د. علي ثويني / معماري وباحث / ستوكهولم
لو قارنا بقر الهند المعبود مع النخلة العراقية بحسب ما
تغذقه من خير على البشر من حولها؛ فأن العراقيين أولى
بتقديس نخيلهم.ونسمع عن شعوب وقد عبدت طوطميات أقل شأنا
وعطاءا مما تهبه النخلة لهم. فالنخلة بالنسبة للعراقي تعني
الكثير ،فهي الظل الوارف الحامي من شمس القيظ ، وهي
التمر، الذي يرد منه كذلك الدبس والخل و الكحول، ومن نواه
تعلف المواشي، وهي الجّمار كذلك.والنخلة تعني البستان
الأخضر الوارف الذي ترتع في أفيائه أشجار الفواكه
والخضراوات . ومن النخلة يرد الجريد والسعف والكرب والليف
و الجذع متعدد الجدوى. و أورد العشابون والصيادلة في
مدونات التراث؛ أن بعض منتجاتها تستعمل في علاج ألدمامل
والقروح وعسر البول وآلام المعدة وغيرها من العلل. وخارج
جمائل الحماية والتداوي وكم العطايا ،فالنخلة جميلة
الهيئة، نظيفة المحيط ، وتضفي لعبة الضوء والظل على كربها
جمالا أخاذا، حتى وصفها المعمار محمد صالح مكية (أنها قطعة
نحتية ونصب جمالي).
والعراق مهد النخيل وهبته،و عشقها العراقيون خلال تاريخهم
الطويل، وأحاطوها بحظوة في الحضارات الفراتية و السومرية
والأكدية والبابلية، وعرف العراقيون النخلة قبل الطوفان،
وقد ثبت أن منطقه أريدو جنوب أور كانت زاخرة بالنخيل،
وهي من مدن قبل الطوفان منذ الألف الرابع قبل الميلاد.
وجسدت تبجيل النخيل شريعة حمورابي حينما سنت عدداً من
القوانين التي شجعت على زراعتها وعاقبت من قطفها،و أطلق
عليها "شجرة الحياة" . ومن ضمن أربعة أشياء قدسها
الآشوريون في منظوماتهم التربيعية؛ كانت النخلة.
وأكتسب النخيل المنزلة عينها في الإسلام، وورد ذكرها
ثلاثاً وعشرين مرة في القرآن الحكيم ،وجاء مقترنا بوصف
الجنات والتشويق لها كما في قوله تعالى من سورة البقرة (
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ
نَخِيل)ٍ. وأشيع عند المسلمين أن النخلة خلقت مع آدم عليه
السلام ولذلك سماها النبي (ص) بالعمة (عمة بني آدم).وبجلها
الناس ونقل لنا أبن وحشية لسان حال زمانه عن النخلة بأنها
(تشبه الإنسان من حيث استقامة قدها وطولها وامتياز فحالها
عن إناثها واختصاصها باللقاح الظاهر للعيان ولو قطع رأسها
هلكت ولطلعها رائحة المني ولها غلاف كالمشيمة التي يكون
فيها الولد والجّمار الذي في رأسها لو أصابه آفة هلكت
النخلة لا محالة، فهو بمنزله المخ في الإنسان إذا أصابته
آفة ولو قطع منها سعفه لا يرجع بدلها فهو كعضو الإنسان....
أما الرطب فانه انفع شئ للنفساء وهو أحسن دوائها والرطب
يلين الطبيعه ويزيد المني ومع الخيار والخس أنفع وأفيد).و
ما كنية العراق "أرض السواد" إلا صفة أكتسبها من لون نخيله
الذي بدا داكنا لعيان أهل الصحراء العربية الصفراء
المضيئة . ومن الطريف أن جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا
البصريين ،قد اعتبروها الأقرب من النبات بالحيوان والإنسان
وورد في رسائلهم (كتب في عشرينيات القرن العاشر
الميلادي):(النخل هو آخر المرتبة النباتية مما يلي
الحيوانية، وذلك أن النخيل نبات حيواني لأنه مباين في بعض
أحواله أحوال النبات، فإناثه غير ذكوره، ولقاحها من
الفحولة، كلقاح إناث الحيوان. وإذا قطعت رؤوس النخيل جف
وبطل نموه ومات، وهذا من شأن الحيوان ،لا من شأن النبات).
وحنين العراقي للنخلة كحنينه لفراتيه وعبق طين أرضه،وحاكى
جذوة الشوق للأم والأهل. فها هو الراحل غائب طعمة فرمان
يقحمها في تغريبته (النخلة والجيران). والظاهر أن ثمة
تقارباً في السجايا بينها وحاضنها، فهي حنينة ،تسبغ ظلها
على الآخرين ، غير عابئة بنفسها، كاظمة متسامحة دمثة، ترمي
تمرا لمن يرميها حجرا ،وأن قضت فأنها تموت واقفة. وغير ذلك
فهي عطوفة تقترب من المحب والصديق والجار، حيث يقول
العارفون أن أنثى النخيل عندما ينمو في جوارها ذكر نخل، لا
يكون نموها عموديا بل مائلا باتجاهه، لتلتقف الطلع منه.
وأضطلع "صاعود النخل" بحظوة إستثنائية في الأعراف
الاجتماعية العراقية ، لما تمتع به من قدرة على وطأة رأس
"سيد الشجر" وقطف ثمره. وأحتفى الناس بها في أدبياتهم
وأمثالهم،حتى تعدد ذكرها وتنوع إصطلاحها. فبحسب هيئتها،
فهي (قاعدة) إذا صار لها جذع و(هاجن) إذا حملت وهي صغيرة
و(الكتيلة) اذا استدار جذعها وتنال الشاة ثمارها
و(العقيدة) اذا طال جذعها قليلا ويتناول من ثمرها المتناول
و(النشوة) اذا ارتفعت ولم تنلها اليد و(ربيعة) اذا ارتفعت
وطالت ولم تنل ثمارها . حتى يرقاها المرتقي وباسقة (عيطة)
اذا ارتفعت كثيرا و(مهجرة) اذا افرطت في الطول .
وبصدد كظمها للضيم،فقد أثبتت دراسة علمية أن النخلة تتفوق
على جل الأشجار في تحمل الظروف الجوية والبيئية من تربة
مالحة أو ارتفاع وانخفاض درجة حرارة الجو وغير ذلك من ظروف
قاسية ، وان النخيل المثمر أو البالغ أكثر قدرة من النخيل
الصغير، وأن قدرة شجرة النخيل على تحمل مدى واسع من درجات
الملوحة سواء في التربة أو مياه الري، حيث يصل إلى حوالي
«24 ملليموز» أى حوالي 1600 الى 2400 جزء في المليون.و
النخيل يتحمل كذلك أعلى درجة حرارة موجودة في أي منطقة
استوائية أو شبه استوائية، و تتراوح بين 49 و52 درجة
مئوية، وتنخفض حتى تصل إلى 11 درجة مئوية وهي درجة حرارة
لا تستطيع تحملها كثير من الأشجار .و النخيل مدلل كذلك،حيث
يفضل الأرض الخصبة، إلا أن هذا لا يحول دون نجاحها في
الأرض الرملية بدرجات تتعلق مباشرة بمقدار العناية بالري
والتسميد وهو الأمر الذي يعكس قدرة النخيل وتميزه عن غيره
من الأشجار. و تتحمل شجرة النخيل سوء الصرف، ولذلك تنجح
زراعة النخيل في الأراضي المستصلحة والجديدة والمستهدف
التوسع فيها .
النخلة والعمارة
وغير ما تسبغه من فضل على الناس،فأنها وأجزاءها أصبحت
خامة رئيسية في البناء وجزءاً من منظومة العمارة . ومن
الجدير ذكره أن جذع النخلة ليس خشبا كما يظن الكثيرون ،فهو
منظومة الياف قوية ومجار للنسغ الصاعد أكثر من كونها خامة
خشب صلد يعتد به، ويمكنه أن يقاوم البحور الكبيرة بين
مرتكزات البناء ويتحمل عزوم وإجهادات البناء. و تصل
أطوال بعض أنواع جذوع النخيل خلال 15 سنة الى 28 متراً،
حيث ينمو السعف فيها ما بين (10-20) سعفة سنويا حتى يصل
عددها في النخلة الناضجة مابين (100-150 ) سعفة بطول أربعة
أمتار للسعفة الواحدة وتعتمد كمية النموفيه على عمر النخلة
وحجمها وقوتها وعدد السعف الأخضر فيها . وتثمر النخلة
عندما يصبح عمرها من أربع الى خمس سنوات،وبذلك فهي لا تقطع
عندما تثمر، ولاسيما الانثى منها، ويقطع في العادة الذكر
والنخيل العاجز عن الإغداق.
واستعملت أجزاء النخلة في أجزاء البناء المختلفة، فالجذوع
في هياكل التسقيف الرئيسي ، والسعف في التسقيف الثانوي
الذي يسبق طبقة لياسة الطين المقاوم للحرارة والسيول. وسقف
العراقيون بيوتهم بهذه الطريقة منذ الحضارات السابقة
للسومرية ،بنفس المنهجية التراتبية التي استمرت حتى يومنا
الحاضر، بغرض تقليص بحور الفجوات المسقفة؛ من الإبتدائي
حتى الثانوي والثالثي، ليختمها فرش طبقة اللياسة . وتجسد
الأمر عينه في العمارة الإسلامية من خلال أخبار مسجد
الرسول الكريم (ص) في المدينة، الذي استعملت فيه جذوع
النخيل كأساطين(دلكات) وسقفت بها الظلتين الشمالية
واليمينية. وطريقة التسقيف هذه منتشرة في الكثير من عمائر
الأصقاع ومنها العمارة الصحراوية، التي نجدها اليوم في
وادي مزاب في وسط صحراء الجزائر،الحبلى بتلاقح الأعراف
البنائية الواردة من الشرق. ونجد في عمارة هذا الوادي
الصحراوي كثيراً مما يوحي إسترسال الأعراف من القدم، و
الأجدر أن يكوم من العمارة العراقية حصرا. ومازال القوم
يستعملون في صناعة العقود والأسكفات المقوسة من خلال تثبيت
السعف على مرتكزيها في الأعمدة أو الحيطان ، ثم ليها
وربطها في الوسط، ليستند العقد ثم البناء فوقها ،ويأخذ
شكلها .وثمة الكثير من مفردات العمارة هنا التي يوظف فيها
منتج النخيل. ومن الطريف ذكره بهذا السياق أن التمر من نوع
(دكله) هو الأكثر رواجا في صحراء شمال أفريقيا، وتلك
التسمية واردة من السومرية ،حيث كان التمر نفسه يطلق عليه
أسم (دكله).
وحينما تطورت العمارة العراقية في سالف الأزمنة،و استحدثت
عناصر القبو والعقد والقبة تحايلا على وهن خامة الطين،
فأنها لم تتخل عن إستعمال النخيل في البناءات ولاسيما
القروية منها. وقد عاصرت الأجيال السابقة هذا التقليد
وأستمرت حتى حلول العمارة الحديثة ،حينما حلت الهياكل
الحديدية ثم الخرسانة المسلحة محلها ،وكادت أن تنقرض اليوم
حتى في البناءات الريفية .
واليوم وفي خضم غلواء "الحداثة" المعمارية وبعد أن كانت
خامات النخيل الوافرة تبرر رخص البناءت في التراث
المعماري،والتي وصلت اليوم الى تكاليف باهظة ،ثم كارثية
،فاقم أزمة المساكن تصاعديا بالتناغم مع سوء التسيير
والتخطيط السياسي للسلطة البائدة. ويمكن أن تكون بداية
الأمر حينما ألغي معماريو الحداثة والأكاديميون من قاموسهم
إستيعاب خواص مواد البناء المحلية ولاسيما ما تنتجه النخلة
، ولم يعتنوا بمواءمتها والاخذ بيدها في خضم مساعيهم
التجديدية .
ونشط بالعالم في الآونة الاخيرة مسعى لتكريس "العمارة
الخضراء" الذي استوجب حث خطى البحث العلمي نحو نزعة
معمارية بيئية،تحبذ في حيثياتها إستخدام خامات البيئة
ومنها النخيل. واهم مانشر من تلك البحوث عملية إستخدام
ألياف النخيل في تسليح الخرسانة القشرية ،التي تصل بحور
الفتحات المغطاة بها حوالي 3م ،وهي مسافة معقولة لتسقيف
المباني السكنية الريفية و بيوت ذوي الدخل المحدود في
ضواحي المدن. وقد كان قد بدأ البحث في تلك المواصفات
البنائية في نهاية السبعينيات،واضطلع به معهد تورينو
المتعدد التقنيات في إيطاليا ،ووصل الى نتائج باهرة. وكان
من أمثلتها إستعمال الخرسانة من الأسمنت والرمل بنسبة 1:2،
والتي تضاف اليها الياف النخيل بنسبة 2% من الوزن
.وبالإضافة الى ما لتلك التقنية من نتائج في المظهر
وإستعمال الأيدي العاملة متوسطة المهارة ،فأنها تعتبر
متقدمة في تقليل التكلفة ،حتى تصل الى نسبة 83% من تكلفة
نفس السقوف الخرسانية التي يستعمل فيها الحديد المسلح.
ويمكن أن تكون تلك رسالة موجهة الى معماريينا العراقيين،
ممن تحاشوا طرق الأعراف البنائية بحجة مستلزمات
الحداثة،ولم يسعوا مثلما سعى إليه المعمار المصري حسن
فتحي(1900-1989) حينما أحيا تقانة قديمة تستعمل خامة الطين
(الطوب) وتعقد بالقباب والأقبية،و هي في حقيقتها طريقة
عراقية كذلك.ويسري هذا الحال على إحياء جدوى إستخدام خامات
النخيل و القصب والبردي والجص والطين والحجر في العراق .و
يجدر ان تنشا لذلك الأمر مراكز بحوث تضطلع بتطوير ملكاتها
وصيغ إستعمالها في خضم الحاجة لإيواء الناس ،ولاسيما أصحاب
الدخل المحدود وكذلك العمارة الريفية.
محمد صالح مكية وعمارة النخيل
وكان الدكتور محمد صالح مكية (مولود في بغداد 1914) قد
أقنع الزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم، وأستصدر من سلطة
الجمهورية قانونا لحماية النخلة، وتجسيد رعايتها من خلال
جهاز علمي وإداري تنظيمي.وتبنى العراق إنشاء مشروع الحزام
الأخضر للحماية من التصحر. وقد أهملت تلك القوانين مباشرة
بعد إنقلاب 8 شباط 1963 ،ثم ألغيت. وعند التحدث الى
المعمار مكية يسهب الرجل في الحديث في أفضال النخلة وكيف
يمكن أن توظف في التهيئة العمرانية, ونقتبس هنا جزءاً من
حديث معه، تحدث فيه عن شجون النخيل والعمارة قال فيه:
(النخلة منظومة مواد بناء وخامات للاستعمال البشري يمتد
شوطها بين الكرسي حتى الطبق وأدوات الخزن المصنوعة من
الخوص وكذلك المفروشات والحصران وما الى ذلك ، ناهيك عن
جماليتها التي تضفيها على المكان وبكونها شجرة لاتأخذ حيزا
كبيرا ،وهي نظيفة لا تقذف بأي خبث أو أوساخ.وإذ أعود الى
بواكير وجهة نظري المعمارية، وأقر بأن يهب ذلك الكائن
حقوقه الكاملة ثم يتبعها "ترتيب النظام المعماري"
ولاسيما في الظروف الحضرية التي تحتاج الى معاينة خاصة
تختلف عن الظروف الريفية التي تضمن لها الرعاية والعناية .
وهنا أذكر نظام الأروقة المغطاة الذي هو تقليد موروث في
عمارتنا والذي تكرس في العمارة الحديثة بتلك الأروقة
الخرسانية والأرضيات المسفلتة ،التي نجدها سمة غالبة يمكن
تحاشيها لو حللنا النخيل بمكانها،فأروقة النخيل والممرات
التي توشح بها هي أكثر إنسانية و أرخص ثمنا .وهنا أذكر
انتقادي لشوارع مدينة الرياض التي خططت، بحيث يكون اتساعها
60 مترا تتعرض لسقوط شمس الصحراء الحارقة .لقد كان من
الأجدر أن تصغر عرضا وتوشح بأروقة وممرات مفتوحة تحت صفوف
النخيل الجميل لتمر السيارات في غابات من وارف ظلالها
وبذلك يتسنى لنا أن نطلق عليها حقا مدينة "الرياض".
والحال نفسه كنت قد التقيته عند مشاركتي في مشروع توسعة
مدينة مسقط خلال عقد السبعينيات،وكانت وجهة نظري بأن يقسم
الطريق الى شعبتين إحداها يرد الى المدينة والأخر يخرج
منها و تنوع بذلك المناظر الطبيعية لرواد الطريق من خلال
اختراقهم لشارعين يكتنفان بيئتين جماليتين مختلفتين. وقد
رمت ربط مسجد الدولة الكبير الذي كان من ضمن تخطيط المدينة
التوسعي بشاطئ البحر وذلك بتسقيف جزئي لبعض الأجزاء وإنشاء
رصيف بحري مسطح (Deck)
،وتوازيا مع ذلك أخفض مستوى الشارع واستعمل في ذلك حل
"المستوى النصفي" الذي يجعلني اخترق بساتين النخيل التي
سوف تطرز هذا الفراغ من الأرض والذي سوف يهب المكان سحراً
وجمالية .واستغلال المساحات المحصورة بين اتجاهات الشوارع
الذاهبة والآيبة لتكون مساحات خضرا موشحة بالنخيل تستقبل
زائر المدينة بالخضرة النظرة من على بعد 20 كلم قبل الدخول
الى المدينة الذي يلجها تباعا الى منطقة الشرايين التي
تتوزع موصلة الى المدينة .ويمكن تسمية الخطوط تلك بالحمر
والخضر واعتبار كنه العلاقة بينهما والتعامل معها بشكل
"عضوي" بحت .
ووجود الدولة واللامركزية الإدارية يصب في مصلحة تطوير
المساحات الخضر الموقوفة ولاسيما بساتين النخيل الموجودة
في العراق حيث يشكل ريعها مصدرا معتبرا يمكن الاستناد إليه
في تطوير الملكات الاجتماعية .فقد اقترحت يوما على بعضهم
ممن يشرفون على بستان نخيل موقوف بأنني مستعد أن أوفر لهم
مبلغاً من المال قدره ثلاثة أرباع المليون دينار سنويا (ما
يقابل في حينها مليونين وربع مليون دولار أمريكي) ،يمكنهم
أن يسددوا منها فوائد البنوك التي تقرضهم من أجل مشاريع
المساكن والخدمات والمدارس. وبذلك يمكن اعتبار التعامل مع
المؤسسات الأهلية و القفز فوق مؤسسات الدولة وبيروقراطيتها
في مسالة التعامل مع الأوقاف يصب في مصلحتها وبالتالي
المصلحة العامة. وأذكر هنا الأوقاف الشيعية في العراق التي
هي ثروة لا تقدر ،بحيث يجب وضع قواعد تشريعية فقهية صارمة
بحقها وقد كنت قد اتصلت مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين
ليبحث هذا الأمر عن كثب وأن يضع ما يثبت نصابها.بحيث يتم
إنشاء مجلس أمناء منتخب ومأتمن في كل مدينة يشرف على عملية
التطوير.
وهذا الأمر يضطلع بأهمية كبرى في دوران المال العام والخاص
ليصب في المصلحة العامة وننظم له مجالس سامية . وبها يمكن
وضع اليد على الجرح العميق الذي يكتنف تخلف مجتمعاتنا ومن
ورائه مدننا التي كانت يوما عامرة و ملأ صيتها الدنيا ،و
نجدها اليوم لدى سيرنا من بغداد حتى البصرة خرائب وأطلالاً
تفتقد الى أبسط شروط الحياة الإنسانية.
وأذكر هنا أحد الأساتذة الكبار الذي لجأت الى معينه الغزير
وهو صديقي (البروفيسور أدمز) الذي كان قد عمل بحثا مقتضبا
عن موارد منطقة ديالى الزراعية وخراجها الزراعي خلال
الحقبة الساسانية قبل الإسلام وكذلك الحقبة العباسية بعد
الإسلام بحيث أنها وصلت الى مقادير إقتصادية خيالية من
ثراء الإنتاج الزراعي وكان سببها بساتين النخيل ،والذي
نجده اليوم قد وصل الى حافة الهاوية. ونلمس جميعا الكساد
الذي عم و تجسد في خرائب المدائن بما يشهد على ذلك
الانحدار الحضاري .
إن مشروع الحزام الأخضر المتكون من طوق من بساتين النخيل
التي تحيط ببغداد ، هو من أكثر المشاريع التي دافعت عنها
خلال نشاطي المعماري وجاهدت فيها ضد الإدارات التي قابلتني
بالرد السلبي وبالتعنيف أحيانا كما كان التساؤل الذي
التقيه على لسان المسيرين فيها هو: ما مدى مصلحتك في ذلك
المشروع؟ ،و باعتقاد جازم منهم انه يعود علي بالنفع الشخصي
الذي جعل أحد الوزراء أن يطردني من مكتبه بعد أن شرحت له
المصلحة العامة المجنية من ذلك البستان المحيط
بالمدينة،وكان مرد ذلك خطة أعدها الوزير من أجل اختيار
موقع إنشاء مخازن للوزارة التي تقع في نطاق ما كنت اخطط له
بأن يكون جزءاً من ذلك الحزام الأخضر.
ولا يمكن حصر هذا المشروع بحلول آنية للمدينة وعضويتها
والإكتفاء بمقصد خفض الزيادة المفرطة في درجات الحرارة
للمدينة فحسب بقدر ما أنني اهتديت الى أن ذلك الحزام سوف
يتطور مع مرور الزمان بحيث يكون تشعبات تمتد بالتناغم مع
أوتار وشرايين المدينة الجديدة التي تكبر معها عضويا
،وبذلك يضمن مستقبل أخضر للمدينة.وقد كنت أروم ان يمتد ذلك
الحزام موازيا لمسير خط دجلة حتى أبعاد قصوى الى جنوبها
وشمالها بحيث يتخلل تلك المساحات نوع من الواحات الموظفة
للراحة والاستجمام التي يمكن أن تكون نهايات لشبكة من
القنوات المائية التي تتفرع من دجلة لتكرس حالة من العضوية
بين جداول الماء وغابات النخيل التي تضم في كنفها الأحياء
السكنية الجديدة. أتمنى أن لا تكون تلك التجربة تحاكي
التجربة البائسة التي شقت بها ما يسمى بقناة الجيش والشارع
المحاذي لها بشكلهما الوتري الذي يربط بين شمالي بغداد
وجنوبيها بحيث كانت النتيجة سقيمة ومملة وسمجة، فطبيعة
السواقي عادة ما تكون ملتوية بحيث توفر بدوراتها المناظر
الجمالية المزدانة بالنخيل ومقصورات الاستراحة والمساحات
المهيأة للاستجمام التي توفر للمعمار أفقا أوسع من
الإبداع .)
أنتهى حديث الدكتور مكية، ويبقى لنا أن نفكر مليا بما
قاله،ولاسيما إحياء مشروع الحزام الأخضر،أو نحيي قوانين
حمايتها أو نكرس بعض أفكاره في مقبل الأيام التي سوف تتطلب
إرساء مدن عراقية جديدة تستوعب الأعداد المتزايدة وإيواء
من لا مأوى لهم، لنوظف النخلة في شجونها وحيثياتها، ونجسد
مدن الأروقة التي تحفها النخيل
|