وزارة البيئة مدعوة الى الإفادة من خبرات علماء نفس البيئة
أ.د. قاسم حسين صالح
رئيس الجمعية النفسية العراقية
من بين أهم أنواع الفقر الثقافي المصاب به المجتمع العراقي عموماًَ، هو
إننا لا ندرك تأثير البيئة في شخصيتنا وسلوكنا
ومزاجنا.فعلى سبيل المثال نظرت محاكم بريطانية في شكاوى
أشخاص، تتعلق بالتوتر النفسي الناجم عن الاقامة في مناطق
سكنية تتعرض للكثير من الضجيج، كما عُزيت واحدة من حالات
الانتحار في الاقل الى أثر الضجيج في الحي الذي يسكن فيه
اولئك الأشخاص.
ولهذا اهتم علماء النفس بهذا الموضوع ونشأ فرع جديد هو
(علم النفس البيئي)، الذي حددت مهمته بدراسة العلاقات
المتبادلة بين البيئة الطبيعية والسلوك الانساني،
والتفاعلات بين الافراد وبين الظروف الطبيعية المحيطة
بهم.وهذا يعني ان التأثير في هذه العملية لا يقتصر على
تأثير البيئة في الانسان، بل يشمل أيضاً تأثير الانسان في
البيئة.
فمن حيث المبدأ، تؤثر المظاهر المادية والاجتماعية للبيئة
فينا بعدد من الطرائق.وقد يكون هذا التأثير ميّسراً
لسلوكنا أو معيقاً له، أو يمدنا بالموارد التي تعمل على
تحسين نوعية الحياة، أو يضغط علينا بالمتطلبات التي تتجاوز
قدراتنا على التدبر مما يؤدي الى نتائج سلبية في الصحتين،
البدنية والنفسية.و بعبارة اخرى، فأن البيئة إما أن تكون
مصدراً للثواب أو مصدراً للعقاب.وتزودنا البحوث المتعلقة
بالاوضاع السلوكية بقدر كبير من الاستبصار حول تأثير
البيئة، وتميل الى اعتماد منظور خارجي في تقويم العلاقة
بين الوضع المحيط وبين السلوك.الا ان البيئة تؤثر حتى في
الحياة الانفعالية والدافعية للشخص.
التهديد والتحدي – التوتر النفسي
يعنى هذا المنظور بكيفية تأثير البيئة في حياتنا
الانفعالية.ففي دراسة دور البيئة المادية والاجتماعية في
تطور السلوك المضطرب، يمكننا الافادة من بحوث التوتر
النفسي والضغوط التي تعنى بدراسة ما تنطوي عليه البيئة من
تهديد أو تحدٍ للفرد.فقد تمخض البحث في الضغوط النفسية عن
نتاج علمي ضخم يمكن تصنيفه في ثلاثة محاور رئيسة:
* الضغط بوصفه مثيراً
* الضغط بوصفه استجابة
* الضغط بوصفه عملية.
وتوصل الباحثون الى ان النتائج الصحية التي ترتبت على
الضغط تضمنت الآتي:
* الاضطرابات الانفعالية بأنواعها المختلفة.
* المشكلات المختلفة التي تصنف في باب اساءة استخدام
العقاقير او اضطرابات الادمان.
* قائمة من الامراض الجسمية لا يزال عددها في تزايد.
و قد توصلت البحوث الحديثة الى نظام لتصنيف المثيرات
البيئية حددتها بأربعة :
* الأول: الضغوط المحيطة، مثل الصوت، والحرارة، والمناخ،
والتلوث، والاكتظاظ، التي تتباين في شدتها من المستوى
الضعيف الى المستوى الحاد، وتأكد انها تؤثر في الصحة
النفسية للفرد.
* الثاني: الضغوط الفجائية، مثل الحرب، والكوارث، وهي
شديدة التأثير، وتصيب مجتمعات بكاملها.وغالباً ما تكون
آثارها مزمنة لدى الكثير من الافراد.
* الثالث: الضغوط الحياتية، وفي مقدمتها البطالة والطلاق
وموت الاعزاء التي كثرت الآن في المجتمع العراقي.
* والرابع:الضغوط الجزئية، التي لا تشكل احداثاً رئيسية
مسببة للتوتر، الا ان تراكم المنغصات الصغيرة قد تؤدي الى
الكثير من التوتر.
الضجيج
تشكل البيئة العراقية أنموذجاً للضجيج بحده الاعلى، فعلى
مدى ربع قرن كانت البيئة العراقية تنفرد عن بيئات العالم
بكثرة ضجيجها، لا سيما سنوات الحروب، واصوات القنابل،
والانفجارات، والطائرات، فضلاً عن ضجيج الشوارع.باختصار،
كانت بيئتنا، ولا تزال، ملوثة بالضجيج.ومن المفارقات، أن
البحوث تشير الى أن ثلاثة ملايين عامل في امريكا يعانون
مشكلات سمعية بسبب ضجيج المعامل التي يعملون فيها، فكيف
بالعراقيين الذين صار لهم اليوم الهادئ في حياتهم
استثناءاً.والذي لا يخطر على بال، أن تأثيرات الضجيج لا
تقتصر على الصحتين الجسمية والنفسية، والقلق، والاجهاض،
انما تتعداها الى التأثير في النمو العقلي للأطفال، مثل
اكتساب اللغة والانتباه والقدرة على القراءة.
والظاهرة السلبية التي ينبغي الانتباه لها، ان جيلاً
كاملاً من الشباب، ولد في الضجيج، ونشأ في الضجيج،
ولايزال يعيش في الضجيج.وما يخشى عليهم، انهم قد يعتادون
الضجيج، دون أن يدركوا انهم قد يصابون بأمراض جسمية،
ويفقدون قدراتهم السمعية مبكراً، فضلاً عن تعرضهم للإصابة
باضطرابات نفسية وسلوكية، في مقدمتها:حدة المزاج، والقلق،
والميل الى العدوان.
وزارة البيئة و الصحة النفسية
حسناً فعلت الحكومة أن استحدثت وزارة خاصة بالبيئة، غير أن
الأهم هو أن تقوم هذه الوزارة بدور فاعل، لاسيما في اشاعة
الثقافة النفسية الخاصة بالبيئة بين الناس.ومع ما تبذله
هذه الوزارة من جهود مشكورة، فاننا نقترح عليها أمرين :
* الأول:أن تعمل على اصدار تشريعات تضمن حماية الانسان من
التأثيرات السلبية للبيئة، وتضمن حماية البيئة من تلويث
الانسان لها.
* والثاني:التعاون مع علماء النفس، لاسيما بعلم النفس
البيئي، ليس فقط في مجال اجراء البحوث الميدانية، بل في
وضع برامج لإشاعة الثقافة النفسية الخاصة بالبيئة، التي
ينبغي ان تعتمدها بوصفها الخطوة الأولى لإنجاح
استراتيجيتها.
|