المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الحب هو خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها .. إليغوريا الحب في شعر رعد عبد القادر ورينيه شار (1-2)

*علي بدر

(أحاول أن أرمم فؤادي بكسر من النجوم، أحاول أن أغلق منافذ وقتي، ألبس غيمتك، أزر علي المطر، أخرج جنحي، استلم الشروق بيد والغروب بيد، وأفرح ملء الجهات)

(نص في الحب) للشاعر رعد عبد القادر.

(السنوات تمرّ. العواصف انقرضت. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني أن أشعر أن قلبكِ هو الذي لم ينتبه إليّ. كنت أحبك. وأنا غائبُ الوجه، فارغ الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ)

قصيدة مآثر explois لرينيه شار

*

الحب ؟

من أين تأتي فتنته وهيمنته طالما أن الشاعر الذي يعذبه الجمال يؤلمه الحب، ويزاوج مرة واحدة بين وحدة انفعالاته مع المحبوبة والطابع الفظ لمصيره.

الحب؟ من أين تأتي إشراقاته الجسدية وكلماته، من أين تأتي إثارته وتأثيراته، من أين تأتي لعنته وانحرافاته، من أين يأتي قبوله والاذعان لسلطانه؟ الحب هو سيد كيوبيد كما سماه بيروان Berown في قصيدة جهد الحب مضاعا: صاحب السلطان... الشماس الحقيقي للتنهدة الفكهة... الشرطي في العسس... سيد الأسلحة المطوية... الملك المكرس للتنهدات والأنات... مولى المتسكعين والساخطين... الإمبراطور الأوحد والجنرال العظيم للمنجمين المسرعين...:

" وليكن الشاعر عريف ميدانه الذي يرتدي إشارته كطوق الحمام الضاحك.." كما يقول بيروان.

ولكن من أين تأتينا نصوص الحب؟ من أين تتسرب إلى خيالنا ولغتنا ومعانينا، من أين تأتي لغتها الموهوبة وكلماتها، من أين تأتينا انفعالاتها وفصاحتها بينما الحب هو الذي يخرس ويصمت ويذل ويبيد ويغل ويفني كما يقول بارت في مقاطع من خطاب عاشق.

 إنها تأتينا، ربما، من طغيان الحب على ضمير الشاعر، تأتينا من ترف العاشق، ومغازلاته ومغامراته، تأتينا على الدوام من نزاع خالد ومعذب لشاعر فرض بكل قوة معرفته الدنيوية النيرة بكل ما فيها من شعبي وزهدي وهوسي ومفكك على كل ما هو متعال وسري ومقدس وبلغة أزيائية حاضرة، بلغة كورتوازية متأنقة، شعبية، اصطناعية، لياقية، سحرية، وبنص للحب.

نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص طالع من الجسد ومن ترفه، من هوسه وحنينه، من شبقه ورغباته، من غموضه واضطرابه، من شهوته وانتصابه، نص يصنع من الحب إليغوريا الحب، نص يصنع من الكلمات واقعة للحب، واقعة طالعة من فجر الحب ومن غروبه، من ليله ونهاره، من وجوده ومن عدمه، نص من خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها.

نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص متأنق، نص يستمر بقوانينه الخفية المضطربة، نص يشكل نبذا مستمرا لكل حياتنا الرسمية، وضغطاً على كل اقتصاد في فتنتنا الجامدة، هو نص يتراءى وراء حجاب اللغة الثقيل، وكأنه صورة عظمى لفوضى حياتنا واضطرابها، صورة بكر لأشد ما في حياتنا من إظلام وخذلان وتعقيد.

نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينيه شار، نص يؤمّن من خلال فوضى أخلاقنا وعاداتنا نوعا من التجميل الغامض لكل ما في حياتنا من خيبة، لكل ما فيها من ميل غريزي إلى الشقاء، ويكشف في الوقت ذاته عن المثل العظيمة التي لا تكون إلا في تدمير فتنتنا، لا تكون إلا في هذا الوهم الذي له كل هذا السلطان الذي لا ينكر، هذا الوهم الذي يتحول بعد سوء الاستعمال إلى قواعد للسلوك، الذي يشكل طبقاً إليّ تحديداً غامضاً لإسطورة شخصية لكل واحد منا.

*

(كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين).

رينيه شار من قصيدة مآثر.

أنت حبي من سنوات

دوختي إزاء انتظارك

الشيء الذي لا يشيخ ولا يبرد

رينيه شار من قصيدة بتريسيا تيري Patricia Terry وتعلق نانسي كلاين بيور في كتابها "التنوير في شعر رينيه شار" أن الكسوف معقوب على الدوام بالعودة الأبدية وهكذا حين ينهي الشاعر قصيدته الخاصة فإنه لا يستنفد الشعر.

*

يقرّب رينيه شار الحب من الحدس، من الصيف الذي يغرد، من هذا اللّهب الحيِّ الذي يحلّق فينا ويطلع منا، من الأمواج العاتية التي تضع أجسادنا في استعارة شعرية جديدة، من زمن الحب الذي يبحر فينا كما لو كان طبيعة مبيدة وتائهة، تحملنا وتقدمنا من زمن خالد ومشتعل، إلى زمن يبرق ويصعد إلى الأعلى، إلى زمن يجعل من الحب ضياء أنقى من النور القادم من الأعلى، إلى زمن يحلق فينا، ويجعلنا حيوانات طائرة كما قال ألبير بيغان Albert Béguin في كتاب النفس الرومانتيكية والحلم.

من أين نحصل على الحب إذن، من المآثر الباهرة التي يصنعها الجسد، من التأمل الذي لا ينضب في وجه المرأة، من الرغبة الكاسحة بشعرنة جسد المرأة والذوبان فيه، من رؤية الوجود والتفكير فيه، من تأمله وتفسيره وتأويله، من حكاية عن الحب صنعتها المعرفة الشعرية، واللغة المتعالية، والخيال الخلاق، رينيه شار مثل رعد عبد القادر كلاهما يطرح الوظيفة الأدائية للشعر قوة براطيقية، وحلماً ميتافيزيقياً متسامياً، ويصبح الحب إليغوريا عظيمة، وجسد المرأة يمنحنا معنى جديدا، أعظم من المعنى الذي يطرحه الفيلسوف والحكيم، والأخلاقي، والمبشر.

شعر الحب هو النبض العاطفي الذي يتجلى في النص ويسميه بارت بمطاردة الخيال، فالعاشق السعيد ليس في حاجة الى الكتابة، "إنه عاشق لأنه يبتكر المعنى ..الحب أخرس الشعر وحده يجعله ينطق".

*

اللغة في نصوص الحب هي اعتراض مثيولوجي على اللغة ذاتها، هي المدخل السحري إلى عالم إيروس العظيم، هي الإيماءات الإحتفالية التي تتحول إلى علامات، لغة الحب لغة ملتهبة، ونصوص الحب تحتوي على الدوام على صور ملتهبة، صور يحتمها توهج النفس واشتعال الجسد، إنها استعارات يصعب تحديدها وتبينها، استعارات لا تدرك إلا بوصفها موضوعا للحلم، نصوص الحب هي انفتاح على الآخر، على المرأة وإدراكها ضمن حكاية شعرية، إدراكها بنوع من العقلانية، بنوع من الخيال الخلاق، نصوص الحب هي مزاوجة بين الأحلام المستعادة ولذة النص، لا تفضي إلى لحظة صفاء خالص وحسب، إنما تفضي إلى لحظة من لحظات تأمل نقي، إنها نظرة ذات عمق إلى جسد المرأة ووجودها، رغبة كامنة في إضفاء معنى على العالم، عودة إلى ينبوع الحياة، إلى نار البدائية التي خلقت العالم، عودة إلى النفس الشاعرة والحالمة التي تبتدع العالم، المرأة التي نحلم بها هي المرأة الموجودة كما نحلم بها، الشعر وحده الذي يجعل من المرأة المحلومة امرأة موجودة.

*

"أخبر نفسي مرة أخرى

ما عرفته من قديم

الجمال المحطم بالغائط والكسر، أنت حبي وأنا محط رغبتك، الخبز الذي طبخناه في الليالي المحببة، مثل ملك قديم يتقدم فاتحا ذراعيه الاثنتين".

رينيه شار chants de la Balandrane


أدباء ومثقفو البصرة يبدون آرائهم بشأن الانتخابات:  الهدف هو بناء مستقبل أفضل للعراقيين

 البصرة - عبد الحسين الغراوي

مع اقتراب موعد الانتخابات التي باتت تشكل هاجساً وطنياً للعراقيين لانها ستضعهم على أعتاب تجربة حضارية جديدة غيبها عنهم النظام السابق، بل انها بالنسبة للأدباء والمثقفين تجربة يطمحون ان يكون لهم دوراً فيها من خلال حقهم  الانتخابي .

عن هذه التجربة الوطنية الديمقراطية استطلعت (المدى) اراء عدد من أدباء البصرة. الناقد حاتم العقبلي رئيس اتحاد أدباء البصرة قال عن الانتخابات.

لا يمكن عزل وجهة نظر المثقف والاديب العراقي عن الراي العام العراقي، من هذا المنظار الى الانتخابات القادمة باعتبارها التأسيس السليم للمشروع الديمقراطي العراقي، وان اية محاولة لعرقلة هذه الانتخابات او تأجيلها يعني الانحراف بهذا المشروع التأسيسي للبلد ويؤكد العقبلي: ان مثقفي البصرة وأدباءها من خلال تماسي الميداني اليومي بهم، ينظرون الى هذه الانتخابات باعتبارها الفرصة الأكثر قدراً لتأكيد تطلعاتهم الديمقراطية من اجل بناء مجتمع عراقي يحترم التقاليد الدستورية ويؤكد روح المواطنة العراقية الحقيقية .

المجتمع المدني

ويرى الكاتب والتشكيلي خالد خضير ان الانتخابات هي حاجة للبدء بالصفحة التالية من تاريخ العراق الديمقراطي او ان اهم شروطها اعطاء المجتمع المدني دوره الهام والمؤثر في ان يسهم في رسم الحياة القادمة في العراق دون هيمنة من الأحزاب التي تزحف بصلاحياتها معظم الوقت تجاه حقوق المجتمع.

الديمقراطيون العلمانيون

في حين ابدى القاص قصي الخفاجي رأيه في ان المثقف العراقي هو الوجهة الفعالة للمجتمع المدني وعليه مهمة تفعيل ابداعه لفضاء الحرية بالإضافة الى أهمية دوره في ابلاغ رسالة الحرية الى الناس البسطاء.

ان هذه التجربة وهي الثانية والأرسخ بعد تجارب البرلمان الليبرالي في حقبة العهد الملكي، ستنتج التجربة كخطوة مهمة للتجارب المقبلة، وسيؤكد الديمقراطيون العلمانيون دورهم واهميتهم في الصعود الى واجهة العملية السياسية.

اما الشاعر احمد العاشور فيقول

اتوقع ان تكون الانتخابات بحالة صحية والمثقف والاديب واي مبدع عراقي في ميدان حلقة الابداعي سيمارس الانتخابات الديمقراطية بنسبة 100% حرة ونزيهة تعبر عن طموحات شعبنا الوطنية.

القاص عبد الكريم السامر كان رأيه مغايراً لزملائه حيث يرى ان موضوع الانتخابات شائك ومع  هذا لا يمكن تركه او التخلي عنه ومهما تكن نتائجه ضمن المؤكد ان قدرة هذا الشعب الذي تعرض للويلات ستجعله يتخطى مرحلة صعبة من مراحل مستقبله وهي مرحلة مازال الرهان على فشلها والوقف ضدها يتصاعد من اعداء الحياة، ولكني كمواطن عراقي اؤكد على ان الانتخابات ستنتج حتماً وستعطي ثمارها.

وتحدث القاص سامي الكنعاني عن دور الاديب والمثقف في الانتخابات وهو محور سؤال (المدى) الى نخبة من ادباء ومثقفي البصرة حيث قال:

دور المثقف في الانتخابات هو توعية الوسط المحيط به لاختيار من يمثل ارادة الحق والعدل وترشيح الديمقراطية وبأن تجربة العراق الجديد وتمثيل طموحات الشعب وتطلعاته نحو مستقبل عراقي افضل.

الكاتب عادل علي عبيد قال:

يتمحور الاديب البصري ضمن هذه التجربة الاستثنائية بتجسيد رسالته  التي لها علاقة باستقطاب التوجهات الوطنية من خلال كشف الادوار الحقيقية للممارسة الديمقراطية التي يجب ان تتوج بتجربة الانتخابات والتي نتوقع لها ان تكتمل لتفوت الفرصة على اعداء العراق الذين يربكون عملية التوجه البنائي التي تقود هذا البلد الجريح نحو الرقي والبناء الجديد .. وعليه فان الانتخابات مطلب وطني جماهيري يجب ان يتحقق من اجل العراق أولاً وأخيراً..

وخلال استطلاعنا لرأي القاص عبد الحليم مهودر عن الانتخابات قال:

الانتخابات ظاهرة حضارية ولا بد من اجرائها في الوقت المحدد مهما يعترض سبيلها من تدخل يهدف الى تقويضها وافشالها  فالعملية الديمقراطية هي استمرارية العمل وأنا شخصياً لا اتوقع ان تكون الانتخابات القادمة خالية من التجاوزات .

ان الديمقراطية في العراق سوف تجعل كثيرا من دول  الجوار، ان تغير استراتيجيتها بالنسبة لحكوماتها وشعوبها وهذه التصورات المستقبلية هي بداية للتغير على مستوى المنطقة وليس العراق..


الشاعر فوزي كريم في عودته الى قبو الأسرار على دجلة

 

الكتاب : عودة الى كاردينيا

 المؤلف : فوزي كريم

 الناشر: المدى ‏2004‏‏

 كاظم محمد

 

في أزمنة الخوف والقهر وتسلّط الفكرة الواحدة، تختّل علاقة الفرد بمحيطه الخارجي -بشر وأمكنة ومشاهد- بفعل انحسار الحياة، وغياب القدرة على الاختيار أو الأمل. ويختبئ الضمير والوجدان والعقل ، في أقاصي الروح  المعذّبة.

فكيف يكون الأمر، بالنسبة لشاعر؟ كان اولئك البشر، وتلك الأمكنة والمشاهد جزءاً من مكوّنات روحه، وخياله، ونقاء صلته الاولى بالحياة، وهو يرى كل ذلك، يشوّه ويُقتلع من جذوره، بأيدٍ تخرج من ظلمة التاريخ، مهووسة بالثأر والانتقام، لتحرق كل ما هو أخضر على الأرض.

مخلوقات، بمخالب الحقد الأسود، لاحقت الطرائد الهاربة في دروبها الموحشة  ولم تقبل، بعد ذلك، بأقل من شعب خائف، مذعور، وجمهور مباد ببارود حروبها وباحات قتلها السرّية.

انه احتراف القتل مهنة، وهواية البحث عن الطرائد، في أمكنة لاتسلم من الهدم والتخريب، كيلا تكون ملاذا آمنا لفرائس القتلة، وأن تكون مثلما كانت يوما، في مشهد العراء.

وهي، أيضا، المدن المستباحة، تحت خطوهم الثقيل، ضحية ثأرهم لعراء الصحراء وجفافها، ثأر الشوك من الوردة، والسيف من القلم.  قد تتوارى الأشياء، والكثير من الكائنات،  وراء ستارة الرعب والموت، ولكنها تبقى حيّة في أعماق الذاكرة الوفيّة، ذاكرة الشاعر -الانسان، الذي لايمكن أن يكون بدونها، تنتظر زمنا آخر وحياة مختلفة، للظهور بقواها الكامنة، قواها اللازمنية، لتفرض وجودها على الأزمنة القادمة، بفعل تشكلاتها الانسانية، وبكونها علّة للكثير مما حدث بعدها.

الى هناك، قصد الشاعر فوزي كريم، بذاكرة ملأى بصور الأمكنة والناس، ومشاهد الطفولة والأصدقاء، ضمن مشهد أوسع من حياتنا العراقية، التي حولها برابرة البعث الى جحيم.

ولم يرد، لعودته هذه، أن تكون بحثا في التاريخ الشخصي. فتاريخ الفرد، برأيه، كثيرا ما يكون إيهاميا، وربما خادعا، لذا تصبح السيرة الشعرية، هي الأقرب الى ما يريده من كتابة، تعتمد الذاكرة، والوفاء لها.

وان مثل هذه الكتابة تضمن له (فاعلية شخصية مستقلة، وعلى قدر من الحرية).

فالتاريخ له شأن آخر في الحكم على الماضي.

لهذا، لم يبدأ بحدث تأريخي: إنقلاب..إغتيال سياسي..تأسيس حزب.. إستلام سلطة...الخ. بل كان الدخول من بوابة الخمّارة (كاردينيا)، وبساتين محلته الصغيرة (العباسية). لقد شكّلتا (لحنين متداخلين في اغنية رقيقة باكية). اغنية أُقتلع مغنيها -الشاعر من جذوره، يوم اقتلعت سلطة البعث الاستبدادية لحنيها الجميلين من ضفتي النهر، بفعل قوة غاصبة، مدمرة، لا يعنيها (حكم التاريخ)، ولا أحكام الزمان. لكنهما، ظلا حيّين في ذاكرة الأوفياء لجذورهم، ولحن اغنياتهم، مثلما هما الآن في ذاكرة فوزي كريم، يطاردان رؤاه وأحلامه، ووفاءً، يجد لهما مكانا ولغة في حاضره.

فيوم وجد الشاعر نفسه (مقذوفا بين ثنيات البرد الأزرق)، ينوء تحت ثقل الضيف الغريب، وأحاسيس المتشرّد، في أمكنة لا يعرفها، كفّ عن التدخل فيما سيأتي بلا رغبة في (التهام المستقبل)، يومذاك، أوقظ، أو أيقظته، تلك الاغنية الباكية في ذاكرته، بلحنيها المشرّدين. أخذته الى مرآتها القديمة.

وبدأت سيرة الشاعر، قصيدة حياته، من نزهة صباه، في (العباسية)، بين أشجارها وأدغالها الممسرحة في خيال طفولته، بغرابة الصور وسحر الكلمات. ومن الامسيات المضيئة بضحك الصحبة، ودفء أسرارهم، على موائد (كاردينيا)، بزرقة سقفها السماوية، الحائلة اللون، وصوت ام كلثوم الذي لا يفارقها. إنها (قبو أرواحنا السري).

في تلك السنوات البعيدة، لم يتحقق للشاعر (اللقاء بين يد الله ويد آدم)، ولم تخفق الملائكة في فضائه، الذي أراده رحبا (احبه يملأ وجه الأرض / ويفتح الزهو الذي يريد). كما أن قسوة التجارب، ومرارة ألأيام، قد تركت ندوبها في روحه المتطلعة

الى افق الحرية (إنها موقدة في الدرب أيامي / ولي صوت تكسّر).

وظلت ثنائية شجرة التوت والدفلى، في بيته الطيني، على دجلة، تلاحقه في منفاه البعيد، مغرقة أحاسيسه، بصداها ألقوي. حيث تتحول شجرة الدفلى الى الغجرية (كارمن)، وتصير العاشقة الناعمة (ميكائيلا) شجرة توت تظلل (اوبرا كارمن) التي أضاف الشاعر لموسيقاها، نكهة من حياته.

وتظل الأفكار والصور، تتناسل، وتتباعد، في ذاكرة الشاعر، وتتخذ مصائر الأمكنة والناس، ألوانها، وأشكالها، من نحت الحياة، وتذكار الروح المعذّبة بثقل الأسرار.

وكان نهر دجلة، وحده، (حبل الوصل السحري)، بين الشاعر وأساطيره، التي تكوّنت هناك. فهو (نهر الستينيين)، الذي حملت ضفافه أسرارهم، مثلما احتضنت مياهه الكتب التي ألقتها جيوش هولاكو، أو يدا السيد اللبناني، الذي كان، وقتذاك، قيّما على شؤون (حسينية الكرادة).

ولم ينس الشاعر وجوه أبناء محلته الصغيرة، وكان لهم حضورا تشكيليا مؤثرا ضاجّا بألوان الحياة، وفضاء البساتين، الذي يحتضن بيوتهم، وأحلامهم. تلك الأحلام، التي كانت لها عذوبة النهر، وتدفق مياهه الصافية، حولها برابرة البعث الى كوابيس سوداء، ودروب للمنافي البعيدة. مثلما هو حال نهرهم، الذي تحول الى جدول أدغال، وقمامة.

ويتذكّر الشاعر، علاقاته مع أبناء جيله، وقتذاك، منهم :

شريف الربيعي، الشاعر (الوجودي) الذي كان يعيش حياته بروح ساخرة وعدمية في (حوض الضحك المجاني). وأخرجه تيار الحياة العامة، فيما بعد، من (اهاب المثقف المحترف)، بتوازنات صعبة، أثرت على عمق تجربته الشعرية.

عبد الأمير الحصيري (بوهيمي بغداد) الشاعر الذي كان يتردد على مجالس الأصدقاء، في خمّارات بغداد، بقامته الفارعة، وشعره الأسود المنسدل على كتفيه، وبدلته السوداء المتهدّلة. كان (مظهرا رمزيا) لجيل توهم النور في 1958، فكان له الرماد لونا أبديا، طغى على كل حياته القادمة.

فاضل العزاوي، الشاعر الذي ظل يحث الناس في المدن العراقية (المسكينة)، على طريقة غينسبرغ في هجاء امريكا، أو على طريقته في مواجهة نيويورك (اخرجوا الى الشوارع وانسفوا العالم القديم بالقنابل).

أحمد خلف، كاتب قصة (لم تكن قدرته بحجم رغبته)، إذ ليس هنالك قدرات مسموح لها بالتحقق داخل سلطة البعث (التي تأخذ المواهب من ياقاتها وتلقيها في هاوية المخاوف والمساومة).

سامي مهدي، شاعر وهو (أعرف الكثيرين بذر قطرات البول على جرح الضحية) فهو مثل الباقين من شعراء البعث الذين وقفوا (ضد أنفسهم، ضد الأنسان في دواخلهم). ولا تتشكّل القصيدة لديه الا من الأسى الذي يسببه الشعور بالذنب.

جمعة اللامي.. (بعثي مستجد وشديد الحماس في استنفار ذكائه النظري....وانسان على درجة عالية من الالتباس وضحية حاجة مرضيّة الى ايمان عقائدي شبه ديني...

ظل يتطلع، وهو في دور الضحية الدائم، الى مقعد الجلاد، دون أن يحقق مبتغاه).

موفق خضر، على الرغم من كونه بعثيا، فان (مجرد ارتباطه بسلطة، كان يربك روح الطفل فيه ويملأه بالمخاوف).

منذر الجبوري، يتذكره الشاعر ككاتب تقارير حزبية لا أكثر.

نجمان ياسين، يبعث تقريرا عن الشاعر، لأنه أشار، في أحد اللقاءات، الى(أدبية) كتابات ميشيل عفلق.

عزيز السيد جاسم، (شبه ريفي معبأ بقوى نظرية هي حصيلة جملة من العقائد المغلقة مستلة من الكتب وتتناسل فيما بينها ولا تمس تربة الحياة ولا هواءها. لقد وجد في الحزب الذي استلم السلطة طريقا حديديا لتفريغ حمولة حصاده من تجربته كمفكر شيوعي....لجأ في عزلته ألمتأخرة الى الأفكار التصوفية، بفعل الذنب).

أما اتحاد الادباء، يومذاك، فقد أصبح (قبوا من أقبية الجحيم).

ولكن فوزي كريم لاينسى من ظل حريصا على أن يكون نموذجا أمثل للشاعر والانسان، ومثله في ذلك الشاعر حسين مردان، الذي كان شاعر العزلة المطلقة والتشرد المطلق، والانسان التوّاق أبدا للحب وصفاء الروح. لقد كان حسين مردان (متماديا في تطرفه باتجاه الفرادة، وكانت المرحلة متمادية باتجاه ثقافة القطيع..ثقافة العقيدة الملتبسة العمياء).

والقاص محمد خضير الذي (عرّى الخبرة الغامضة الملتبسة بأيسر السبل دون مرارة في فمه....وقد انطلق من الانسان وانتصر له دون أن يشاور أو يستشير أحداً) كما يأخذ فوزي على الشاعر العربي فصله الشعر عن الموقف الأخلاقي، ليسّوغ ضعف مسؤوليته إزاء ما يحدث حوله، غارقا بأنانيته ونرجسيته، وقامعا للشاعر في داخله بفعل (الدناءة والجبن).

ثم ينتقل الشاعر الى بذور الخلافات السياسية والمناطقية بعد 1958، حيث كانت هناك مقهى لكل حزب واتجاه في المنطقة الواحدة، وتباعد واضح في الأفكار، لعب المثقفون دورا سلبيا في تكوينه، وتصنيع عقائده العمياء.

ولكن العهد العارفي الذي غفل عن الكثير من الامور، أتاح للمثقفين فرصة العودة الى إهتماماتهم الثقافية، وإختصاصاتهم المختلفة، ناسين، لبعض الوقت، خلافاتهم العقائدية. وفي تلك الفترة، ظهر جيل الستينيات، فكانت القصة والشعر والنقد والرسم والمسرح.

ولكن الأمر لم يدم طويلا، إذ سرعان ما عاد الكثير منهم الى الأحزاب، يغذوها بصور وأفكار التناحر، ويحفّزون السياسيين للعمل على إستلام السلطة. وهذا ما حدث عام 1968 يوم استلم حزب البعث السلطة، وانفرد بها. وأقبل هؤلاء المثقفون على الحكم الجديد بالتهليل والاسهام في بناء منظمته الاعلامية الخطيرة.

وفي تلك الفترة، لم يكن المشهد في بيروت أفضل حالا. ان يوتوبيا المثقفين هناك قد عززت بقوة السلاح، والأفكار والمفاهيم تخرج من الغرائز العمياء، كما أن الصحافة قد تم شراؤها من قبل أجهزة الاعلام العربية. لم تكن بيروت تعرف ما سيحدث لها من جرّاء تحول الكلمات الى أسلحة (انها الحيوانات الكاسرة، التي أفلتت، في ليل اللغة، من النظريات).

ان المثقف العربي، برأي الشاعر، لايثق بالكلمة، ويعتبرها (وسيلة صنعة وزخرف). فنزار قباني (يكتب عن الحب ولا أثر للحب في قلبه). وعبد الوهاب البياتي (يكتب عن الحرية والثورة ولكنه يعمل مستشارا ثقافيا – بعد النفي – لنظام صدام حسين). وأدونيس (يؤلب الشبيبة للتحرر والتجاوز والجنون وهو يسعى الى حياة محصّنة بالضمانات).

ومن (الوحل) الذي كان يغطي الحياة في العراق، آنذاك، خرجت ثلاثة أنواع من النصوص الشعرية، وهي، حسب ترتيب الشاعر، النوع الثالث وهو الذي كان يتأمل الوحل من فوق،وتتشكّل روحه (التراجيديه) هناك. والثاني يزاحمه وينقضّ عليه، ومن ذلك تتشكّل روحه (الهجائية). أما النوع الأول فهو الذي كان يمتص روح الوحل ويأخذ شكله. وهذا النوع هو الذي كتبه شعراء البعث. شعراء يشحب الانسان ويتلاشى داخل كيانهم، ووعيهم العقائدي. شعراء تحولوا الى عثرات في تلك الطريق الموحلة، طريق اللافتات والصور التي دُقت في أذهان الناس بمسامير دامية، يوم صار (السيد النائب أعلى قوة في هذا الكيان الغائب الذي يسمى العراق) ويوم حول، بحضوره الارهابي، (التركيبة المفتعلة لدولة البعث) الى مجرد ظلال واهية أمام سلطته وتحكمه بمفاصلها الرئيسة، وأمام قوة (المنظمة السرية) التي أراد لها أن تكون السلطة الوحيدة في العراق.

لقد كان (التاريخ المسكين) يتعفن في لغة العقائد المشحونة بالقداسة والحقد وسوء الطوية في ظل حكم (أبناء البراري الملفوظين خارج المدن)، الذين إغتصبوا، في لحظة غفلت فيها الحياة وغفت، أرضا محرّمة عليهم.

ويعود الشاعر الى سيرة المشاهد الدموية التي تخللت أحداث 14 تموز 1958، يوم جرت عملية قتل أفراد العائلة الملكية، والتمثيل بجثثهم وحرق أجزائها المبعثرة في الطرقات، (كنا جميعا نشم رائحة اللحم تدخل مسام أجسادنا منتشين، عائذين بالحيوان الرابض في أعماقنا).

ولم يرض ذلك الحيوان المنفلت من قرون الظلام أن يُحبس في مؤسسات دولة تحاول (عقلنته)، وكان متحرّقا لأجواء الفوضى المتجذرّة في نفسه، ليمارس الأفعال الهمجية بإنتشاء. ولم يكن عبد الكريم قاسم (الرجل الطيب السريرة) الا أداة بيد أفكار أنضجها مثقفون جرّدوا (الحرية) و (الثورة) من صفاتهما الأرضية في مجتمع متخلف، فيه الكثير من صعوبات التوازن السياسي، والتماسك الاجتماعي، فكان لمثل تلك الأفكار المجرّدة دور سلبي لما حصل هناك وما تلاه في الحقب اللاحقة.

فهل هو الضوء، الذي توهمناه فجرا، مازال ينبعث من جثث القتلى المحترقة، اليوم، في ليل بغداد ومدن الرافدين ؟ وهل هم أحفاد (طلائع الموكب الوحشي المرعب) مازالوا يصرون على السير فوق جثثنا على لحن نشيد (الله أكبر).


ديوان الشرق- الغرب يناقش الادب الكردي المترجم الى اللغة العربية

متابعة: عبد اللطيف الراشد

تصوير سمير هادي

في اطار البرنامج الثقافي الشهري لديوان الشرق -الغرب اقيمت بالتعاون مع اتحاد الادباء جلسة عن الادب الكردي المترجم الى اللغة العربية، على قاعة محاضرات الاتحاد العام للادباء في العراق حضرها الناقد فاضل ثامر رئيس اتحاد الادباء وعدد من الادباء وادارت الجلسة القاصة عالية طالب المشرفة على اعلام- شرق، غرب- التي رحبت بالحضور من الادباء والمهتمين في حقل الترجمة وتحدثت عن العلاقة بين الاتحاد والديوان حيث يواجه صعوبات عديدة بسبب انعدام الاستقرار الامني وتمنت ان تتغير الصورة البشعة التي نعيشها كعراقيين يحدونا أمل كبير بمستقبل العراق وتلاقح ثقافاته، وتطرقت الى موضوعة الجلسة ومدى اهمية الترجمة من الكردية الى العربية وبالعكس وعن واقعها وماضيها ومستقبلها. وقالت:

اليوم نحتفي بالأدب الكردي المكتوب والمترجم الى العربية لاننا نسعى لاقامة جسور بين مكونات الثقافة العراقية والاطلاع على خصائص الادب الكردي ورموزه الذي ظل المثقف بعيداً عنها بسبب ممارسات النظام الدكتاتوري السابق. وطرحت امام الجمهور السؤال التالي هل استطاع المترجم الكردي ان يقدم لنا روح النص؟!! فاجاب القاص خسرو الجاف: صحيح لدينا قافلة كبيرة من الشعراء الكرد كما لدينا اعمال ادبية وثقافية مكتوبة باللغة الكردية ولكن لااعتقد ان المترجم الكردي نقل روح النص.

فيما تحدث الناقد عادل كامل عن اهمية اللغة باعتبارها لساناً وجسراً وهوية وهي في المدلول الحضاري تتجاوز التوثيق والعلامة والحوار نحو اسباب تكوينها، واضاف: ان اللغة الكردية كأي لسان لها جذورها وتاريخها، وتساءل في الجلسة عن التعريف بالمنجز الكردي واستذكر الجهود التي قام بها رواد الترجمة وفي مقدمتهم الدكتور عز الدين مصطفى رسول الى جانب اسماء كثيرة منها عبد الله عباس وحسين عارف التقت المدى القاصة عالية طالب لتتحدث عن جهود الترجمة ومشكلات الادب الكوردي واجابت عن ذلك بالقول:

العلاقات الثقافية الكردية تمتد عبر حقبة زمنية طويلة ضمن التداخل الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي ليس في العراق فحسب بل على امتداد الاقطار والدول التي يوجد فيها الكرد، هذه العوامل ساعدت على قيام تلاقح فكري بين الاشكال الثقافية للشعب العراقي.

فكيف يكتب الكردي وهو يفكر بمتلق عربي وكيف يستقبل العربي ماكتب له ضمن ثقافات متباينة نعرف جداً ان الترجمة من الكردية الى العربية ازدهرت عند اسماء مهمة لكن هل حافظ اغلب المترجمين على خصوصية النص؟ وهل استطاعوا توصيل فكرة المؤلف كما رادها حقاً؟ وهل تمكن المتلقي من فهم النصوص الادبية الاساسية في الادب الكوردي.

هذه اسئلة كثيرة بحاجة الى اجابات.

أما الناقد عادل كامل فتحدث عن الموضوع قائلاً: بعد ان قدم ديوان شرق غرب سلسله من الاضاءات الثقافية ذات التماس المباشر مع المتغيرات اليومية، يعقد جلسة خاصة بالادب الكوردي المترجم الى اللغة العربية والعكس ففي هذه الجلسة تتعرف على الجهود الخاصة بحوار الاداب والثقافات المشتركة في حضارة العراق، فقد ورد في النص السومري قبل سبعة الاف سنة مثل هذه العلاقة بين الكورد وسكان الجنوب وستبقى هذه العلاقة قائمة بفعل عوامل مشتركة منها العامل الجغرافي والتاريخي والحضاري.. فقد لعب كل من دجلة والفرات دوراً في توحيد الجسد العراقي منذ اقدم الازمنة.

هذه الندوة تلقي الضوء على هذه الصلات العميقة بين اللسانين الكوردي والعربي في صياغة اداب حضارة وادي الرافدين وسنتعرف على جهود كثير من الاساتذة وفي مقدمتهم الدكتور عز الدين مصطفى رسول والدكتور معروف خزندار والملا جميل الروزبياني وغيرهم وهم ينقلون الاداب والملاحم الكوردية الى العربيه كما نتعرف على الجهود التي قامت بالترجمة من العربية الكردية حيث تظهر الخصائص اللسانية والمكانية في تكوين ملامح وخصائص كل تجربة ابداعية كما تظهر الاختلاف والتنوع في اغناء النص العراقي.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة