المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

ماذا جنى التاريخ من رحلة نيبور .. ملامح من الرحلة في العراق والبلدان العربية

د.علي ثويني

يثار جدل حول الجدوى التي جناها مغامرون غربيون تحملوا الصعاب في خوض عباب البيداء العربية، واثار ذلك حالة من التوجس وسوء الظن بهم، واعتبر بعضهم انهم جواسيس، مثلما هو حال المستشرقين الجامعين للمعلومات عن البلاد والعباد بما يمكن ان يرفد مآرب المستعمر، وبرغم كل ذلك اللغط، الذي مازال سجالاً، فان تلك الرحلات تبقى مرجعاً غزيراً للمعلومات افادت الباحثين المعاصرين في التاريخ بما تشكل من مصدر معرفي عن الحياة العربية ابان حالة الاهمال الحضاري والتدويني العثماني، وهي مفارقة حضارية، وعرفان معرفي، رده اهل الشمال للثقافة العربية، بما يقابل مادونه عنهم احمد ابن فضلان البغدادي، في رحلته الرائدة عام 922م.

ويمكن اعتبار البعثة التي اوفدتها الحكومة الدنماركية الى (العربية السعيدة) في العام 1761 واحدة من تلك الرحلات المريبة والغريبة، واسم (العربية السعيدة) هم الاسم الروماني الذي كان يطلق على جنوب الجزيرة العربية وتحديدا اليمن (Arabia felixa) حينما كان لهم صلات وصل تجارية من خلال طريق البخور او ماندعوه قرآنيا (إيلاف قريش).

وتعتبر تلك من أشهر الرحلات الاستكشافية للشرق، لكونها اول بعثة عملية اوروبية الى ذلك العالم النائي، حيث فتحت شهية  الغربيين الى ولوجها بنفر من المغامرين ومنهم قليلو الحيلة والمعرفة، ونلمس احياناً تعاطفا مع بعضهم ولاسيما ممن هلك في لجة الصراع مع تلك البيئات، وهنا تضطلع تلك الرحلة بهذا الهاجس حينما نعلم ان عالم المساحة التطبيقيه (الطوبوغرافيا) كارستن نيبور عاد الى الدنمارك عام 1767 وحيداً محبطاً، من اصل اعضاء البعثة الستة، محملا بما تسنى له حمله بعد رحلة العودة من البحر الاحمر الى مدينة بومباي الهندية ثم آيبا عبر الخليج العربي وايران والعراق واسيا الصغرى ثم البلقان، وقاطعا المسافة مابين القسطنطينية وكوبنهاكن وحيدا على ظهر جواد.

وبرغم المخاطر والمحن التي تمخضت عنها رحلته، فقد حققت مردودا طيبا، لاهمية ماجمع فيها من مخطوطات قديمة ومواد في الاثار والتاريخ الطبيعي، بالاضافة الى خرائط مسح من الطراز الاول للسواحل العربية، والهيئة التخطيطية للمدائن، ناهيك عن التسميات التي حاول نيبور جاهدا ضبطها، وكان ملك الدنمارك قد رعى هذه البعثة، ونسبها اليه فسميت، (بعثة فريدريك الخامس العلمية الدنمراكية الى العربية) ولكنها تعرف اليوم  (ببعثة نيبور) وهي تسمية منصفة الى حد بعيد.

وكانت فكرة البعثة في اصلها من افكار المستشرق الالماني ميخائيليس (Johann David Michaelis) من كوتينكن، الذي كان قد توجه بطلب الى وزير الخارجية الدنمركي بيرنستورف ورئيس الوزراء ايه.جي. مولتكه، الصديق المقرب من الملك يرجوهما فيه التوسط، ويقدم الى الملك خطة تقوم الدانمارك بموجبها بارسال عالم شاب الى العربية من اجل تولي مهام انجاز دراسات ميدانية لمنفعة العلوم الشرقية عامة، والدراسات الدينية بشكل خاص فرحب الملك بالطلب اذ كان يستأنس ان يوصف براعي العلوم والفنون، وأثارت البعثة في حينه اهتماما في الاوساط الثقافية والعلمية في اوروبا.

وتثير سيرة ميخاييلس الشكوك حول الغرض من هذه الرحلة، فهو لاهوتي من عائلة دينية متعصبة، وقد وجه للاختصاص بالاستشراق لمعرفته الجيدة بالعبرية، ولد الرجل بتاريخ 27 فبراير-شباط 1717 في مدينة هالا Halle، حيث كان ابوه (كرستيان بندكت ميخائيليس (1680-1764) استاذاً للفلسفة واللاهوت ومستشرقاً، و كان عمه عالما واسمه جون هنريك (Johann Heinrich) (1668-1738)، عمل استاذا مساعدا للغات الشرقية في جامعة هال كذلك عام 1699، ثم أستاذ كرسي لاهوت عام 1709 في نفس الجامعة وهو يلتزم بمشرب يدعى (التقوى Pietsmus)ن وشارك في انشاء الكلية الشرقية اللاهوتية في جامعة هالا.

وتعلم ميخائيليس الابن في جامعة هالا، وصار مدرسا مساعدا (Privatdozent) عام 1745 في جامعة (كيتنكن)، ثم استاذا للفلسفة عام 1746 في نفس الجامعة، وفي عام 1750 وضع فيها منهاجه لدراسة العهد القديم من الكتاب المقدس (التوراة) على اساس تاريخي نقدي وفي الفترة بين عامي 1753 و 1770 اشرف على تحرير مجلة العلماء (Gottinger Gelherten Anzeiger) وتوفي بتاريخ 22 آب- اغسطس 1791 في وقت صعود ما سميت الحقبة التنويرية في المانيا التي تمخضت عن نتاجات فذة في الفلسفة.

وكان هذا الرجل الذي اثر في علم الاستشراق الاوروبي وحرك نوازع علم الحفريات يدعي كونه بروتستانتيا، مما يشكل حلقة من حلقات الاختراق اليهودي لذلك المذهب المسيحي، ويصفونه بأنه ذا نزعة عقلية في فهم الدين والنظر الى الكتاب المقدس، واكثر الامور مدح عليها هو بحوثة المعمقة في اللغة العبرية، وفي نقده لنصوص اسفار العهد القديم، وفي علم اللسانيات (الفيلولوجيا) الارامية والعربية، وقد وصف بانه وضع منهجا لمعالجة الكتاب المقدس على اساس المنهج النقدي التاريخي، وقد ترك الرجل بعد رحيله مجموعة من المؤلفات اهمها.

1-النحو العبري 1778

2-المدخل الى الكتب المقدسة للعهد الجديد (الانجيل) 1788.

3-الشريعة الموسوية 1776-1780 (5أجزاء).

4-ترجمة المانية للعهد القديم والجديد 1869-1783.

5-معجم المعاجم العبرية 1784-1792.

وقد اهتم باللغات السامية (العربية البائدة) لمقارنة نصوصها ومفرداتها مع العبرية للتوراة، وهو على اطلاع جيد بالعربية واقل من ذلك بالارامية- السريانية، وقد ترك كتابا عن النحو العربي (Arabische Grammatik) غير ذي قيمة لما اقترف به من هفوات.

وقد شارك ميخائيلس هذا صياغة الاهداف المعلنة والخفية للرحلة بما كان يعتبر الوجه المعلن والاكاديمي لها التي أشرف على تمويلها رهط من الميسورين الالمان ومنهم (روتشيلد) اليهودي، الذي نجد سيرته ساطعة في كتاب (احجار على رقعة الشطرنج) ومن ضمن الخطط المعلنة لاهداف الرحلة شراء الكتب والمخطوطات وتدوين المشاهدات عن التاريخ الطبيعي والمعالم التاريخية والكتابات الدراسه وملاحظات علمية حول حركة المد والجزر في البحر الاحمر وامور اجتماعية منها ماهو طريق حقا مثلا العلاقات بين الاحياء والاموات، وعمق الروحانيات وظاهرة تعدد الزوجات واثرها في زيادة او نقصان السكان في تلك الاصقاع وكذلك طبيعة العلاقات بين الرجل والمراة، ونسبة النساء في التجمعات الحضرية والقروية.

ويتعدى ذلك الى الاهتمام بتدوين المعلومات الاستشراقية، حيث دعاهم الى الاسهاب في وصف عادات اهل البلاد ولاسيما تلك التي القي عليها القليل من الضوء بالكتب المقدسة، والكتابة عن طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تربط العرب باليهود ولاسيما في سوريا واليمن. اما التوصيات الخاصة فقد كانت جلب المخطواطات القديمة للتوراة ونسخ الترجمة العربية للتوراة وخاصة للنسخ الضاربة في القدم، وبذلك يمكن اعتبار مغازي البحث في الرحلة تتأطر بالنزاعات الفكرية ابان الثورة التنويرية التي عمت المانيا في اواسط القرن الثامن عشر، والتي حضرت للحقبة الاستعمارية، او حثت على انضاج نظريات الصراعات بين البشر، (كالطبقية والقومية).

وبصدد التنسيق للرحلة فقد تكشلت بعثة من خمسة خبراء بمرافقة ملازم يتمتع بمؤهلات استثنائية، كونه جنديا سابقاً في سلاح الفرسان، فانضم الى البعثة على امل خدمة اعضائها عند الحاجة، ومنذ الايام الاولى للرحله تبين انها لن تكون رحلة سهلة، فالسفينة الحربية التي كان مقررا ان تحملهم الى اسطنبول اجبرت على العودة الى المرافئ الدنماركية مرتين، وفي المرة الثانية، اجل موعد الابحار بسبب مرض ألم بـ كارستن نيبور، واحتاج الى الراحة والعناية، وقبل بدء الرحلة والعناية، وقبل بدء الرحلة من الدنمارك، وقعت عدة خلافات مهدت فيما بعد لتفجير العداء والضغينة بين افراد البعثة في اسطنبول، اذ كان كل من عالم اللسانيات فريدريك كريستيان فون هافن وعالم النبات السويدي بيتر فورشكول يتوليان وظائف رئيسية في البعثة ويعتبر كل منهما نفسه قائدا لها. كما وكان كلاهما يشعر ان بالمرارة لتعيين نيبور مسؤلا عن الخزانة، فهو كان في رأيهما شخصا جاهلا وقرويا جلفا، ومع ذلك فان نيبور هو الذي كان يلعب دور الوسيط ومصبح ذات البين، واصبح بعد وفاة رفيقيه العنيدين قائدا طبيعيا للبعثة.

ويمكن الاطلاع على مدى جدية وخطورة الوضع بينهما في الوثيقة المتعلقة بفترة الاقامة في اسطنبول، فقد اشترى فون هافن كمية من الزرنيخ كافية لقتل 20 شخصا، وهذا ماجعل رفاقه في حالة ذعر شديد، ومع ذلك، فقد كان بإمكان فون هافن التعويض عما فعله وصيانة سمعته لو انه كرس ميله للمخطوطات القديمة والنادرة لدراسة وجمع الكتب القيمة، التي كان قد نشر منها مجموعات كبيرة في القسطنطينية، ولكنه ظل يتصرف بحريه ونزق وطيش، لمدة سنة كاملة من مكوث البعثة في القاهرة، ولم يكلف نسفه زيارة رئيس اساقفة سيناء، فخسر بذلك التسهيلات التي كان يمكن ان يحصل عليها لزيارة دير سانت كاترين على جبل سيناء التابع للكنيسية الشرقية، والذي يحيوي الكثير من نوادر المدونات الروحية وعقائد الشرق، واخيراً وحين قام بزيارة الدير رفض الرهبان اطلاعه على مجموعاتهم الضخمة من المخطوطات العربية النادرة، ناهيك عن عدم بيعه اي منها. وكان يفترض فيه ايضا المرور بجبل المكاتب ونسخ منقوشاته، ودراسة مدى علاقة مضمونها بالتقاليد والحكايات المتوارثة، واقتصر اهتمامه على الشعر واللغة العربية، ولهذا لم يندبه أحد حين توفي اثر اصابته بالملاريا في اليمن، وكان فون هافن اول المتوفين من اعضاء البعثة.

اما السويدي بيتر فورشكول، فهو من اكثر اعضاء البعثة ثقافة، فقد اظهر قدرة اكبر على الاستفادة من الفرص التي اتاحتها له الرحلة قبل وفاته في مدينة بريم مصابا بالملاريا في صيف العام 1763، وقد كان معجبا بمعاصره عالم الطبيعة السويدي (كارل فون لينيه) وتلميذا له، وعمل جاهدا على افادة استاذه مما اكتشفه وجمعه من مختلف النماذج النباتية، وحين وصول خبرة وفاة فورشكول الى السويد، كرمه وخلده (لينيه) واطلق اسمه على نبتة من فئة القراص المصرية، لوصف العالم لينيه نبتة الفورشكول، بانها عنيدة، قاسية، برية، مستعصية وخشنة الطباع.

وكان كارستن نيبور مجهول في الاوساط العلمية الاوربية قبل التحاقة بالبعثة الى (العربية) ولم يتعدى طموحه منصب مساح اراضي، وفي كوتينكن سمح له بالانضمام الى دائرة ميخائيليس، صاحب الفكرة، الا ان الذي لعب الدور الاهم في بلوةر اهتمامات نيبور كان استاذ علم الفلك توبياس ماير، اذ علمه طريقة تشيد ما كان يعرف بالاسطرلاب، والطريقة التي طورها لتحديد المسافة الجغرافية بواسطة الابعاد القمرية، واصبح نيبور باستعماله الالة المصممة لقياس ابعاد الاجرام السماوية عن الافق خير مطبق لفكرة ماير العلمية، وكان نيبور بالنسبة لماير كما كان فورشكول بالنسبة للينيه، كان الاستاذان الالمانيان قد شددا في توصياتهما على ضم نيبور الى اعضاء البعثة لقدراته في ملاحظة ووصف العادات اضافة الى وفاءه وتكتمه وموضوعيته وحرصه في المصاريف، وحسن تفهمه وتقييمه للامور، وفوق كل ذلك تشديده على العناية بالتفاصيل الدقيقة، واخلاصه نحو المهام الموكلة اليه، وبذله قصارى الجهود لحل المشاكل المستعصية.

وحقيقة ان نيبور هو الذي تغلب على محن الرحلة وحافظ على صحة جيد، نسبيا، لايمكن تعليلها بنشأته الفلاحية فحسب، بل وبقدراته الفذة على التكيف واتباع تقاليد الحياة الشرقية التي راقبها عن كثب، فهو كان يعتبر ارتداء الثياب العربية التقليدي مسالة في غاية الاهمية، وقد ساعدته في التغلب على ظروف الطقس القاسمية وغير المألوفة، وسهلت له مهمة رسم المدن وتحديد مواقعها بالنسبة لبضعها، فتنقل في طول البلاد وعرضها دون ان يلفت الانظار اليه، وعند وصوله صنعاء عاصمة اليمن، حصل على ترخيص من الامام بالاقامة فيها ماشاء، وهذا ماسمح له ولأعضاء البعثة تقييم النتائج المحققة حتى ذلك الحين، ولم يثبط وفاة عالمي البعثة من عزيمته، واستمر بحزم وثبات العمل طيلة الاشهر الثمانية اللاحقة لوصوله، الا انه اضطر في نهاية الامر الرحيل الى بومباي بسبب مرضه، ومن اجل حماية ماجمعه فورشكول من النماذج النباتية والحيوانية، ووفرة مذكراته.

كما وفرق القدر بينه وبين اخر رفيقين له من اعضاء البعثة اثناء الرحيل على ظهر السفينة التجارية الانكليزية المتوجهة الى بومباى، وهما زميله الرسام باورينفايند، والطبيب كريستيان كارل كرامر، ولم يكن نيبور نفسه بصحة جيدة بعد الرحلة البحرية الشاقة، وعانى من المرض ومتاعب السفر، فاضطر للبقاء 14 شهرا في الهند قبل استعادته الشعور بالقدرة على الشروع برحلة العودة، وكان في مدينة بومباى فعلا ونشيطا كعادته، وامضى وقته في استكشاف كهف المعابد الشهير على جزيرة الفيل، وعاد بالباخرة مارا بمسقط في عمان وكتب عنها ورسم ملامحها، وكذلك مدائن بوشهر وشيراز وانقاض مدينة بيرسيبوليس.

وبرغم المعاناة الجسدية، فقد نجح نيبور في نسخ القسم الرئيسي للمذكرات والنقوشات الباقية على احجار برسيبوليس الدراسة (نقش جمشيد)، التي يرجع تاريخها الى عهود الفرس الاخمينيين، علما بانه لم يكن قادرا على قراءة كتابات داريوس وزيريكسيس المسمارية، ولكنه نسخها بعناية دقة متناهيتين، وهي لاتزال النسخ الدقيقة الوحيدة الموجودة، وهذا مامكن الاسقف مونتر وراسموس راسك والالماني جروتفيند من فك طلاسم الكتابة المسمارية ووضع الاسس لتفهم اعمق للحضارات السومرية والبابلية والاشورية في العراق العتيق الذي اعتبر مفتاحا لمعرفة التاريخ البشري قاطبة.

وبسبب اهتمام نيبور بالرسم تحت أشعة الشمس الساطعة تأثرت عيناه مما ادى تضررهما بشكل دائم، جعله يعيش ضريراً اواخر حياته، وفي نوفمبر 1765، لخص رحلة عودته عبر بوشهر والبصرة الى بغداد، ثم الموصل وحلب وقبرص، عن طريق يافا والقدس الى دمشق، ومرورا بآسيا الصغرى والقسطنطينية، وامتطى ظهر جواره عبر اوروبا، ووصل اخيرا الى كوبنهاكن في نوفمر عام 1767، فاستقبل بمظاهر الحفاوة والتكريم وعين نقيبا للمهندسين، وفي وقت لاحق، منح العضوية في عدد من الجمعيات العلمية والثقافية، واحدثت كتب رحلاته الارعة التي نشرها على حسابه في المانيا، وكذلك نشرة لاعمال فورشكول النباتية والحيوانية، اثارة كبيرة واكسبه شهرة في اوروبا وفي العام 1772 كان يعتزم القيام برحلة ثانية، الى السودان عبر طرابلس هذه المرة. لكن زواجه ادى الى تغيير خططه، وعندما سئم منصبه العسكري، تقدم بطلب وحصل على وظيفة آمين سجل ريفي في المنطقة التي ترعرع فيها، وقضى بقية حياته في قرية ميلدورف شاغلا نفسه بقضاء المهمات الرسمية، والعمل في حديقته ومزرعته، وكان قد اقلع عن النشاطات الادبية لعدد من السنين، الا انه عاد استأنف نشر المقالات والدراسات في المواضيع الشرقية، بباعث من سيل الزيارات الذي لم ينقطع حتى وفاته في العام 1815، تهافت الكثيبرون على تلقى العلم عن (العربية السعيدة) على يديه.

وقد كان نيبور قد وصف في بعض مقالاته ملاحظاته التي نقل بها صورة الحياة في البلاد العربية ابان تلك الحقبة، ورسم لنا بعض مشاعد الحياة والعمائر وتسنى له ان يرسم خريطة لسواحل الخليج العربي، ومن الطريف انها لم تشتمل على شبه جزيرة قطر، ووصف في طريقه 92 قرية على الخليج وكتب اسم الكويت (Koueit)  بالضبط وترك لنا مخططات للمدن التي زارها، ناهيك عن وصفه لاوضاع المدن المعاشية والاجتماعية في حقبة العجز التدويني والحضاري التركي، فملأ فراغا تاريخيا يحمد عليه.

وقد دون بعض ملاحظاته الدقيقة عن طبيعة العرب منها حادثة ركوبهم من جدة الى اللحية، حيث اراد كل من الحاكم والتاجر المسافرين على ظهر السفينة ان يدفعوا للربان اجرة ركوب هؤلاء الاجانب، لكن نيبور رفض ذلك شاكر للرجل كرمه وتسائل متهكما وناقدا في مذكراته فيما اذا كان يمكن ان تحدث مثل تلك المبادرة الطيبة من قبل الناس في اوروبا لصالح مسافرين عرب؟ ثم أردف ووصف شعوره عندما وطأ اللحيه قائلاً: (كنا في غاية السرور، وان العرب اكثر لطفا وحفاوة كلما ابتعدنا عن مصر).

ومن طرائف وصفه للبصرة ابان حكم الترك لها قوله: (كانت البصرة اوسخ مدينة رآها في الشرق، فكان طقسها رطبا لايحتمل، وكانت بالوعات شوارعها تنز، وكانت العربات لاتنقل اللذين سقطوا بسبب ضربة الشمس، الا بعد ان يصبحون جيفا وتنتن رائحتهم، وكان الذباب لايحتمل، وقد قضيت بها اربعة اشهر). ولم يكن يريد ان يسافر من البصرة الى حلب عن طريق الصحراء مباشرة بسبب وجود اللصوص وقطاع الطرق في بادية العراق الغربية، فأضطره السفر الى بغداد ووصلها يوم 9كانون الثاني- يناير 1766، وقد مر على الفرات الاوسط ووصف بعض مدنه وقراه وتسنى له ان يرسك صورة للمشهد الحيدري في النجف الاشرف ويترك لنا مخططا لشوارع مدينة النجف يعتبر الاقدم في خطط المدائن العراقية، ثم زار مشهد الامام الكاظم (ع)ووصفها، ورسم ملامحها من النهر، ووصف كذلك مشاهدته لبيوت بغداد قائلا: (البيوت التي ليس لها نوافذ والاماكن الضيقة التي تجعلها حرارة الشمس كالافران) وقد تسنى له ان يدرس تاريخ المدينة الحديث ولاسيما اخر 48باشا مع تاريخ حكم كل منهم وخارطة للشوارع والقلاع، ومن الجدير بالذكر ان ملك الدنمارك الذي تبنى تلك الرحلة قد مات عندما كان نيبور سائحا في شوارع بغداد.

وسافر الى الموصل يوم 8آذار-مارس 1766، وحز في نفسه عدم استقباله من طرف بعض المبشرين الاوروبيين القاطنين فيها بسبب سفره مع قافلة لليهود ووبخوه ووصفوه بأنه كافر ووثني واغلقو الباب في وجهه، مما اضطره الى ان يستعجل السفر وتم له بعد ثلاثة اسابيع عن طريق ماردين ثم حلب التي وصلها يوم 6 حزيران-يونية ثم الى الاسكندرونة وبعدها الى جزيرة قبرص، ولم يعر اهمية للحرب التي كانت ناشبة فيها بين اليونان والاتراك، فسافر الى يافا في 30 تموز-يوليه على ظهر سفينة فرنسية ومكث وحدد موقعها ثم عاد الى صيدا ثم اللاذقية عن طريق طرابلس ومنها الى حلب ومنها الى اسطنبول. وقد وصل الى مدينة كوبنهاكن في تشرين الثاني –نوفمبر 1767، وقد ترك وصفه للرحله على مجلد من 1500 صفحة وهي جديرة بالعناية من الباحثين بما تحلت به من موضوعية وحيادية.


نشيد الانشاد والتناص مع الشعر السومري

2 - 2

1-النص السومري

ناجح المعموري

وبمجرد ان تدفق من حضن الملك ماء القلب، فعلى جوانبه انبثقت الزروع وعلى جوانبه نبت الحب: وبقربه زخرت بنمو نباتها السهوب والمروج.

1-نشيد الانشاد

استيقظي يا ريح الشمال، وتعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمره النفيس.

4: 16

*قد دهلت جنتي يا أختي العروس

قطفت مري مع طيبي أكلت شهدي.

مع علسلي شربت خمري مع لبني

5: 1

2-النص السومري

أي اختي الجميلة، اريد الذهاب معك لتفقد حقولي... أي اختي اريد الذهاب معك لتفقد بستاني! أي اختاه اخصبي لي بستاني. أريد الذهاب معك لتفقد بستان التفاح لكي أتناول بيدي ثمار تفاحي! اريد الذهاب معك لتفقد شجر الرمان واقطف منه الحلو والمعسل.

2-نشيد الانشاد

نزلت إلى جنة الجوز لانظر إلى خضر الوادي، لأنظر هل افعل الكرم، هل نور الرمان

5: 11

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل..

لننظر هل أزهر الكرم، هل نور الرمان هنا لك اعطيك حبي

7: 10 - 12

3-النص السومري

يا مفضل إنليل، انت لي، تعال (قربي) في الليل! ابق معي الليل بكامله! تعال (قربي) في النهار! إبق معي النهار بكامله!

19: 10 - 13

*سوف يضع يده في يدي وقلبه على قلبي، كم هو عذب ومريح النوم ويدي في يده، كم هي كلية اللذة حين يلتصق قلبه بقلبي.

3-نشيد الانشاد

إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال، أذهب إلى جبل المر وإلى تل اللبان. كذلك جميلة يا حبيبتي، ليس فيك عيبة.

4: 6 و 7

*شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني، احلفكن يا بنات أورشليم.. ألا يتقظن وتنبهن الحبيب حتى يشاء

2: 6 و 7

قدم الاستاذ علي الشوك ترجمة دقيقة وذكية لعدد من النصوص السومرية (في روائع الشعر السومري: الجمل 78) وساهمت هذه النصوص بتسليط ضوء آخر على التشاكل القائم بين سفر نشيد الانشاد والشعر السومري وبالذات على ماله صلة عميقة بطقوس الجنس المقدس والزواج الالهي. ويكاد يتفق أغلب الذين درسوا نشيد الانشاد على التعالق القائم بين الشعر السومري والنص التوراتي. وكما يجب الاشارة إلى وجود مؤثرات مصرية قديمة، متمثلة في نصوص الغزل والحب وهي تأثيرات إطارية في الموضوع وسيادة الغنائية وكمركز الذات العاشقة وذوبانها الروحي في علاقة صافية، نقية. وتكشف لنا النصوص المصرية

(مصر ومجدها الغابر: مرجريت مري. لجنة البيان العربي / القاهرة 1957)

عن الوحدة الداخلية في النص وتآزر عناصره والانفتاح أمام التعدد والتنوع مثلما هو حاصل في الشعر السومري ونشيد الانشاد. كما انها - المصرية - افادت من الطبيعة واماكنها لحشد الطاقة التعبيرية الكامنة في الرموز المتماهية مع المرأة / الجنس، من اجل ان تكون الدلالة أكثر عمقاً وشمولاً. ويؤكد هذا بان شعر الحضارات الاولى محكوم بعناصر الموضوع وخصائصه الفنية يا حبيبي، تعال إليّ في الحديقة

ان حبيبتي مثل كل زهرة

تنضج عطرها

فارعة العود ممشوقة القوام مثل نخلة تتيه بشبابها.

وفي كل خد من خديها وردة حمراء (ن.م: 468) وتبدت ايضاً مؤثرات الديانة الكنعانية في نشيد الانشاد من خلال الطقس الديني وإيلاء اهتمام بالملك الذي هو امتداد للاله السومري / والكنعاني في وظائفه وخصائصه الدينية / والسياسية / والبايولوجية. وحتماً كان للشعر الكنعاني دور وبنسبة ما في صياغة نشيد الانشاد. لأن القراءة الموضوعية لا يمكن لها تقليص مساحة التأثير الجغرافي / الحضاري والتقليل من التأثر، كما هو في السفر التوراتي. لأن الحضارة الشرقية متجاورة مع بعضها البعض، وللديانات المركزية دور فاعل - مثل السومرية - في انتاج وصياغة النصوص الاسطورية، والقصائد. لذا بالامكان التأكيد على ان نشيد الانشاد، نص إستفاد من الحضارات المجاورة. لكن هذا لا يمنع من الإعلان عن الدور السومري الفاعل، وتأكيد التأثر، ووضوح التناص بين النصين. وهيمنة المجال الحضاري السومري، من خلال نصوص الجنس والزواج الالهي لا يقلل من التبديات النصية للحضارات الأخرى في نشيد الانشاد.

أخيراً سيظل نشيد الانشاد مثار الجدل والاختلاف في الاوساط المهتمة بتاريخ الحضارات في الشرق الادنى القديم، وخصوصاً بين المهتمين بالخطاب التوراتي واصول الديانات العراقية القديمة / السورية / الكنعانية / المصرية من أجل كشف المؤثرات الثقافية / والدينية لها، والمتبدية  فيما اسماه "العبران" بالمآثرة الثقافية الوحيدة لهم.

وسيظل هذا السفر مثيراً للاسئلة، ومشجعاً للبحث في المجالات الجوهرية للحضارات والكشف عن الاصول والينابيع المبكرة. ويكاد يلتقي نشيد الانشاد مع سفر التكوين من حيث الاهمية الفكرية لهما.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة