اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حليفنا صدام ..  الباب الثالث: صفقة ميتران

ترجمة:سلام العبودي

في الأليزيه، كان وزير الخارجية يتعرض لهجوم عنيف من قبل أتالي وسالزمان وغروزوفر، ويصفونه بأنه "رجل العراق في كل شيء. لكن شيسون كان يحظى بمساندة جزء مهم من إدارته. ومنهم برونو ديلائي، الدبلوماسي الشاب اللامع الذي يقدمه شيسون في كل مكان كما لو كان أبنه الروحي؛ وفرانسيس غوتمان، الأمين العام للوزارة، وبول ديبي وسيرج بواد فيه وجميعهم مؤيدون بشكل واضح لتعاون فعال مع العراق.

أريك ديسماريه، الذي عمل سابقاً في مكتب جان فرانسوا بونسيه، وافق - بناءً على طلب من جاك فيوت، مديره – على العمل لبعض الوقت مع فريق شيسون الجديد الذي يقوده فرانسوا شير. وبذلك فإن وجوده كان يرمز إلى استمرارية معينة تساهم في طمأنة العرب. بعد ذلك شغل ديسماريه منصب معاون مدير دائرة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

كان طويلاً، أزرق العينين؛ يداه نحيفتان كفأرتين صغيرتين بيضاوين، يؤدي أيضاً دور وكيل ارتباط بين الكي دورسيه وسفارة فرنسا في بغداد، ومقر عمدة باريس. ولأنه من مقربي جاك شيراك، فقد بقي على علاقة بأحد مساعدي عمدة باريس وهو جاك فرانسوا جيرود، الذي غادر إلى بغداد، في آذار عام 1986، ليعمل إلى جانب السفير موريس كوراج. ويمتلك ديسماريه الذي عمل مستشاراً دبلوماسياً لهوغ ديستوال في المفوضية العامة للتسلح من عام 1974 حتى عام 1978، خبرة جيدة في مبيعات الأسلحة وله روابط عديدة في العالم العربي.

في حزيران 1981 عين بول ديبي سفيراً في بغداد، بتوصية متحمسة من شيسون. ويقدر الرجلان بعضهما البعض كثيراً ويعتبر السفير وزيره استمراراً لعمله في الساحة. في بغداد كان ديبي يتمتع بعلاقات ممتازة في أعلى مستوى ويبعد بقية أعضاء سفارته جانباً. مذكرات مساعديه لا تصل دائماً إلى وزارة الخارجية. إذ كان يراقب كل ما من شأنه أن يعرقل التعاون الفرنسي - العراقي ويرفض أي دراسة عميقة للنزاع بين إيران والعراق.

يتهمه أحد مستشاريه القدامى بأن "تعصبه وآراءه المسبقة كانت تشوه تحليلاته". لم يكن باستطاعتنا أخذه على محمل الجد حين كان يقول لنا إن الإيرانيين يستطيعون الوصول إلى بغداد"،

وقام ديبي بنفسه بالتهيئة لزيارات وزير العلاقات الخارجية لبغداد، مختصراً الطريق كثيراً على دوائر الكي دورسيه. وكان شيسون يقدر هذا السفير الذي يشاطره قناعاته وميوله.

يتذكر أحد مساعدي السفير بأنه "كان يقرأ للوزير قصائده بالعربية، حين كان يزور السفارة، وكان ذلك يستغرق بعض الأحيان جزءاً طويلاً من الليل: كان شيسون يتأثر كثيراً" كان شيسون يملك حساً انتقائياً ومرهفاً".

*        *        *

حين يتعلق الأمر بالعراق لم يكن يصغي إلى ما يعارض رأيه، باستثناء، بالطبع، حين يكون المتحدث ميتران. وحين يصادفه موقف تطرح فيه عدة حلول فإنه يختار على الدوام الحل الذي له علاقة أفضل بأفكاره المسبقة.

أما المذكرات التي ترفعها دوائر الخارجية والتي يتسلمها شيسون، فمن النادر أن تتعارض مع ما كان يرغب في قوله.

يوضح أحد الدبلوماسيين: "إن الدوائر تغني على الدوام ما يحب السياسيون سماعه. فهم يسبقون رغباتهم. أما البقية، فالسياسيون يعرفونه مسبقاً، ولا يرغبون في تذكّره".

إنه تحليل واقعي لحالة السياسة المنتهجة تجاه العراق، ولكن يجب النظر إليها بفارق بسيط. فبعض الملفات يمكن أن تكون موضوع مناقشات حادة تتخذ فيها القرارات وتطفو الانفعالات، مثل التعاون النووي، وشحن بعض أنواع الأسلحة إلى بغداد، وأمن إسرائيل، أو أيضاً إعارة طائرات السوبرإيتندار.

*        *        *

حالما كان الأمر يتعلق بالشرق الأدنى، يجد ميتران وشيسون نفسيهما متواجهين. فالرئيس يلتزم بموقفه الثابت فيما يتعلق بإسرائيل، رغم الموقف المتشنج الذي تتخذه الدولة العبرية والتحفظات التي يعبر عنها شيسون بشكل مستمر. لكن السعي الحثيث من قبل الوزير تأتي ثماره فيما يتعلق بالعراق.

اختار ميتران زيارته الرسمية لمصر ليوجه نداءه الرسمي. ففي 26 تشرين الثاني 1982، أعلن في أسوان:

"كنت أردد، منذ اليوم الأول، أن هذا النزاع هو النزاع الأكثر أهمية، في العصر الراهن (...). بإمكانكم أن تلاحظوا حذر الدولتين العظميين، المفهوم بشكل تام (...). نتمنى أن يستمر التوازن بين العالم العربي والعالم الفارسي، الذي استمر منذ ألف عام. ويجب أن نصب جهود القوى الغربية على حفظ هذا التوازن. لا نريد أن يخسر العراق في هذه الحرب." وقد كانت تلك إشارة إلى التزام غير مشروط تقريباً إلى جانب بغداد.

يوضح أحد الدبلوماسيين: "بالنسبة للعراق، لم يكن لدى الرئيس مستشارون لهم ثقلهم بشكل حقيقي. كان الميدان خالياً أمام شيسون، وقد كان لدى ميتران على الدوام انطباع بأنه خاضع لسياسة عراقية، لكنه كان يسير الأمور بمهارة، لأنه لم يخضع لتأثير شيسون، بل كان يدعه يعمل. على أي حال، لم تكن لديه سياسة بديلة".

هل كان الرئيس مقتنعا بشيسون؟ هل كان خاضعاً لضغط جماعات ذات مصلحة، أو هل أن مساندته لبغداد كانت نتيجة اختياره وحده؟ فباختياره استمرار التعاون الفرنسي - العراقي، باستثناء المجال النووي، اتبع الرئيس بوجه خاص النهج الذي تميل إليه الأغلبية العظمى. واتخذ لنفسه سياسة عربية، بأدنى كلفة.

يؤكد أحد الدبلوماسيين: "إن فريق المؤيدين للعراق قد عملوا كل ما بوسعهم من أجل دفع الرئيس إلى اتخاذ مواقف متشددة تجاه إيران. فبعد غلق السفارة الفرنسية في طهران وترحيل الرعايا الفرنسيين، في عام 1981، أصبح الحوار مع الملالي مستحيلاً؛ ولم تعد فرنسا تستطيع إلا الالتزام بقدر أكبر لصالح بغداد. لقد كانت باريس تعتقد بأنها تساند الدول العربية التي كانت بدورها تمول صدام حسين، لقد كانت فكرة أن إيران تمثل الشر مستحوذة تماماً على ميتران. فليس من عادته إن يركز اهتمامه بهذا الشكل؛ ربما كان ذلك بسبب المعلومات المبتسرة التي ترفع إليه، أو بسبب تحليل سيئ؟ وقد ترك ميتران نفسه لأن يصبح أسير منطق مساندة عمياء لبغداد، رافضاً أية سياسة متوازنة بين الطرفين المتحاربين. ففي حين كان يجهل كيف ستسير الحرب، كان بمقدوره أن يتيح دوراً لفرنسا كوسيط لترتيب المستقبل".

رغم ذلك، فحين يريد ميتران أن يقاوم الضغوط، فإنه يستطيع ذلك. فلم يخضع للطلبات المستمرة في الدعوة إلى إعادة بناء مفاعل تموز. ولم يستقبل صدام حسين أبداً، كما فعل جيسكار سابقاً، في وقت ذهب بعض وزرائه إلى حد ترتيب مواعيد اللقاء بينهما. أخيراً، حدث بالنسبة له أن رفض بيع بعض المعدات العسكرية التي تعتبر متطورة جداً مثل الصواريخ جو – أرض متوسطة المدى (ASMP).

اللوبي، كما يحب أن يقال عنه، لا وجود له حقيقة، إلا إذا تم الخضوع له

الفصل الخامس

كان الجنرال رينيه أودران René Audran معتاداً على التنقل جواً بين باريس  وبغداد. فقد تم اختيار هذا المهندس الأنيق والمحبوب ،البالغ من العمر خمسين سنه، من قبل هنري مارتر، مدير المفوضية العامة للتسلح الشهيرة في وزارة الدفاع، ليكون محاوراً للعراقيين(36). ولأنه موظف كبير في الدولة وبائع أسلحة ممتاز، فقد حصل، بسرعة كبيرة، على ثقة من عينه صدام حسين "مديراً للمشتريات"، الجنرال عامر.

في بغداد، بتاريخ 11 تشرين الأول 1982، قدم له نظيره العراقي طلباً خاصاً. فبانتظار شحن طائرات الميراج ف 1، التي يمكنها أن تتزود بالوقود وهي محلقة في الجو، والقادرة على إطلاق صواريخ من نوع إكسوسيه، والمقرر تسليمها عام 1985، يرغب العراقيون في الحصول على 5 - 6 طائرات من نوع  سوبرإيتندار. وهي طائرات لم تعد هناك حاجة إليها مع صواريخ الأكزوسيه، منذ حرب المالوين (الفوكلاند) بين الأرجنتين وبريطانيا العظمى.

فنتائج الأسلحة لم تعد في صالح العراقيين الذين هزموا في خرم شهر (المحمرة) وانكفأوا إلى صدورهم. لذلك يجب أن يحصلوا على وسائل الرد.

كما أوضح الجنرال عامر لرينيه أودران. فالسوبرأيتندار وصواريخ أكسوسيه تتيح الوصول إلى الموانئ الإيرانية البعيدة، بل حتى حاملات النفط التي تأتي للتمون منها.

كانت هذه الفكرة تراود صدام حسين منذ الهزائم الأولى لجيشه في 15 آب 1982، أي قبل شهرين من الطلب الذي قدم لأودران، أستدعي أحد دبلوماسيي السفارة الفرنسية في بغداد، في عز الليل، إلى وزارة الخارجية ليبلغ بأنه ابتداءً من الغد كان سيمنع العراق أية حركة بحرية في الجزء الشمالي من الخليج. لكن لعدم امتلاكه الوسيلة التي تؤمن ذلك، فقد أرجئ الإنذار العراقي الأخير.

*        *        *

بعد لقائه مع الجنرال عامر، كتب رينيه أودران رسالة استعرض فيها الحجج والاحتياجات التي طرحها محاوروه، لم يمر على السفارة الفرنسية ودائرة الجفرة فيها، مفضلاً أن يعهد بالرسالة إلى حامل خاص. وصلت هذه الرسالة التي كتبت بخط اليد والموجهة إلى برناديت، رئيس منطقة في دائرة الشؤون الدولية، لتصل مباشرةً إلى مكتب شارل إيرنو، وإلى الوزير نفسه. وقد أعلن فيها أودران إن العراق مستعد للدفع فوراً، رغم الصعوبات التي يواجهها.

ابتداءً من ذلك الوقت، سار كل شيء بسرعة كبيرة. بعد ذلك، بعدة أيام،  في 22 تشرين الأول، اتخذ بيار موروا قراراً مبدئياً مؤيداً للشحنة. وذلك أثناء اجتماع في مقر رئاسة الوزراء بحضور ممثل عن رئاسة الجمهورية. كان كل واحد يعرف مسبقاً إن طائرات السوبرإيتندار، التي توقفت سلسلة صنعها نهائياً لدى مصانع داسو، سوف تنسحب من مخازن البحرية الوطنية. فهي التي تدير الرحبة التي تضم سبعين طائرة من هذا النوع والمخصصة لحاملات الطائرات، والتي يمكن أن تطلق السلاح النووي، عند الاقتضاء.

في كانون الأول 1982، استدعى شارل إيرنو هوغ ديستوال، مدير الشؤون الدولية لدى مصانع داسو. وأستعرض له الموقف ببعض الكلمات:

"ستتخلى البحرية عن خمس طائرات سوبرإيتندار لداسو بشرط أن تعيد بيعها بدورها إلى العراق. سوف تقومون بإعداد الطيارين وستؤمنون الإسناد اللوجستي على الأرض. ثم تقومون بشرائها مرة أخرى وإعادتها إلى البحرية حيث تكونون مستعدين لشحن طائرات الميراج ف 1 التي تستطيع التزود بالوقود وهي محلقة في الجو".

طلب إيرنو أكبر قدر من السرية، حتى لدى مصانع داسو حيث يجب أن لا يكشف السر إلا بشكل محدود.

في 27- 30 كانون الأول 1982 قام ديستوال بزيارة للعراق وهو راضٍ عن تلبية أمنيات العراقيين. وقد التقى بالجنرال عامر ليجري معه المفاوضات التجارية.

*        *        *

في 6 كانون الثاني 1983، التقت لجنة مشتركة من الوزارات في مقر رئاسة الوزارة، أثناء زيارة طارق عزيز لباريس. وقد حضر اجتماع اللجنة بوجه خاص بيار موروا وجاك ديلور، وفرانسورا هيزبورغ الذي يرافق وزيره شارل إيرنو، وميشيل ديلبار، وميشيل جوبير. وقد كان جدول الأعمال يتضمن الصعوبات المالية لبغداد وقضية السوبرإيتندار.

كان العراقيون يطالبون بإرجاء ما يتوجب عليهم دفعه عام 1983 إلى عامي 1984 و1985 وهي سبعة مليارات من الديون المدنية وتسعة مليارات عسكرية. حول هذه النقطة، بدا ديلور صارماً: إن مبيعات الأسلحة يجب أن تسوى بالدفع فوراً. وطريقة ذلك، كما اقترح، زيادة "احتكار النفط". بعد التشاور، تقرر أن يقترح على العراقيين شراء مليونين وخمسمائة ألف طن من الذهب الأسود في السنة. فيما يخص تزويدهم بطائرات السوبرإيتندار، فقد سويت من حيث المبدأ. وقد شدد شارل إيرنو على أهمية هذه الطائرات في تطور النزاع.

وكما في زيارته في آب 1981، تكللت زيارة طارق عزيز هذه بنجاح تام. فقد أستقبل نائب رئيس الوزراء العراقي من قبل فرانسوا ميتران وكذلك موروا وشيسون، وشيفنمان، وجوبير، وديلور، وجوسبان، وشارل إيرنو. بعد لقائه مع طارق عزيز، أعلن وزير الدفاع متأثراً ومأخوذاً بالمغالات العسكرية، أمام مجموعة من المناضلين الاشتراكيين: "أمن العراق ضرورة من ضرورات الأمن الوطني".

يؤكد أحد أعضاء جهاز المخابرات الفرنسي: "إن العراقيين أظهروا براعةً حين قدموا ملفهم بشكل جيد. فرجال السياسة لم يقتنعوا بما قدمناه لهم. رغم ذلك، كانت لدينا معلومات جديرة بالاعتبار. فوضعهم العسكري ليس بالمأساوية التي يدعونها؛ لكنهم يريدون أن يجرونا إلى المزيد من الالتزام إلى جانبهم."

بالمقابل، فإن العراقيين، الذين يتدهور وضعهم في الدفع أكثر فأكثر، يزيدون في تكديس المستحقات المتأخرة عليهم. فالنزاعات لا تحصى مع الشركات الفرنسية: مطار بغداد، سحب المياه، تعبيد الطرق، ..ألخ. وقد تأثرت باريس بالتدهور المالي بشدة. إذن فإن طارق عزيز كان يترافع لدى شيسون المؤيد له مسبقاً.        

أوضح نائب رئيس الوزراء العراقي: "نحن نخوض حرباً، ونحن بحاجة إلى قرار بتأجيل دفع الديون المستحقة. خزائننا فارغة، ونحن بحاجة إلى مزيدٍ من الأسلحة. لقد دخلنا في مرحلة جديدة من النزاع. إن إيران تريد أن نركع. يتوجب أن نضرب في المواقع التي تنزل أكبر ضرر بهم وتكلفهم أكثر. يجب إذن أن نضرب الموانئ النفطية البعيدة. فنحن بحاجة إلى طائرات السوبرإيتاندار، وصواريخ الأكسوسه؛ بانتظار الحصول على طائرات الميراج ف 1.

*        *        *

في مساء الخامس من كانون الثاني، وبعد وليمة غداء على شرف ضيفه العراقي أقامها كلود شيسون في وزارة الخارجية، حضرت مجموعة صغيرة إلى مكتب الوزير: ثلاثة دبلوماسيين هم كل من بونفو Bonnefous، ديلائي Delaye  وغوتمان Gutmann؛ التحق بهم، فيما بعد، شارل إيرنوCharles Hernu، يحيط به طارق عزيز وكلود شيسون Claude Chysson. وقد قبل الفرنسيون الحاضرون بالحجج التي قدمها الجانب العراقي. فالجميع يدركون أن يتوجب منع إيران من الخروج منتصرة في هذه الحرب.

فيما يتعلق بالصعوبات المالية، فقد وجد حل: المباشرة بمفاوضات شاملة، تحت مسؤولية وزير العلاقات الخارجية. وقد جرى التوقيع على ثلاثة اتفاقات مع المسؤولين العراقيين المرافقين لطارق عزيز. الاتفاق الأول يتعلق بالنزاع بين الطرفين، أي تسوية الأمور المالية. وقد هيأ نصه جان - كلود تريشه، مدير الخزانة في وزارة المالية. أما الاتفاق الثاني، فهو حول النفط؛ ويلتزم العراق بموجبه بدفع جزء من ديونه بشحنات نفط إضافية. وقد كلف بإعداد هذا الاتفاق جان بيار كاربون، مدير الهيدروكاربونات. أخيراً، كان الاتفاق الثالث متعلقاً بالأسلحة التي تقرر أن يتفاوض بشأنها الجنرال أودران. إن جدولة الدفع قد نصت على أن يكون دفع الأقساط لأجل أطول من السابق، ولم يشترط سوى دفع 20% فقط حين الطلب، بدلاً من 30-40% المعتادة.

يوضح أحد الدبلوماسيين الذين شاركوا في إعداد هذه الاتفاقات: "إن طائرات السوبرإيتاندار لم تذكر في أيٍّ من هذه العقود. لكن، وعن يقين، وقع طارق عزيز عليها وهو يفكر في هذه الطائرات. من جانبنا، قيل لنا أنه قد أعطيت لهم كلمة، لأنهم يرغبون بهذه الطائرات. إنها نوع من الخدعة. ولن تعطى لهم في الحال، وسيبذلون جهداً من اجل أن يدفعوا لنا".

في الغد، استقبل طارق عزيز، في قصر ماتينيون، من قبل بيار موروا. تحدث العراقي عن الصداقة والتعاون، واستعرض الصعوبات المالية، وخلص إلى القول:

"لا يمكن أن نرمي بثقلنا على أكتاف أصدقائنا، بسبب هذه الصعوبات. نعدكم أن نبذل جهدنا، ولكن يجب مساعدتنا."

رد عليه موروا مسترضياً: "نحن أيضا نشهد صعوبات مالية. وإني أُقر بأنها أقل وطأة من تلك التي تواجهونها، لكنها موجودة. تعرفون جيدا أن الأوساط المصرفية لا تؤيدنا".

طالب طارق عزيز بإرجاء آجال استحقاقات عام 1983، إلى السنوات التالية؛ وأضاف:

"نحن بحاجة حقاً لطائرات السوبرإيتندار. أتوجه إليكم كأصدقاء، وليس كشركاء تجاريين."

استعرض رئيس الوزراء الفرنسي الموقف الذي تم تبنيه أثناء لقاء اللجنة المشتركة ما بين الوزارات، في صباح اليوم ذاته: لا إرجاء بشأن دفع مستحقات الأسلحة، مع بعض التسويات للنزاعات كبرهان على حسن النية.

قال موروا: "نعلم أنكم بحاجة إلى طائرات السوبرإيتندار، ونعرف ماذا ستفعلون بها، لكننا لم نعد نصنع منها المزيد. وإذا أردنا أن نعيركم إياها، فذلك يستوجب موافقة حاسمة من رئيس الجمهورية."

*        *        *

قضية ميلان Milan، باسمها الرمزي، لم تستمر سرية مدة طويلة. ففي الأول من شباط، أعلنت جريدة لوكنار إنشينه Le Canard enchaîné أن فرنسا قد وافقت على أن تسلم خمس طائرات سوبرإيتندار للعراق (37)، وهي معلومة تناولتها وبثتها وكالة الصحافة الفرنسية AFP، ثم نشرتها جريدة لوموند، في عددها الصادر بتاريخ 5 شباط. ولم يصدر أي رد فعل أجنبي؛ كما التزم الأليزيه جانب الصمت.

على متن طائرة مستير 20، كان شارل إرنو وكلود شيسون يقومان بسلسلة زيارات شملت مصر والعربية السعودية والأردن والكويت؛ يرافقهما بعض المساعدين، إضافة إلى الأمين العام لوزارة الخارجية، فرانسي غوتمان. وقد كان الفرنسيون مسرورين لتحسن صورتهم في هذه البلدان العربية. ففي عام 1982، كان ثلاثة أرباع الصادرات الفرنسية من الأسلحة إلى العراق والعربية السعودية.

ذكر أحد الدبلوماسيين، الذين شاركوا في سلسلة الزيارات تلك، في شهادته: "إن كل العرب الذين التقيناهم كانوا يطلبون منا أن نعطي العراق طائرات السوبرإيتندار. لقد كانت سياستنا واعية وعقلانية تماماً. من جانب آخر، في نهاية عام 1983، وبعد شحن هذه الطائرات الخمسة، قام شيسون بجولة ظافرة في منطقة الخليج. كان المبدأ: كسب رصيدنا في المنطقة. وقد انهالت علينا الطلبات".

كان محاورو فرنسا من العرب يبدون تماماً أكثر استعجالاً في رؤية فرنسا تتحرك لصالح العراق مما تجاه القضية الفلسطينية. ففي زيارة رسمية للمغرب، في 27 كانون الثاني 1983، ذكر فرانسوا ميتران تمسكه "بالتوازن المستقر منذ قرن في منطقة الخليج". وهو تصريح ثمنه الملك الحسن الثاني. وفي 3 شباط، دعا حسني مبارك، أثناء استقباله في الأليزيه، فرانسوا ميتران إلى متابعة المساعدة الكاملة لبغداد. حينئذ، لم يفت شيسون أن يعلن: "لن نغير سياستنا، لأن العراق سيحتاج، في المستقبل، بعض الاعتمادات؛ شأنه في ذلك شأن العديد من الدول الأخرى، وربما مدة قصيرة، إذا أخذنا بنظر الاعتبار إمكانياته الاقتصادية المهمة."

كانت للالتزام الفرنسي تأثيرات ممتازة على الميزان التجاري. ففي شباط 1983، تفاوضت أمارة أبو ظبي سراً على شراء طائرات ميراج 2000. وطلبت الكويت طائرات ميراج ف 1 الاعتراضية وأبدت اهتمامها بالطائرة السمتية المجهزة لإطلاق صواريخ أكسوسه.

*        *        *

في بداية عام 1983، أعلم الأميرال لينهاردت Leenhardt، رئيس أركان البحرية، شارل إرنو بمعارضته للمشروع. وكبقية رؤساء الوحدات البحرية، كان يتمنى أن تقوم مصانع شركة داسو بتصنيع هذه الطائرات الخمس بدل تخلي طيران البحرية عنها وإعارتها؛ لكنه لم يحصل على نتيجة.

وكذلك أعلم الجنرال سولنيه Saulnier، رئيس الأركان الخاص لميتران، بالاعتراضات البحرية. وبهذا الخصوص، قال احد الأميرالات: "لكن العراق ليس حليفاً". ثم رفعت داسو الإشارة الحمراء، وقالت: "إذا لم تعيروا الطائرات، فإن العراقيين سيطرحون عقد طائرات الميراج ف 1 على بساط البحث مرة أخرى".

في مايس 1983، طلب فرانسوا ميتران، الذي لم يبدِ حتى تلك اللحظة اهتماما كبيراً، من وزير الدفاع تزويده بالتفاصيل الأكثر دقة بخصوص هذا الملف. وفي الحال، أرسل إرنو، إلى الأمين العام جان لوي بيانكو، نص القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء، في 22 تشرين الأول 1982، بحضور أحد المساعدين في قصر الأليزيه؛ وأرفق بهذه الوثيقة رسالة ميشيل دليبار، المؤرخة في 17 كانون الثاني 1983، والتي جاءت إثر مهمة هوغ ديستوال في بغداد وزيارة طارق عزيز إلى باريس، في كانون الثاني. وهذه الوثائق سبق أن جرى إرسالها إلى الأليزيه، إلا أنها قد نسيت كما يبدو. وشدد إيرنو على القول لدى بيانكو: لم يتطلب الأمر ما يفعله سوى تنفيذ القرارات القديمة التي يجب أن يكون الرئيس قد أُطلع عليها.

لم يأت أي توجيه، واستمرت قضية ميلان في مسيرتها الاعتيادية. وكما طلب شارل إرنو، فقد تم إعداد صيغة قانونية معقدة: ستبيع شركة داسو طائرات السوبرإيتندار إلى العراق ثم تعيد شراءها بعد مضي مدة عامين

في 2 حزيران 1983، جرى التوقيع على اتفاقية، صنفت بكونها سرية - دفاع، بين الدولة ممثلة بوزير الدفاع وشركتي داسو وسنيكما (38) وإثر القرار الوزاري الذي أُتخذ في 26 مايس 1983، والذي صُنّف بكونه سرياً- إذ ستضع الدولة تحت تصرف شركة داسو خمس طائرات سوبرإيتاندار، يملكها طيران البحرية، مدة سنتين. بعد ذلك، يجب أن تعاد الطائرات إلى البحرية الوطنية.

بعد ذلك بعدة أيام، وقعت داسو العقد النهائي مع العسكريين العراقيين في فندق بالتيمور، مقر إقامتهم المفضل في باريس. إذن، فإن الأمر يتعلق بتأجير، جرى تمويهه بعملية بيع مع اشتراط إعادة شرائها. وفي الواقع كانت العملية إعارة لبلد في حالة حرب، أي إنها عمل يعد بمثابة مشاركة في الحرب. لقد اخترقت الحدود، بخطوة خفيفة، من قبل شارل إرنو وكلود شيسون، وعلى الرغم من عدم رضا رئيس الجمهورية.

*        *        *

في 22 حزيران 1983، تم الدفع. وأصبحت طائرات السوبرإيتندار عراقية بصفة رسمية، برغم أنها لم تغادر فرنسا.

-----------------------------

(37) كانت جريدة لوكنار إنشينه Le Canard enchaîné تعتقد أن الأمر يتعلق بعملية بيع.

(36) في 25 كانون الثاني 1985، اغتيل الجنرال أودران، أمام مقر إقامته، من قبل كوماندو تابع لمنظمة العمل المباشر. وقد حضر سفير العراق المشاط، مراسيم تشييعه.

(38) أنظر الملحق رقم (3).

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة