اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الفساد والإرهاب في العراق المعاصر

ميثم الجنابي

إن إحدى التحديات الكبرى المتعلقة ببناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني في العراق المعاصر تتمثل في كيفية مواجهة الموجة المتوحدة في عنفوانها الحالي القائمة في إرهاب الفساد المتجلبب بالسباق السيئ للقوى السياسية التي كانت للامس القريب تتحدى في شعاراتها وبرامجها مخابئ التوتاليتارية والدكتاتورية وفسادها الإداري والمالي والسياسي، وفي فساد الإرهاب المغلف بلباس الوطنية والمقاومة والإسلام. بينما يطحن المجتمع الآن بأحجار هذه الطاحونة القذرة!

إن الفساد المستشري بين القوى السياسية والاجتماعية العراقية هو (الثمرة) الفاسدة لتاريخ التوتاليتارية والدكتاتورية، التي استطاعت في غضون عقود طوال من تخريب الروح الاجتماعي والوطني على جميع الأصعدة. بحيث جعلت من العراق كيانا هشا في جميع جوانبه. وهي ممارسة أفرغت الشخصية الاجتماعية للفرد وهشمت كينونته السياسية ومقومات وجوده الأخلاقي. واثر ذلك واضح الآن في اغتراب المواطن عن الوطن ولا اباليته الغريبة بكل أمر غريب! إضافة إلى خواء الأجهزة الإدارية وتحول الإنسان فيها إلى أداة لامتصاص المال والزمن، أي إلى آلة اجترار كل ما يمكن اجتراره من اجل العيش فقط.

لقد صنعت التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية نمطا متميزا في الفساد والإفساد في العراق بحيث يمكننا الحديث عن ظاهرة عراقية خاصة في الفساد قد تكون هي الاتعس من نوعها في التاريخ المعاصر، وذلك بسبب طابعها الشامل لظاهر وباطن الدولة والمجتمع والروح الأخلاقي والإنسان الفرد والتجمعات وآلية وجود الأشياء والعلاقات، باختصار انها تتغلغل في كل مسام الوجود وتنضح منها بقدر متكافئ! وهي حالة يتحسسها المرء حالما تلامس أقدامه حدود العراق البرية! وهو الأمر الذي يجعل من العبث والسخف اتهام الدول المجاورة (مع ضلوعها المباشر وغير المباشر) في الإرهاب. فالإرهاب يبدأ من فساد الفرد والدولة ومؤسساتها. وليس هناك من شيء لم يصب بطعم الفساد الشامل في مرحلة التوتاليتارية والدكتاتورية. وهو الخطر الجوهري الذي يعرقل إمكانية الانتقال العقلاني من التوتاليتارية والدكتاتورية إلى النظام الاجتماعي المدني الديمقراطي. فقد تركت لنا المرحلة السابقة رذيلة مطلقة في كل شئ! بحيث يمكننا القول، ان عراق ما بعد التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو "النموذج الكامل" للفساد والإفساد الشامل في الدولة والمجتمع والفكر والثقافة والروح والأخلاق. أما حصيلتها الجلية والمستترة فتقوم في تضافر ثلاثة كوامن للضعف وهي ضعف القوى الاجتماعية، وضعف القوى السياسية، وضعف منظومة الحق والحقوق والعلاقات المدنية. مع انها عماد البديل الواقعي والممكن للديمقراطية

ويبرز ضعف القوى الاجتماعية من خلال انتشار وهيمنة الحثالات الاجتماعية، بوصفها مرتع الحركة الراديكالية بمختلف مستوياتها وتياراتها التي سوف تعيد  إنتاج نفسها بقوة اكثر قدرة على التخريب والمواجهة والتحدي مع كل نمو في آلية الفساد الاقتصادي والسياسي في العراق المعاصر ما لم يجرِ وضع أولوية تفتيت البنية التقليدية بالطريقة التي تدمج القوى الاجتماعية المهمشة. فهي القوى الأكثر والأوسع والأعمق انتشارا. وهي الرذيلة الأكثر خطورة التي ورثها العراق من التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. مما يجعل من مهمة تذليلها المهمة الوطنية العظمى لإعادة بناء الهوية الوطنية والاجتماعية للفرد. إن عدم حل هذه المشكلة سوف يجعل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية تقف على مستنقع دائم الإنتاج لمختلف الرخويات السياسية والراديكاليات اللاعقلانية. وفي ظل هكذا واقع يستحيل تذليل الضعف التاريخي للقوى السياسية العراقية نفسها،  ومن ثم تذليل إمكانية الإرهاب الداخلي والخارجي.

إن الضعف التاريخي للقوى السياسية العراقية هو الوجه الآخر لامتداد الزمن التوتاليتاري والدكتاتوري في مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية والمجتمع المدني. وهي حالة كان يمكن توقعها في ظل التأمل العميق لتجارب شبيهة بتاريخ العراق السياسي، الا أن الواقع يكشف عن أن الأحزاب السياسية العراقية الحالية لم تعر لهذه القضية اهتماما جديا. والأغرب ما في الأمر، انها اكثر من أي قوى أخرى أخذت في التنافس الحامي لجعل الفساد أسلوبا للنشاط الاجتماعي والسياسي. وهو أمر مرتبط من جهة بالفراغ الهائل الذي أحدثه الانقلاب الحاد والمفاجئ في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العراق، وكذلك بانعدام حصانتها وضعف استعدادها لمواجهة نفسها على حقيقتها بعد أن وجدت نفسها بين ليلة وضحاها على سدة الحكم! وهي ظاهرة سوف تضع جميع هذه القوى أمام استحقاقات المستقبل القريب.

فقد برهنت تجربة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية على أن الابتعاد عن المضمون الاجتماعي شؤون  الدولة وعن الأسلوب السياسي في إدارة شؤون المجتمع سوف يؤدي بالضرورة إلى كارثة شاملة. وهو الدرس الذي لم تتعلمه فيما يبدو الأحزاب السياسية العراقية الحالية ولم تتعظ من نتائجه النهائية بالنسبة لمصيرها ومصير قياداتها وأفرادها.

إن هذا النقص الجوهري في ممارسة القوى السياسية العراقية المعاصرة يعكس من حيث الجوهر ضعف مكونها الاجتماعي، الذي تسعى للتعويض عنه (ماديا) من خلال تحسسه في الأموال والثروة الممكنة بوصفها الوسيلة الضرورية للفوز في الانتخابات المقبلة. وهو تحسس اقرب إلى الجهل بحقيقة اللعبة الديمقراطية وقواعدها الاجتماعية الضرورية. والقضية هنا ليست فقط في الجهل بحقيقة النظام الديمقراطي بوصفه منظومة اجتماعية وسياسية وثقافية متكاملة، بل في ضعف تحصنها بقيم الهوية الوطنية العراقية. وهي حالة تتسم بقدر هائل من الخطورة بالنسبة للحركة السياسية نفسها ما لم يجر وضعها في أوليات الحزب السياسي نفسه. وإلا فان النتيجة سوف تضع الحزب السياسي نفسه على "مقصلة الديمقراطية" أيضا! خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الديمقراطية المتراكمة والمقبلة في قواعدها القانونية يصعب عليها أن تنتظم في ظروف العراق الحالية والمقبلة بمعايير العقلانية والاعتدال. إذ لا المجتمع مؤهل بعد لهذا النمط من التفكير والممارسة ولا القوى السياسية نفسها مؤهلة للفعل الديمقراطي الاجتماعي كما كشفت أحداث السنة الأولى بعد سقوط الدكتاتورية. وهو أمر يشير إلى أن الأحزاب السياسية الكبرى في العراق مازالت صغيرة بمعايير الأبعاد الاستراتيجية للبديل العقلاني والديمقراطي في العراق. وفي هذا الواقع يتضاعف الضعف الجوهري المشار إليه أعلاه، بمعنى تداخل الضعف  الاجتماعي والسياسي للمجتمع وأحزابه السياسية. أما النتيجة الملازمة لذلك فتقوم في استمرار ما سميته ضعف  منظومة الحق والحقوق والعلاقات المدنية في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية على السواء. وهي ظاهرة سوف تظل تطبع لفترة ليست قصيرة حركة والية فعل الأغلبية من الشرائح الاجتماعية والأحزاب. ولعل انتشار ظاهرة الفساد بصورة هائلة مع أول امتداد للديمقراطية في العراق تشير إلى واقع (تقاسم) الثروة من جانب الأحزاب السياسية والبيروقراطية التافهة المتربية في أحضان (النظام) السابق زائد الشرائح الجديدة الآخذة في النمو والإثراء. بمعنى توسع (القاعدة الاجتماعية والسياسية) (لتقاسم) الثروة التي كانت (تتقاسمها) حفنة صغيرة فيما مضى. وهي ظاهرة تشير إلى توسع القاعدة الاجتماعية والسياسية للفساد والإفساد. وهي نتيجة لها (تاريخها) الخاص فيما سميتهُ ضعف منظومة الحق والحقوق والعلاقات المدنية في العراق. كما انها "التضحية" الإضافية الجديدة التي يدفعها المجتمع العراقي لفترة طويلة نسبيا ما لم يتحرك هو ويفعل بمعايير القواعد الآخذة في تراكم عناصر المجتمع المدني. مع انها المهمة الكبرى للأحزاب السياسية التي لم تفقد بعد الحس الوطني والاجتماعي. فهو الرصيد الفعلي لإمكانية نموها الوطني والسياسي والاجتماعي والفكري. بمعنى أن نموها الفعلي متوقف على كيفية ومستوى تمثلها لوسائل وأساليب تذليل الضعف المركب للقوى الاجتماعية والسياسية ومنظومة الحق والحقوق والعلاقات المدنية. أما في الظرف الراهن، فإن تضافر هذا الضعف المركب في ظاهرة الفساد والإفساد يشكل الأرضية التي تسند الإرهاب الداخلي والمصدر الهائل للإرهاب المقبل في حالة عدم وضع منظومة للبديل الشامل لها.

بعبارة أخرى إن المصادر الأساسية القادرة على مد ودعم وإسناد وديمومة الإرهاب في العراق هي من العراق. انها تتفاعل من خلال تداخل ضعف القوى الاجتماعية وضعف الأحزاب السياسية وضعف أو فقدان منظومة الحق والحقوق والعلاقات المدنية مع ظاهرة الفساد والإفساد المستشرية في الظرف الراهن. ففي الإطار العام يمكن النظر إلى الإرهاب على انه ظاهرة مترتبة أما على وجود حالة مرضية عميقة للمجتمع والدولة والأيديولوجية السائدة، وأما لخلل طارئ في أوزان الوجود الدولتي والقومي والأيديولوجي، وأما لجمعه بينهما كما هو الحال في العراق الآن. وهو الأمر الذي يجعل من الإرهاب فيه ظاهرة مركبة وغاية في التعقيد. ولعل تجربته الحالية والمخاض الذي يمر به الآن هو أحد النماذج "الكلاسيكية" لظهور الإرهاب الذي يجمع في ذاته الحالة المرضية العميقة للمجتمع والدولة والأيديولوجية وكذلك خلل أوزان وجوده الدولتي والقومي والأيديولوجي. فما يجري في العراق من مظاهر للإرهاب المنفلت هو استمرار لتقاليد الإرهاب السياسي الشامل للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية بعد أن اخذ يتجلبب بلباس "المقاومة الإسلامية" و"الوطنية" وما شابه ذلك. بعبارة أخرى:  إن ما جرى ويجري من انفلات إرهابي هو التعبير النموذجي عما يمكن دعوته بالاستظهار السياسي العابر للأمراض المزمنة الموروثة من بقايا التوتاليتارية والدكتاتورية وتقاليد الاستبداد المركبة على خلفية ظاهرة الفساد والإفساد المميزة لسلوك الأحزاب السياسية الكبرى في الظروف الراهنة.

فالإرهاب في العراق هو ظاهرة جديدة لا ينبغي البحث عن جذورها في "القوى الأجنبية" أيا كانت مثل "المحتل" و"القاعدة" وغيرها. فهي قوى "تشترك" من حيث وجودها السياسي وصراعها "العالمي" في العراق، الا انها لا تحدد مضمون ومسار الصراع فيه. وذلك لأن جوهر الصراع القائم في العراق اليوم يقوم بين ممثلي تقاليد الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت القوى البعثية - الصدامية التي كانت تمثل تاريخ الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة، فإن رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. وهو رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي ارتبطت به سياسيا وتاريخيا طوال وجوده في سدة الحكم. وهي القوى التي أطلق عليها تسمية "الغلاة الجدد" في العراق. فهي القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة من اجل تحويلها إلى غطاء سياسي لاستعادة بنية الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية المنحلة.

كل ذلك يشير إلى أن المجتمع والأحزاب السياسية لم تتجاوز بعد المرحلة التي يمكن معها القول ان العراق استطاع تجاوز مكامن الخلل الجوهري في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. وهو خلل شديد الفاعلية وما زال قادراً على ابتلاع الجميع في حال عدم مواجهته ببرنامج شامل مبني على أساس رؤية الأسباب الفعلية القائمة وراءه في بنية الدولة والمجتمع والثقافة وتذليله من خلال برنامج يرتقى إلى مستوى المنظومة العقلانية، إذ تبرهن التجارب التاريخية على استحالة القضاء على الإرهاب وتذليل آثاره  من دون رؤية عقلانية وسياسة واقعية بديلة مبنية على أساس القانون والحق والعدالة. وهذه بدورها غير ممكنة دون التمسك بالحد الأدنى من الشرعية على النطاق الداخلي والخارجي، والحد الأدنى من القيم الإنسانية الجامعة المبنية على قيم الخير العام، مما يفترض بدوره تحديد الجذور الفعلية والأسباب الأصلية القائمة وراء التطرف وصيغته العنفية (الإرهاب). وهذا بدوره مستحيل التنفيذ دون: تحرير الدولة والمجتمع من مختلف صيغ الغلو السياسي والأيديولوجي، وأساليب ولغة العنف (مثل السحق والتدمير والتصفية والتحييد والتطهير وما شابه ذلك، السائدة في وسائل الإعلام)، لأنها تؤدي على المدى القريب والبعيد إلى إنتاج هذه المعاني في السلوك الفردي والاجتماعي، محاربة الإرهاب من خلال التركيز على أولوية الوسائل الحقوقية، لتحرير هذه الوسائل من خدمة الغايات الضيقة للأحزاب والأفراد على السواء.

ضرورة استناد الدولة إلى أيديولوجية أو قيم جامعة ذات أبعاد وطنية - حكومية - إنسانية مهمتها خدمة المجتمع المدني وتوسيع وتعميق آليات فعله، ووضع هذه الأفكار في أساس الدعاية والإعلام من خلال صياغة نظام مرن للحقيقة يستجيب للحاجة العملية الصحيحة، وبما يتناسب مع التاريخ القومي والثقافة القومية.

هذه هي  الأساليب العملية التي يمكنها أن تخلص الدولة من الوقوع في مغالطات سياسية ومن ثم نجاتها من الوقوع في شرك الإنتاج الدائم "لاستراتيجية الأوهام" المغذية للإرهاب. مع ما يترتب على ذلك من إفساد الدولة والمجتمع والثقافة ويضعهم في نقيض مع حصيلة التجارب التاريخية المأساوية للعراق المعاصر.

أما في الظرف الراهن فان فاعلية هذه الأساليب مرهونة بكيفية ومستوى محاربة ظاهرة الفساد والإفساد في الأحزاب السياسية بوصفها القوى المفترضة لتنظيم المجتمع والدولة لنقلهما من حضيض التوتاليتارية والدكتاتورية إلى عالم الحرية والنظام.

 


المستقبل المشرق والمستقل للعراق ليس بعيداً برغم أنف الإرهاب

كاظم حبيب

كرهت الحرب عندما كنت صبياً في الدراسة المتوسطة وتمنيت أن يسود السلام، فقد عشت سنوات الحرب العالمية الثانية، برغم بعد معاركها عن العراق، ووقفت مع طوابير الناس المتكدسة على المخابز للحصول على الخبز صبيحة كل يوم من أيام الحرب بسبب شحة الحبوب. ومع تأسيس حركة السلام العالمية حملت نداء حركة أنصار السلام أجمع عليه تواقيع العمال والطلبة والكسبة في مدينة كربلاء الحزينة أبداً. كانت شرطة الأمن تتعقب خطاي وخطى الآخرين من أنصار السلم والقوى الديمقراطية العراقية. كان هذا في بداية الخمسينيات من القرن الماضي. وبعد أقل من ثلاثة عقود أشعل النظام الاستبدادي في عام 1980 الحرب العراقية- الإيرانية بأعوامها الثمانية العجاف والخراب والموت. ولم يترك النظام الشعب العراقي دون أن يشعل حروباً داخلية، فتعددت الحروب الداخلية ضد الشعب الكردي ومارس أبشع أشكال العدوان في عمليات الأنفال وحلبجة المستباحة بالكيماوي، وكذلك العدوان على الأهوار وفي الوسط والجنوب، فكان غزو الكويت واحتلالها العدواني، وكانت حرب الخليج الثانية ذات العواقب التدميرية على المجتمع والاقتصاد الوطني والحياة العامة. تراكم الموت وارتفاع عدد ضحايا الحروب والقمع والإرهاب لتصنع جبلاً عالياً جداً يفوق علو الجبل الذي أقامته الحكومة التركية بجثث الضحايا الأرمن في عام 1915، واتسعت أرض العراق لمزيد من القبور الجماعية. وكانت مصائب الأحياء أقسى وأشد من مصائب الموتى. فتراكمت المحن على الناس وأجهز الحصار الدولي والحرمان والجوع على ما تبقى من وضع نفسي وعصبي للإنسان العراقي، وأحال الملايين منهم إلى محنة بذاتها. فزادت كراهيتي للحرب وعواقب الحرب وتعمق إدراكي بمن هو الرابح الوحيد من وراء الحروب التي تنظم في هذا العالم الواحد، الذي يشكل العراق جزءاً منه، ولِمَ تترك الأمور طويلاً بدلاً من معالجتها سريعاً لكي لا تتحول إلى مشكلة ونزاع مسلح. ومن هذا المنطلق تصديت بعناد للحرب الأخيرة التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد النظام الدموي وأسقطته إلى غير رجعة. ورغم فرحتي بسقوط هذا النظام المجرم، لكني كنت أعرف وأدرك ماذا تعني تداعيات الحرب. فمن يبدأ بحرب ما لا يمكنه تقدير، بأي حال، متى تنتهي، برغم أن نتيجتها الأولية معروفة. فحالة العراق كانت واضحة، إذ لم يكن في مقدور النظام الصمود في الحرب. ففي هذه الحرب لم تنتصر الولايات المتحدة في الحرب، بل انهار النظام الذي لم يجد من يدافع عنه من بنات وأبناء الشعب العراقي. وليس في مقدور أعوان النظام السابق وفلول الأمن والمخابرات العودة إلى الحكم بسبب رفض الشعب له، ولا جماعة الزرقاوي وبن لادن وكل الإسلاميين السياسيين المتطرفين والإرهابيين أو القوميين اليمينيين المتطرفين الذين يسهمون بوقاحة في دعم قوى الإرهاب والقتل والتخريب والتدمير في عراق اليوم للوصول إلى حكم العراق.

كنت أخشى الحرب وعواقبها المرة، كنت أعرف أهدافها ونياتها وأدرك عمق كراهية الشعب للهيمنة الخارجية. وكنت أدرك بشكل دقيق جداً، وقد نشرت ذلك، ما فعله صدام حسين قبل سقوطه استعداداً لتنظيم عمليات الإرهاب اللاحقة ضد الشعب العراقي والنظام الديمقراطي الذي يراد إقامته في العراق، كما كنت أدرك بوضوح الجهل الذي يسود الإدارة الأمريكية حول أوضاع العراق الداخلية ومشكلات الشعب الفعلية وأوضاعه النفسية. كما تبين لي في حينها أن هناك من بذل الجهد لتقديم المهمة للادارة الامريكية على انها مهمة سهلة - بدلاً من التبصير بعواقبها أو إقناعهم باتخاذ الاستعدادات الكافية لما بعد الحرب، إذ أدى هذا الاستخفاف بالنظام وأجهزته إلى كل العواقب السلبية لفترة ما بعد معارك الأسابيع الثلاثة الأولى. والاعتراف الذي أدلى به رئيس الإدارة الأمريكية أخيراً حول الأخطاء التي ارتكبت قبل وأثناء وبعد الحرب جاءت متأخرة جداً، وليس في مقدورها إصلاح مصائب الفترة المنصرمة ولا إعادة الحياة إلى الناس الذين سقطوا قتلى ولا التعجيل بإعادة بناء الخراب والدمار الذي حل بالعراق نتيجة تلك الأخطاء المبدئية القاتلة التي يحصد الشعب العراقي الكثير من عواقبها حالياً.

أقول هذا لأني أدرك أن الحرب لم ولن تحل يوماً مشكلة في العالم، بل تزيد جملة من الأمور تعقيداً و تنشئ معها مشكلات جديدة. أقول هذا لا لكي نعيد النقاش حول ما جرى وهل أن الحرب كانت صحيحة أم خاطئة، فقد فات أوان ذلك، بل لأني أجد ضرورة أن نعمل بما يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من شن حرب جديدة في المنطقة، إذ أن إسقاط النظم الجائرة هي من مهمات الشعوب ذاتها وعلى العالم مساندة تلك الشعوب في نضالها ضد حكامها الجائرين. أقول هذا لأن الإدارة الأمريكية وقواتها في العراق ما تزال ترتكب المزيد من الأخطاء في التعامل مع القوى العراقية والحكومة المؤقتة والمجلس الوطني ومع الناس عموماً.

أدرك تماماً أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تترك العراق قريباً، ولن تتركه قبل أن ينتهي الإرهاب في العراق في  أقل تقدير، إذ بدون إسقاط الإرهاب في العراق ستكون الدولة الأعظم قد استسلمت للإرهاب الدولي وخسرت المعركة في كل مكان، وليس في مقدورها فعل ذلك ولا حتى التفكير به ولن تسمح بحصوله.

وأدرك تماماً أن الشعب العراقي، الذي عانى من النظام الاستبدادي الرجعي ومن قوى الظلام والإرهاب والتطرف، لن يترك العراق تحت سيطرة الإرهابيين وأنه سيصفي مراكز الإرهاب الواحد تلو الآخر، برغم الخسائر الكبيرة التي يمكن أن يتحملها بسبب إصرار الإرهابيين على خوض هذه المعركة الخاسرة، وبسبب الدعم الذي يصل اليهم  يومياً من الداخل والخارج.

كما أدرك أن القوى السياسية العراقية، برغم الخلافات القائمة في ما بينها سوف تجد لغة مشتركة تجتمع عندها وإلى حدود معينة في ضوء قانون ادارة الدولة العراقية المؤقت، إذ أن الانكسار أمام الإرهاب سيضع رقاب الجميع تحت المقصلة بدون استثناء. وسيكون حظ الشيوعيين في الموت مثل حظ أتباع المجلس الأعلى للثورة الاسلامية أو حزب الدعوة أو بقية القوى السياسية الوطنية والديمقراطية، كما سيحاول هؤلاء الأعداء إشعال نار الحرب ضد الشعب الكردي وقواه الوطنية والديمقراطية. ولهذا ليس في مصلحة أي من هذه الأطراف الوطنية والديمقراطية السماح للإرهابيين بإيقاف المسيرة التي يسعى إليها الشعب أو التمادي في الإرهاب والقتل اليومي.

وستدرك بعض الشعوب العربية وحكومات الدول العربية تدريجياً أن من مصلحتها التصدي للإرهاب وليس تغذيته بشتى السبل، إذ أن الإرهاب إن انتصر في العراق فلن يتوقف عند حدوده بل سيمتد إلى جميع الجهات، إلى الشرق والغرب وإلى الشمال والجنوب. ولهذا فهي ستُجبر تحت ضغط الواقع على التعاون مع الحكومة العراقية المؤقتة ومع القوى السياسية لمواجهة الإرهاب، وما علينا إلا تشديد النضال لمكافحة الإرهاب وفضح أهدافه وتعبئة الأمم المتحدة والدول الأعضاء لدعم نضال الشعب العراقي وإيقاف التدخل في شؤونه ومساعدته بمختلف السبل لإنجاز هذه المهمة.

ندرك أن لا مكان للإرهاب في العالم ولا بد من مواجهته بمختلف السبل والانتصار عليه قبل أن يكلف مجتمعاتنا قبل غيرها المزيد من الخسائر ويخلق لها المزيد من المحن والكوارث والموت والدمار. والإدراك الذي ينطلق من واقع العصر واتجاهات تطوره والقوى الفاعلة فيه وحده غير كافٍ لوحده للانتصار على الإرهاب بل يفترض العمل الجاد منا جميعاً وعَدّ ذلك مهمة من الدرجة الأولى، مع مكافحة كل الظواهر والعوامل التي تسمح للإرهاب بالظهور على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، بما فيها الفقر ومحاولات الهيمنة الدولية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وتسيير سياسات العولمة بما يخدم مصالحها فقط، وتفاقم الجور وانعدام العدالة وتراجع الديمقراطية في مناطق غير قليلة في منطقة الشرق الأوسط بحجة رفض من يريد أن يمليها عليها من الخارج.

إننا في الوقت الذي نواجه فيه الإرهاب ونسعى إلى استئصال جذوره من أرض العراق، يفترض بنا العمل- بالحمية نفسها-  العمل على تأكيد حقيقة أننا جميعاً لا نرضى باحتلال العراق ونريد الخلاص منه بأسرع وقت ممكن. من خلال القضاء على الإرهاب وبناء القوات المسلحة العراقية وتعبئة الشعب لمواجهة الإرهابيين والدفاع عن الحرية والديمقراطية والعراق الفيدرالي الديمقراطي وبقية الأهداف التي يسعى الشعب إلى تحقيقها.

ولكن تقع على عاتق القوى التي تناضل لإستئصال قوى الإرهاب لا تصفية جيوب الإرهاب والقوى التي تحمل السلاح وتقطع رقاب الناس وتخرب المشاريع الاقتصادية وتشعل النيران في أنابيب وآبار النفط الخام وتهدم البيوت على ساكنيها فحسب، بل تلك القوى التي تغلغلت في دوائر الدولة من جديد والتي تمد الإرهابيين القتلة بالمعلومات الضرورية لمهاجمة مواقع معينة أو الخلاص من هجمات محتملة ضدها أو الإدلاء بمعلومات لاغتيال شخصية عراقية وطنية او ما الى ذلك. إن على مجلس الوزراء أن يتنبّه لما يكتب عن هذه الأمور في الصحافة العراقية وفي مواقع الإنترنيت، فهناك معلومات كثيرة تشير إلى مواطن الضعف وإلى حصن طروادية تعمل في العراق وفي السفارات العراقية، إذ أن أجهزة وزارة الخارجية العراقية السابقة لا تزال تحتل مواقعها في أغلب السفارات العراقية، وليس في سوريا وحدها، على  وفق ما جاء في تصريح السيد رئيس الوزراء.  

أرى منذ الآن، وبرغم السيارات المفخخة وقاذفات الصواريخ والقنابل والـ (آر بي جي) سفن وأحزمة الانتحاريين الجبناء والموت الذي يتربص بالناس الأبرياء في زوايا كثيرة من بلادنا وعمليات قطع رؤوس النساء والأجانب وأبناء الوطن عبر جماعات من القتلة المجرمين، وبرغم حصن طروادة الكثيرة العاملة في أجهزة الدولة المختلفة وفي السفارات العراقية في الخارج، رغم كل ذلك أرى أن مستقبل العراق غير البعيد والقريب جداً مشرق حقاً، إذ سيتعافى العراق قريباً وسيمضي قدماً إلى أمام ويتخلص من كل تركة الماضي الثقيلة الجاثمة على أفئدة وعقول الناس برغم سقوط النظام الاستبدادي.    

لا أستند في هذا التقدير إلى رغباتي الذاتية، ولكني مقتنع بحقيقتين في  الأقل، وهما:

1. أن الإرهابيين والقوى المساندة لهم لن تكف عن العمل لتوسيع دائرة العنف الجارية في العراق ومدها قريباً جداً إلى بعض الدول العربية المجاورة لتستفيد من الفوضى فيها أيضاً لتحقيق مآربها الشريرة. وأن التحالف الذي تحدثت عنه في مقالات سابقة هو الذي يسعى إلى تأمين الاستمرارية لحركة الإرهاب في العراق حالياً. وأن الأخطاء التي ترتكب في العراق من قبل الإدارة الأمريكية أو الحكومة أو الأحزاب السياسية العراقية هي التي تسهم في منح هذا الإرهاب ديناميكية جديدة. وبرغم ذلك فهذه القوى غير قادرة على تحقيق النصر أبداً.

2. وفي مقابل هذا، سيبدو للجميع بوضوح أكبر الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها قوى الإرهاب الفاعلة حالياً في العراق. وبالتالي، ستنشأ موضوعياً إمكانية جدية لتحالف سياسي جديد على صعد ثلاثة، وهي:

أ‌. على صعيد الداخل: برغم التمزق البارز حالياً في كثرة اللوائح الانتخابية التي تبدو وكأنها حالة ديمقراطية، فإن فيها الكثير من العبثية أيضاً، فأن القوى الوطنية والديمقراطية في الداخل ستجبر على مواجهة قوى عدوانية داخلية تستهدفها جميعاً دون استثناء، بمن فيهم الذين يقفون اليوم إلى جانب بعض القوى الإرهابية بطرق مختلفة، إذ أن الإرهابيين لا يقبلون بالقليل بل يريدون التهام الجميع دون استثناء. وقدمت أفغانستان في زمن طالبان نموذجاً حياً لما يريدون.

ب‌. على الصعيد العربي والإقليمي: إن الدول المجاورة العربية وغير العربية ستجد نفسها بعد فترة وجيزة أمام حقيقة ساطعة هي أن قوى الإرهاب التي تساندها اليوم قد بنت أوكاراً كثيرة لها على أرضها، وأنها ستكون القاعدة الأساسية التي تنطلق منها لعملياتها ضد النظم التي حمتها وقدمت المساعدة لها ضد الوضع القائم في العراق. ولا شك في أن القوى الديمقراطية في الدول المجاورة ستدرك عاجلاً أم آجلاً أنها ترتكب أفدح الأخطاء بسكوتها أو حتى دعمها لما يجري من إرهاب في العراق تحت واجهة الجهاد، إذ أنها ستكون الضحية القادمة لهذا الجهاد الإرهابي.

ج‌. على الصعيد الدولي: إن انقسام العالم إلى مؤيد ومعارض للحرب في العراق، الذي لعب دوره في تفتيت نسبي للتحالف الأوروبي-الأمريكي،  سينتهي قريباً، لأن مصالح الغرب كله ستكون مهددة، لا في العراق ومنطقة الشرق الأوسط فحسب، بل على أرضها أيضاً، إذ أن امتدادات هذه القوى موجودة في أمريكا وأوروبا ولا يمكن إغماض العيون عن ذلك فترة طويلة. وهي لذلك بدأت تحسب للأمر ألف حساب. ومن هذا المنطلق من جهة، ومن منطلق احتمال واضح بتراجع الولايات المتحدة عن التهام المصالح الأوروبية في المنطقة كلها والتفكير باقتسامها بطريقة ما من جهة أخرى، فتح الدرب أمام إلغاء 80% من ديون العراق، وستلغى كلية لاحقاً، أي هناك إمكانية فعلية لنشوء تحالف دولي مناهض للإرهاب في العراق يمكن أن يقدم المزيد من الدعم للعراقيين. وستجد الأمم المتحدة نفسها أمام ضرورة البدء الجدي للعمل في العراق لا وفق استشارة السيد الأخضر الإبراهيمي، بل وفق الواقع الجاري في العراق وحاجات الشعب العراقي إلى الدعم والمساعدة وتعجيل الخلاص من وجود القوات الأجنبية من خلال تعزيز قواته الوطنية.

إن ما أشرت اليه في أعلاه لا يتحقق بصورة ميكانيكية، بل يستوجب الكثير من العمل الجاد والمكثف من جانب مجلس الوزراء والمجلس الوطني المؤقتين والسيد وزير الخارجية العراقية ووزيرا الداخلية والدفاع  وبجهود أكثر من السابق لإنضاج ما أشرت إليه، إذ أن ما ينضج موضوعياً لا يتحقق دون فعل العوامل الذاتية المحركة والمعجلة للواقع الموضوعي.

نحن أمام مرحلة معقدة وصعبة للغاية في العراق، ولكنها مرحلة مليئة بالتفاؤل والقدرة على تحقيق ما يصبو إليه الشعب العراقي خلال السنة القادمة والتي تليها. ويمكن أن نؤكد صواب قول الشاعر العربي:

وستنقضي الأيام والخير ضاحك

          يعم الورى والشر يبكي ويلطم

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة