فائق بطي
تموز -
ايلول 1982
تسارعت
الاحداث اكثر من تسارع الأيام، وهي تحمل الألام والحزن
للعراقيين.
صيف ساخن
سجلت فيه الحرب العراقية - الايرانية اشرس المعارك،
واقترفت فيه اسرائيل ابشع الجرائم بحق الفلسطينيين
واللبنانيين.
لم يبخل
العراقيون بدمائهم في هذه الاحداث. ففي بيروت روت دماء
ثائرة فخري بطرس، وغازي فيصل ذرب، شوارع بيروت حينما
استشهدا اثر غارة الفاكهاني. واستشهدت في معارك "حي السلم"
كوكبة اخرى من المقاتلين في خنادق حركة المقاومة
الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، يتقدمهم الشهداء
عبد الكريم جبار كريم (ابو فيروز) وسعيد عبد الكافي حسن
(ابو احمد) وكريم محمد لازم (رشاد) وحازم محمد خليل
(جمال). لم تقف هذه البطولات عند حدها في لبنان فقط في تلك
الايام، بل سبق للعشرات من المثقفين والطلاب ان ساهموا في
معارك المقاومة الفلسطينية في احداث الجنوب اللبناني او في
الاردن. هذا عدا الشهداء الذين راحوا غدرا برصاص كواتم
الصوت البعثية، ومنهم مثلا اسعد لعيبي، الذي كان مرافقا
شخصيا لفخري كريم، ويعمل في مكتب الحزب في بيروت.
***
اتصل به
ماجد الياسري واخبره بحادث الاعتداء على حياة فخري كريم في
بيروت.
اسرع اليه
لمعرفة التفاصيل. سلمه بيانا تضمن تصريح الناطق بأسم
المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي في 28 \ 8 \ 1982،
قرأ فيه :
"بعد ظهر
يوم الجمعة الماضي المصادف 27 \ 8 \ 1982 قام مرتزقة من
عملاء المخابرات العراقية بجريمة نكراء، حيث حاول عملاء
النظام الدموي الحاكم في العراق اغتيال الرفيق فخري كريم
عضو اللجنة المركزية لحزبنا الشيوعي العراقي في بيروت اثر
عودته من توديع المقاتلين الفلسطينيين البواسل. وقد اصيب
الرفيق بأربع طلقات نارية في وجهه ويده واصيب رفيق آخر
اصابة في يده ايضا."
اذن ،
الجريمة كانت محاولة اغتيال.
لم يمت
فخري، او بالاحرى (علي عبد الخالق).
ففخري اسمه
الحقيقي، وعلي عبد الخالق هو الأسم الحركي، او أسم من
الاسماء الحركية التي استخدمها في نشاطاته خارج العراق،
بعيدا عن عيون الرقباء والجواسيس.
عرف ذلك من
خلال اطلاعه على الصحف اللبنانية وهي تنشر تصريحات القائد
الشيوعي العراقي، علي عبد الخالق. كان يعتقد في بادىء
الامر، ان المسؤول الحزبي هو بالفعل علي وليس فخري. فاجأته
يوما احدى الصحف بنشر صورة للمتحدث الى مراسلها، داخل
الحديث ، مع عناوين بارزة لأهم ما قاله في ذلك اللقاء
الصحفي.
كانت
الصورة المفاجأة لفخري كريم وليس لعلي عبد الخالق.
عادت به
الذكريات الى سنين مضت، عندما كان يطلع على مقابلات او
تصريحات (ابو عمار)، زعيم حركة فتح ، منشورة في الصحف
العربية والاجنبية. فاجأته صورته في احدى الصحف اللبنانية،
واذا به ، الصديق الذي كان سكرتيرا لرابطة الطلبة
الفلسطينيين في القاهرة في نهاية الخمسينيات، ياسر عرفات.
واصل تتبع
اخبار فخري بعد حادث بيروت، وقالوا له بأنه يتلقى العلاج
في موسكو.
اتصل بجلال
الماشطة، وطلب منه ان يوصل تحياته الى فخري وتمنياته
بالشفاء العاجل.
***
في مطلع
شهر ايلول، ترك لندن في طريقه الى لوس انجلس في ولاية
كاليفورنيا الامريكية.
لقد مرت
سنتان على وجود لهيب وسعاد في تلك المدينة بعد هجرتهما
الاضطرارية.
حطت به
الطائرة في مطار المدينة. كانت لهيب بانتظاره.
لم يلقها
منذ ان ترك بغداد قبل ثلاث سنوات.
كان رافد
قد سبقهما الى سانتياغو في منتصف عام 1980، للدراسة.
استعجل
اجراءات المطار للقاء ابنته الوحيدة.
لحظة رائعة
بقيت عالقة في ذهنه كل السنوات اللاحقة.
عانقها
طويلا، وتأمل وجهها الجميل، فرأى وجه رافد أمامه، يبعث
حيا.
كان فرحا
باللقاء.. الا ان امريكا لم تعجبه.
حاول ان
يتكيف مع الوضع الجديد، لكنه كان يصطدم بعوامل تجعل البقاء
والعيش في امريكا مستحيلا. اراد ان يبقى لفترة قصيرة قبل
ان يتخذ قراره النهائي. ان رافد معه اينما يذهب في
المدينة. كان ولده هناك لمدة ثلاثة اشهر فقط عندما اختطفته
وغيبته شوارعها في حادث مرور عابر، من قبل سائق متهور.
الحياة صعبة في بلد يتراكض فيه الناس، وتسرقهم الضرائب،
فيتحولون الى مستهلكين يغذون اصحاب الكروش والياقات
العالية. لا اثر للعلاقات الاجتماعية، ولا يوجد اصدقاء،
حتى الجيران بعيدون عن بعضهم. المدينة شبه مهجورة، ولا ترى
اي فرد في الشوارع، فالكل يستخدمون السيارات في بلد
تستهلك فيه بشكل غير معقول، كل ما تنتجه مصانع السيارات
في العالم.
كان البعد
الجغرافي بالنسبة اليه، عاملا آخر من عوامل عدم تقبله فكرة
ترك لندن والعيش في المدن الصحراوية الامريكية.
لكنه، قرر
ان يحاول التجربة..
فدامت تلك
التجربة، ستة اشهر.
التقى
بالصدفة بعد ايام من وصوله لوس انجلوس، صديقاً (صحفيا)
كان طالبا معه في الجامعة الامريكية بالقاهرة. ملكون
جبران، ابن صاحب جريدة "الاخبار" وشريك والده فيها في
الثلاثينيات، ترك العراق منذ سنوات طويلة واستقر تاجرا في
كاليفورنيا. لم يفهم من الصحافة التي درسها سوى المحاسبة.
وحتى في هذه "المهنة"، فشل في ادارة الجريدة.
اعتقد في
بادىء الامر عندما فاتحه بالشراكة، في عمل تجاري، انه تاجر
ناجح بحكم قدمه في الاغتراب، ومعرفته بالبلاد، ومستوى
المعيشة التي كان يرفل بها.
جال بفكره
طويلا، واسترجع تاريخ والده مع والد ملكون حين كانت الشركة
التي اصدرت جريدة "الاخبار" عام 1931، فاشلة منذ الايام
الاولى لصدور الجريدة. الوالد يحرر ويكتب ويجعل الجريدة في
المركز الاول في صحافة البلاد، وشريكه يدير ادارتها ويكتنز
المال دون رقيب. فالصحفي منشغل بالكتابة ولا يدري في
الحسابات شيئا، ولم يعر يوما اية اهمية للفلوس. انه لا
يفهم بهذه الامور، ففشلت الشركة، واوقف الوالد الجريدة
وخرج من المشروع بماكنة طباعة واحدة لا تفي بالغرض المطلوب
لادامة عملية اصدار الجريدة.
لايزال
يفكر، فالخسارة المادية بالنسبة له، كبيرة. اما بالنسبة
الى ملكون، فانها لا تشكل نهاية المطاف الى وضعه الاجتماعي
والمادي، وكل الذي كان يبتغيه من الشراكة في اي عمل، قضاء
الوقت، واسكات صوت الزوجة التي تلح عليه بالعمل.
قرر ان
يجرب حظه، ومع التجربة، قد ينمو الأمل في البقاء.
تم الاتفاق
على شراء "سوبرت ماركت" صغير اسمياه (مخزن العائلة) في
منطقة جميلة وغنية.
اتم ملكون
اجراءات الشراء والتسجيل التجاري للمخزن.
تولى هو
تدبير امر اللافتة والوان الكتابة لأسم المشروع.
وزع
الاعلانات عن قرب موعد الافتتاح الكبير لسوق من اسواق
الشرق.
توقع
وملكون، ان الافتتاح سيكون مهرجانا وعرسا تجاريا.
وطالت ايام
المهرجان الموعود، دون زبائن.
بدأت
اللحوم وانواع الاجبان تفسد، وبراميل القمامة تمتلئ
بالبضاعة الفاسدة.
جلس كل يوم
ينظر الى الرفوف العامرة بالمواد والمعلبات، والى خزانة
السجائر المملوءة بافخر انواع التبوغ في العالم تفرغ ولا
تملأ من جديد. الايجار الباهظ بدأ يضغط على الوارد الناضب
كل يوم. تراكمت الخسائر، وازدادت الديون بعد ان عجز ملكون
عن تسديدها، او التقليل من فوائدها العالية في بلد
الرأسمال العالمي.
ندب حظه
الف مرة.
هل كتب
عليه ان يخسر كل شيء؟
خسر الوطن
اضطرارا.
وخسر ابنه
البكر والوحيد، مبكرا.
وخسر ما
تبقى له من النقود، حصيلة ايجار داره في الجادرية ببغداد
لخمس سنوات قادمة.
لم يبق
اذن، شيء ليخسره.
صحا على
صوت يناديه.. التفت الى مصدره، فوجد صديقا قريبا جدا منه
منذ ايام الدراسة في كلية بغداد، وفي ساحات الرياضة
المحلية ومنها ساحة الكشافة في الوزيرية.
فؤاد كلو،
ابن صاحب فندق بغداد، مهاجر مغترب قديم، جرب حظه في امريكا
عاملا في مطعم، ثم مديرا لفندق، واخيرا، صاحب مخزن (ستور)
في ديترويت بولاية مشيغان. عاد بعد هذه الانتكاسات، الى
لوس انجلوس ليجرب حظه هو الآخر من جديد.
بعد العناق
الطويل، عرف فؤاد، انه شريك مع ملكون في "السوبر ماركت".
ضحك وقال:
- من ورطك
بهذا العمل. انت غشيم ولا علاقة لك بمثل هذه الاعمال.
أجابه:
- الحظ يا
فؤاد.
استدرك
لكلامه، قائلا:
- ملكون
هو الخبير.
ضحك فؤاد
وهو يصفق مازحا، وقال:
- ملكون
صحفي فاشل، واراد ان يصبح تاجرا، ففشل، فكيف يورطك هذه
الورطة؟
- ما
العمل؟
- تخلص منه
اليوم قبل الغد.
- لماذا؟
صارحه فؤاد
بأن المنطقة لا تتحمل مخزنا عربيا، وتعتبر مقفلة بوجه أي
عربي يسكن فيها. انها منطقة يسكنها اليهود، وشراء اللحم
محرم عليهم الا اذا كان بالحلال حسب الطقوس اليهودية.
ايقن ان ما
يقوله فؤاد هو صحيح. فطيلة المدة التي يقضيها في المخزن،
لا يرى الا القليل من الاجانب يشترون المواد المعلبة او
المثلجة فقط.
فاليهود لا
يشترون اللحوم.
المكسيكيون
لا يشترون سوى البيرة.
الامريكيون
لا يقبلون على شراء المواد الشرقية.
ادرك كل
ذلك بعد فوات الاوان.
قال لفؤاد:
- طيب يا
اخي، انا غشيم، فما بال ملكون؟
رد عليه
قائلا:
- هذا هو
بالضبط السبب وراء الفشل.
كانت تجربة
فاشلة وخسارة مادية كبيرة.
فشل في
مشروع المطبعة بلندن، وفشل مرة اخرى في مشروع المخزن في
مدينة هوليوود.
|