تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حدث في نيسان 2003 وفصوله ما زالت مستمرة: انقاذ مكتبة المجمع العلمي.. دراما عراقية لم تنقلها الفضائيات!

مواطنون وموظفون يجهضون أهداف سرقة الذاكرة العراقية

صباغ دور يساوم اللصوص ويحصل على أغلى افلام المخطوطات.. و(أمين!) عام المجمع يجهض أفكاراً بناءة تحاول انقاذ ما تبقى!

أصحاب الدور الملاصقة للمجمع يدافعون عنه باسلحتهم الخاصة.

جامعي يعطي سلاح حمايته الخاص لحراس المجمع

الموظفون يجمعون نقوداً لشراء سلاح يؤمن الحماية للمجمع

(كاكة جليل) يرفض 20 مليون دينار لقاء السماح بسرقة مولدة ضخمة!!

عامر القيسي

الزمان: صباح يوم 10 / 4 / 2003

المكان: بناية المجمع العلمي العراقي

المشهد: دبابتان امريكيتان، تقتحمان الجدار الخارجي للبناية وتهدمانه وتستقران متوازيتين في الباحة الامامية الواسعة.. ومجاميع من (اللصوص!)، من خلف الدبابتين وبينهما، تقتحم المبنى باندفاع وهمجية.. وتبدأ عمليتان مختلفتان. الاولى تتسم بالفوضى والتدمير العشوائي لكل شيء امامها وسرقة ما تراه.. والثانية تتجاوز كل هذه الفوضى والانلافت، وتذهب مباشرة إلى حيث الاهداف المرسومة لها، فهي كما بدا من لهجتها قادمة من وراء الحدود، وتعمل بكل هدوء وتنتقي ما تريد من تاريخ العراق وثقافته وتكوينه الفكري. لإلغائه نهائياً من الذاكرة العراقية!! هذا السيناريو تكرر عشرات المرات امام مراكز ثقافية في بغداد فضلاً عن مبانٍ رسمية تابعة لمؤسسات الدولة.. مواطنون وموظفون كانوا شهوداً على ما حدث في بناية المجمع العلمي العراقي وتحدثوا لنا عن هذا السيناريو وتفاصيل اخرى كثيرة...

ولكن هل استمر المشهد على حاله حتى نهاية احداث المسرحية؟ أم ان تحولاً دراماتيكياً قد طرأ على طبيعة الاحداث المرسومة؟

وهل تحققت كل الاهداف لهذا العمل؟

وما دور الجمهور في كل هذا، ... الجمهور الذي دفع ثمناً باهضاً مرغماً على مشاهدة عرض مأساوي لم يكن راغباً برؤيته!!

سنحاول في هذا التحقيق ان نتوصل إلى بعض الاجوبة لهذه الاسئلة وغيرها، من أناسٍ، كان لهم الدور الفاعل في "تخريب" هذا العرض المسرحي التدميري. ومنع المخرج مع ممثليه من تحقيق كامل أهداف هذا العرض.

حكايات وحكايات

روت لنا السيدة جوان محمود أمينة مكتبة المجمع، ولها خدمة عشر سنوات، قصة جهود بعض الموظفين وبعض أصحاب البيوت الملاصقة للمجمع فضلاً عن مواطنين لا علاقة لهم بالمجمع، في انقاذ ما يمكن انقاذه من خراب تلك الأيام. قائلةً:

وصلتنا اخبار، بان المجمع يتعرض لعملية نهب واسعة وبسرعة تحركت مع كل من اخي وابي وزوجي، لأخذ موافقة الدكتور "احمد مطلوب" الامين العام للمجمع، الذي قال لنا "لا أريد ان اجازف بحياتكم. لقد انتهى كل شيء". وفعلاً كان الوضع الامني لا يساعد على الحركة اطلاقاً. وفي يوم 16 / 4 وحين توفرت سيارة لنا، أخذت موافقة الامين العام وتوجهت إلى المجمع. وهناك بكيت.. لقد كان المنظر مروعاً. ما الذي يحدث لك حين تشاهد بيتك مهدماً ومسلوباً وخاوياً؟

وفي الحال بدأنا العمل لانقاذ ما يمكن انقاذه، مع المهندس طه كامل والدكتور، حسين الحائري الذي وفر السلاح للحراس، وكان منهم "ابو علي" موظف في المكتبة وأبي وأخي وزوجي وقد قضوا عدة ليالٍ في المجمع يحافظون على ما تبقى منه.

محترفون يسرقون المخطوطات النادرة

*وماذا بشأن المكتبة؟

-كان وضع المكتبة مأساوياً. الكتب متناثرة.. ودواليب حفظها على الارض مع الزجاج المهشم. لقد كان خراباً حقيقياً. جمعنا ما استطعنا جمعه من الكتب والمخطوطات المهمة.. ونقلتها إلى مكان أمين لا يعرف به إلا أنا وموظف آخر، وقد اكتشفت فيما بعد ان أهم المخطوطات والكتب النادرة قد تمت سرقتها، وباختيار دقيق، مما يدل على ان الذي اخذها محترف، ويعرف تماماً ماذا يريد، وهي حسب اعتقادي عملية منظمة ومدروسة.

كان قسم من المخطوطات أصلية والقسم الآخر مصوراً، ولحسن الحظ لم يلحظوا كتباً حجرية بطباعة قديمة جداً ونادرة.

*ومن سواكم اسهم في الحفاظ على الكتب والمخطوطات تحديداً؟

-أصحاب البيوت الملاصقة للمجمع، الذين استطاعوا ان يجمعوا كمية ممتازة من الكتب، فضلاً عن انني حفظت عندهم مجموعات أخرى من الكتب وقد طلبت منهم عدم تسليمها لأي كان، إلا من خلال لجنة تتشكل بعد هدوء العاصفة. وهناك مواطن آخر اسمه، عمار الخطيب، أخذ مجموعة من المخطوطات النادرة واعادها كاملة بعد نهاية الاحداث.

حكاية كاكه جليل

واستطاعت والدة الموظفة "دنيا حسن" من اقناع احدى العائلات - جيرانهم - باعادة مجموعة كتب اخرى نادرة، كانوا قد أخذوها، ويخشون إعادتها، فقامت ربة البيت هذه بدور الوسيط!

وهنا تدخل الموظف حميد مجيد "ابو علي" (خدمته 25 سنة) الذي قال "إنه بمجرد وصولهم ومشاهدتهم الوضع المأساوي للمجمع، شكلوا مجموعة من الحرس، ومنعوا دخول اي شخص اليه. وذكر لنا أن أحد الحراس وهو رجل كبير في العمر اسمه "كاكه جليل" حاول اللصوص مساومته على نقل مولدة المجمع الكبيرة مقابل إعطائه (20) مليون دينار، إلا انه رفض ذلك وقال لهم بالحرف الواحد: "لو ملأتم لي هذه البناية ذهباً لن ادعكم تأخذون هذه المولدة" معرضاً بذلك حياته للخطر.

سائق وحارس ومتبرع

خالد مطشر، سائق في قسم الآليات، (خدمته خمس سنوات) في المجمع، حين سألناه عن سبب وجوده داخل المكتبة والعمل معهم، أجابت نيابة عنه إحدى الموظفات، إنه متبرع للعمل في المكتبة هنا دون اي تكليف رسمي. يقول خالد: حين أتيت إلى المجمع كان اللصوص يسرحون ويمرحون وينقلون ما يريدون. ولكونهم مسلحين لم نستطع منعهم من السرقة... لكنا توسلنا اليهم ان يتركوا الكتب، لانها بلا قيمة ولا تفيدهم في شيء، وان اشياء اخرى أكثر فائدة لهم... وأنا نفسي تسلمت مجموعة من الكتب اعادها احد الموطنين بعد عدة أيام وقال "هذه من المكتبة.... اخذتها فقط لأني احب القراءة وليس بقصد السرقة"

ايدٍ غير عراقية

وتدخلت هنا السيدة جوان، التي أكدت، إن الكثير من المواطنين ما زالوا يعيدون الكتب التي اخذوها. احدهم مثلاً اعاد كتاباً واحداً. وواحدة من الحكايات التي تؤكد - كما تقول بان الكتب المهمة التي سرقت، كانت بايد غير عراقية. إن احد المواطنين وهو في طريقه إلى الموصل سقط من سيارة حمل امامه، كيس (جنفاص) كبير، وحين توقف وحمله بسيارته، اكتشف إنه يحتوي على مجموعة من الكتب ومن ضمنها طبعات قديمة لـ "تفسير الرازي" وهو طالب في كلية اعداد الائمة في جامع ابي حنيفة.... في حين إن البعض كان يأتي وبيده قائمة بعناوين الكتب ويأخذها حتى دون ان يعرف محتواها. وقد اوضحت هذا في مؤتمر "جمعية مكتبات الشرق الاوسط" الذي انعقد يوم 26 / 5 / 2004، وقلت، إن العراقيين لم يسرقوا كتب التاريخ ومخطوطاته المهمة.

انقاذ المخطوطات

السيدة الأخرى التي بكت على منظر المجمع العلمي، اثناء استباحته، كانت سعاد ضمد،؟ أمينة قسم المخطوطات التي قالت: لقد سمعت أن الامريكان قد افتتحوا المجمع العلمي يوم الجمعة 10 / 4. واصبح المجمع مسرحاً للنهب والسرقة. استنجدت باخي الذي جاء معي، واستطعت هناك ان اجمع (335) مخطوطة مهمة جداً، ولم تكن مصورة على افلام، وساعدني في ذلك طالب بمعهد التاريخ العربي اسمه "عمار الخطيب" الذي أخذ ايضاً (630) مخطوطة مهمة وقد اعادها جميعاً إلى المجمع، وحصل على كتاب شكر. وكان من بين المخطوطات التي انقذتها (45) مخطوطة لـ "عباس العزاوي" بخط يده، والكثير من الدوريات والمجلات. وقد ساعدنا في ذلك الدكتور حسين الحائري الذي جاء بحماية معه وأعطى سلاح أفراده لحراس المجمع.

وبعد ذلك قام الموظفون يجمع مبلغ من المال لشراء السلاح لأفراد حراسة المجمع.

جزاء سنمار!

*ولكن ما قضية تهمة السرقة؟

-تنهدت سعاد، وقالت، لقد قدمت تقريراً، بان عندي (335) مخطوطة، وحسب الارشيف كان ينبغي أن يكون عندي (760) مخطوطة. ولكن أتضح فيما بعد ان هذا الفرق في الاعداد كان ضمن مجموعة الكتب والمخطوطات التي اعادها "عمار الخطيب". وقد اتهمت بالاستحواذ على هذا الفرق. إنني أسأل فقط، ما الذي منعني من أخذ كل المخطوطات؟ وكانت الفوضى سائدة ولا احد يعرف ماذا أخذ ومن أخذ. ولو فقدت كل الكتب والمخطوطات لما كان بامكان أي مسؤول ان يسأل عن ذلك. ما الذي اجبرني على اعادة المخطوطات التي بحوزتي. ولكن ماذا افعل هذا جزاء الحرص الوطني والمهني!؟ أود ان اوجه اسئلتي إلى الذين يتهمونني بهذه القضية والتي لا تمت إلى مهنتي أو اخلاقي بصلة.

مقايضة ناجحة!

وقد اثار انتباهنا، شاب كان داخل المكتبة، ويقلب بعض الكتب والمخطوطات، وكان يستمع بانتباه شديد إلى حوارنا مع السيدة سعاد، وبعد الحديث، أتضح لنا، انه احد الاشخاص الذين ساهموا في انقاذ ما تبقى من مكتبة المخطوطات. انه احمد عودة ياسين، يعمل صباغاً للدور وخريج اعدادية الصناعة، لكنه مهتم بالقراءة والمعرفة خصوصاً، كتب التراث.

قلنا له:

*ما دورك في هذه الدراما العراقية؟

-جاءني أخي الذي يعرف ترددي المستمر على مكتبة المجمع، واخبرني بان المجمع سقط بايدي اللصوص. سارعت للذهاب مع اخي وابن عمي، مدير النقل في وزارة التجارة. واثناء دخولنا كانت مجموعة من اللصوص، يحاولون سرقة خزانة الـ "سلايدات" وإحدى الموظفات تتوسل اليهم، أن يتركوها. اقتربت منهم وقلت لهم. انتم تريدون المال.. فإذا كان في الخزانة ذهباً أو مالاً فهو حصتكم، وان كان فيها غير ذلك فهو حصتي. وفعلاً نجحت خطتي، لأني اعرف ما بداخل الخزانة، فاخذتها ثم اعدتها إلى المجمع.

أغلى من الذهب

*بعد

-لقد كانت الكتب والمخطوطات متناثرة بكميات كبيرة، فقمت بنقلها على شكل وجبات بسيارة إلى بيتي، ثم توقفت عن جمع الكتب المطبوعة وركزت على المخطوطات النادرة. ونقلتها إلى البيت. وما زالت عندي في البيت. وأنا على استعداد لتسليمها إلى لجنة خاصة لهذا الغرض. والكثير من المواطنين قاموا بعمل جبار لإنقاذ المجمع وتحديداً الكتب. الجيران مثلاً، جاء بعضهم مسلحاً للدفاع عن المجمع، وحافظوا على مجموعة كبيرة من الكتب. واقول لك حقيقة، إني رأيت مجموعة من خمسة أفراد تقوم بعمل انتقائي للمخطوطات والكتب، وسمعت احدهم يقول لأصحابه "هذه اغلى من الذهب!" ولم تكن لهجتهم عراقية!!

دراما لا تتوقف!

برغم الذي جرى إلا إن جهود الاوفياء لوطنهم ومبادئهم، أعادوا افتتاح مكتبة المجمع باقسامها للرواد في 24 / 4 / 2003 أي بعد مرور اسبوعين على اعمال التدمير هذه. وما زالت الجهود تبذل لإعادة الوضع إلى طبيعته. علماً ان بعض الكتب ما زالت تعاد إلى خزاناتها الحقيقية. وهذه دعوة لكل الذين بحوزتهم كتاب أو مخطوطة، لإعادتها إلى مكتبة المجمع العلمي، لأنها ملك الجميع.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة