بغداد/احسان خطاب الراوي
إن المدخل للكتابة عن العلاقة ما بين مفهومي "الإنسان العام" و "المصلحة
العامة" سيكون عبر مفهوم "مؤسسات المجتمع المدني" و ما
تقدمه هذه المؤسسات من خدمات للصالح العام للمجتمع.
لقد استقر الرأي من خلال الدراسات الأكاديمية و الميدانية و المتابعة
التاريخية لنشاته و تطوره أن المجتمع المدني هو (مجموعة
التنظيمات التطوعية الحرة التي تملا المجال العام بين
الأسرة و الدولة).
و من التعريف أعلاه يمكننا أن نحدد مقومات المجتمع المدني الأساسية و كما
يلي :
1ـ تشكيل كيانه عبر المنظمات.
2ـ اشتراط التطوع الحر فيه.
3ـ التنوع في التنظيمات و قبول التعايش مع الآخرين.
4ـ عدم السعي للسيطرة على السلطة.
و استنادا للتعريف و المقومات فان المجتمع المدني سيتكون من أي كيان منظم
بشرط أن يقوم هذا الكيان على أساس العضوية الطوعية و أن لا
تستند العضوية فيه إلى أسس العشيرة أو الأسرة أو الدين أو
الطائفة،و بناء على ما تقدم يمكننا أن نحدد أهم مكونات
المجتمع المدني و كما يلي :
* النقابات المهنية.
* النقابات العمالية.
* الجمعيات التعاونية.
* المنظمات الأهلية.
* النوادي الرياضية و الاجتماعية.
* مراكز الشباب و الاتحادات الطلابية.
* الغرف التجارية و الصناعية و جماعات رجال الأعمال.
* الجمعيات الثقافية.
* المنظمات غير الحكومية الدفاعية و التنموية كمراكز حقوق الإنسان و المرأة
و التنمية و البيئة.
مؤسسات المجتمع المدني
إن مكونات المجتمع المدني أعلاه هي التي يطلق عليها "مؤسسات المجتمع
المدني"،و بإلقاء نظرة فاحصة عليها يتبين لنا أن الغالبية
العظمى من هذه المؤسسات تعبر عن مصالح لفئات محددة،أعضاء
هذه المنظمات تجمعوا فيها على أساس مصالحهم المشتركة و كل
حسب المنظمة التي تمثله،أي أننا هنا أمام مجموعة من
المصالح المختلفة التي في كثير من الأحيان لا توجد بينها
رابطة مشتركة تخص المصلحة العامة للمجتمع.
فالنقابات المهنية مثلا تشمل عدداً كبيراً من المهن المختلفة و كل منها
تمثل مصلحة فئة محددة،و من دون أدنى شك في ان مصالح هذه
الفئات المختلفة لا تمثل مصالح المجتمع بشكل عام، أي أنها
لا تمثل "الصالح العام" للمجتمع،و بالتالي فان العضو في
هذه المنظمات المهنية لا يعمل بالضرورة في نطاق انتمائه
لها لـ "الصالح العام"،بل هو بكل تأكيد يعمل من اجل مصلحة
الفئة التي ينتمي إليها و التي تمثل "مصلحته الخاصة" و هو
في هذه الحالة ابعد ما يكون عن "الصالح العام" للمجتمع.
وبالكلام نفسه يمكننا أن نبرهن على أن الغالبية العظمى من مؤسسات المجتمع
المدني التي ذكرناها سابقا،تسعى جاهدة لخدمة المصلحة
الخاصة لأعضائها من دون الانتباه إلى ما يمكن أن تعنيه هذه
المصلحة إلى المجتمع ككل و مدى اقترابها من الصالح العام
أو تضاربها معه.
أما منظمات المجتمع المدني التي تعمل فعلا للصالح العام،فإنها تتمثل فقط في
المنظمات المجتمعية الخيرية و الإنسانية التي تسعى الى
تحقيق مصلحة عامة في المجتمع مثل جمعيات حماية الأمومة و
الطفولة و جمعيات مكافحة الإدمان على المخدرات و الكحول و
جمعيات حماية البيئة و جمعيات حماية المستهلكين و غيرها من
الجمعيات الأخرى.
من هنا يتضح لنا أن الغالبية العظمى من منظمات المجتمع المدني لا تهدف الى
خدمة الصالح العام كما يتصور البعض،و لكنها تسعى جاهدة
لخدمة المصالح الخاصة بإفرادها.
و الآن لنأتي الى مفهوم "الإنسان العام"،إن المفهوم اخذ معناه من ارتباطه
بالصالح العام للمجتمع،فالإنسان العام إذا هو (الإنسان
الذي يحس بحياة الجماعة و يدرك مشاكلها و يتحمل مسؤوليته
تجاهها)،و على هذا الأساس فان المفهوم قد تجسد في العاملين
بمنظمات المجتمع المدني التي تعمل من اجل الصالح العام
للمجتمع،حيث برزت أهمية الدور الذي يقوم به الإنسان العام
في تنمية مجتمعه و خدمة تقدمه.
إن تكون "الإنسان العام" لا يأتي من العدم،و ليس من السهولة أن يتحول
الإنسان العادي البسيط (الإنسان الذي يعمل لذاته الخاصة
فقط دون النظر الى مصلحة المجتمع و مدى تقاطعها مع مصلحته
الخاصة) الى "الإنسان العام"،إن تكون "الإنسان العام"
مرتبط بنمو الوعي بحياة الجماعة و هذا الوعي مرتبط بدوره
بمجموعة من المتطلبات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
التي تؤدي بمجموعها الى تطور مفهوم الحياة الجماعية لدى
الإفراد،و التي ستؤثر بالتالي في وعي الإنسان البسيط و
تمكنه من أن يتحول الى "الإنسان العام" الذي ننشده و أن
يعمل لمصلحة المجتمع دون الالتفات الى مصلحته الخاصة
الضيقة.
و بناءا على تطور حياة الجماعة من مجتمع الى آخر،فان احد أهم الفروقات بين
المجتمعات المتقدمة و النامية هو اتساع نطاق دور "الإنسان
العام" في المجتمعات المتقدمة و تقلص هذا الدور في
المجتمعات النامية.
المجتمعات المتقدمة
و لكن هذا لا يعني أن المجتمعات المتقدمة هي بأفضل حال من الناحية
الاجتماعية عن المجتمعات النامية بسبب تطور حياة الجماعة
فيها،فضريبة التقدم الصناعي و التقني التي دفعتها
المجتمعات المتقدمة،تمثلت بشكل رئيسي في مجموعة من مشاكل
التفكك الاجتماعي و الأسري،و على الرغم من كثرة منظمات
المجتمع المدني التي تهدف الى الصالح العام و تسعى لخدمة
المجتمع،فإنها لم تتمكن في هذه المجتمعات المتقدمة من
معالجة المشاكل النفسية و الاجتماعية التي نجمت عن التقدم
الصناعي و التنمية.
لقد أصبح أبناء المجتمعات الصناعية الرأسمالية المتقدمة يعيشون بشكل
مجموعات أو فئات منعزلة عن بعضها البعض لا تربطهم أية
رابطة اجتماعية،بل تربطهم المصالح المهنية و الاقتصادية
ألبحتة، و على هذا الأساس فلقد أحس مفكرو الغرب بهذه
الحالة التي أسموها "سقوط الإنسان العام"،فلقد أحسوا بان
هناك خطورة في المجتمعات الصناعية المتقدمة في تحول مفهوم
"الإنسان العام" من إنسان محوره المجتمع كله الى إنسان
محوره الجماعة أو الفئة أو النقابة التي ينتمي إليها.
و استنادا الى كل ما تقدم،فان الدول النامية التي تحتاج الى تنمية دور
الإنسان العام في مجتمعاتها يجب عليها أن تنتبه الى أن
البعض من منظمات المجتمع المدني ذات المصالح الخاصة يمكن
لها من خلال تنميتها للتكتلات التنافسية أن تساهم في سقوط
الإنسان العام الذي تسعى هذه الدول الى بنائه و تنميته في
مجتمعاتها.
و عليه فيجب على هذه الدول أن تطور أنواعا جديدة من منظمات المجتمع المدني
العاملة للمصلحة العامة التي يمكن لها أن تساهم في مواجهة
مشاكل التفكك الاجتماعي التي حصلت في مجتمعات الدول
المتطورة،لان ما عانته المجتمعات الصناعية المتطورة خلال
مراحل تطورها،لا يجب أن تعانيه أيضا المجتمعات النامية
الساعية للتطور و التقدم،بل يجب عليها تجنب هذه المشاكل و
الاستفادة من تجربة المجتمعات التي سبقتها.
|