون وأول من أحتج عليها أمريكيون وتلهى العالم بها لهوا موجعا ردحا من الزمن ، وأنني لفي شك من الأمر مريب ، بما في الصور وماوراء الصور ، ولعل أحد التفسيرات التي تطمئن يقيني هو أن الهدف منها أستفزاز عواطف أكبر عدد من( الأرهابيين) وأكبرعدد من الذين يمكن أن يكونوا مشروعا ( للأرهاب ) ليأتوا زرافات ووحدانا وينتقموا للشرف الأسلامي الجريح والدماء المسلمة الزكية المسفوحة في ساحة النزال والجهاد العراق المحتل .

ربما كان سيناريو ( أنه يتنفس .. يتظاهر بالموت ) ثم أنطلاق الرصاص وبعدها ( لم يعد يتنفس الآن ) ليس هو أقصر سيناريو واقعي حقيقي( غير مقصود كسيناريو ولكنه وظف كذلك) في هذه الحرب ولكنه بالتأكيد من أبعدها أثرا وسلسلة التداول الأمريكية تكررت في أخراجه ، أمريكي مئة في المئة ، وحظه في جائزة المهرجان لاخلاف عليه . ولسنا في غفلة لنتصور نشره ونشر توأمه ( أبي غريب ) فلتة من فلتات الديمقراطية ، فما حدث في جامع الفلوجة سبق كتابته في ( أبي غريب ) ، ولاندري أي مكان قادم سنقول أن سيناريوه كتب في جامع بالفلوجة . القتيل والقاتل خسرا النزال ونحن لسنا الرابحين . من الرابح ؟؟

رجل المارلبورو ليس أستثناءا  .. نشرت جريدة الغارديان يوم 26 تشرين الثاني  مقالا بقلم نعومي كلاين تحت عنوان ( التدخين بينما العراق يحترق ) تضمن رؤية حمل فيها على سياسة الولايات المتحدة بعد الضجة التي أعقبت نشر  صورة في اللوس أنجيليس تايمز لجندي أمريكي يستريح بعد معركة منتصرا وقد تدلت سيجارة مارلبورو من بين شفتيه كأبطال هوليود وقد بدت على وجهه آثار وعثاء المعركة وجروحها . الصورة لم تعجب فقط أم الجندي بل أمهات لاحصر لهن دون شك وقد أدت دورها الأعلامي في نفوس الأمريكيين أيما أداء وستؤدي دورا مماثلا في الأثر مختلفا في الزي على مساحة العالم الأسلامي … وكل شيء بحسابه !

المعجبون بما تمثله الصورة من تفوق أمريكي ( ومن رموز البطولة الهوليودية ) أقل مافعلوه التبرع بصناديق من سجائر المارلبورو للجيش الأمريكي منساقين مع اللعبة . هم لايعرفون ماعانته الفلوجة قبل الهجوم ولايهمهم قطعا أي خراب حل بها بعده ، ولايعنيهم المغفلين الذين جعلوا من أنفسهم وبلادهم نارا يتدفأ عليها الأجانب من الصنفين ( فرسان الهمفي وفرسان التفخيخ ) ولاالمجرمين الأذكياء الذين أقنعوهم بأن يكونوا لهم ملاذا وأغروهم بأن لهم  (الحسنيين) معا ، جنة السماء و جنة الأرض ، وبالدولار المدفوع نقدا ، وحاشى لدين سليم أن يضل الناس .

بالعاطفة كلنا أبرياء وكلنا مجرمون ولكن بالعقل وحده يعرف الذنب وتميز البراءة . الرجال الذين ستستفزهم جلسة رجل المارلبورو المسترخية المنتشية لن يحيروا بشأن تدبير الأسلحة والمتفجرات بعد النشر الواسع المتعمد لها والذي أجترحه الأمريكيون بترك كل السبل مفتوحة دون سيطرة لنهب ترسانة أسلحة النظام البائد بعيد سقوط بغداد ولأشهر عديدة ، وسيكون أحد هؤلاء الرجال أو عدد منهم موضوع لقطة أخرى ستكون بدورها الشقيقة الكبرى للقطة منتشية جديدة .    

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة