جان جينيه في بغداد!

سامي عبد الحميد 2014/03/31 09:01:00 م

جان جينيه في بغداد!

حفّزني لكتابة هذه المقالة خبر نشرته جريدة المدى الغراء مفاده أن المخرجة العراقية (عواطف نعيم) تنوي إخراج مسرحية الكاتب الفرنسي (جان جينيه) المعنونة (الشرفة) وتقديمها في المركز الثقافي الفرنسي.
(جان جينيه) (1910-1986) كاتب مسرحي يرتبط اسمه وعمله بمسرح اللامعقول بعد ان قضى أيام طفولته المضطربة في ميتم وبعض أيام شبابه في الإصلاحيات عن جرائم طفيفة وجنسية، بدأ عمله الأدبي وهو في السجن حيث كتب روايات بلغة شعرية جاذبة للشواذ جنسياً ومركزاً على (ثيمات) الجريمة والشذوذ الجنسي والتهميش الاجتماعي، ثم اخذ يكتب المسرحيات بسلسلة من تبادل الأدوار والأفعال بين السادة والخدم حيث يتوطن العنصر الدرامي في التوتر بين الرؤى الذاتية وهشاشة بنائها، ومن صفات مسرحياته الدرامية: الطقس والتحوّل وتبادل الهوية، ويظهر ذلك واضحاً في مسرحيته (الخادمات) و(رقابة عليا)، كما انه يرفض الحبكة والعوامل النفسية للشخصية.
في مسرحيته (رقابة عليا) التي قمت بترجمتها عن الإنكليزية بعنوان (في انتظار الموت) وقدمتها في الجمعية البغدادية (وهي جمعية ثقافية أدارها عدد من أبرز المثقفين العراقيين وفي طليعتهم المعماري رفعة الجادرجي والناقد والكاتب جبرا إبراهيم جبرا)، عام 1967 مع الممثلين (روميو يوسف وعوني كرومي)، أقول في المسرحية :هناك توترات مستمرة ومعركة دائمة من أجل التسامي بين ثلاثة من السجناء في زنزانة واحدة والوصول إلى ذلك المجرم الآخر الأعلى مرتبة في الإجرام والنزيل في زنزانة أخرى، وأتذكر يومها ان المتفرجين من أعضاء الجمعية وضيوفهم تملكتهم الدهشة لأداء الممثلين أنا وزميليّ وللأجواء المتوترة التي حققناها، وللحق أقول :إنني عندما أخرجت المسرحية تلك لم أكن اعرف شيئاً عن مسرح اللامعقول وفلسفة العبث التي يتبناها حيث تمت معرفتي به بعد سنوات من قيامي بإخراج مسرحية بيكيت (في انتظار غودو) التي ترجمها الراحل (جبرا إبراهيم جبرا) وقدمتها في الجمعية نفسها وأدهشت هي الأخرى جميع من شاهدها، وقيل في وقتها إنني استطعت ان أوازن بين عاملي التراجيديا والكوميديا في تلك المسرحية العبثية التي اعتمدت على ثيمة (الخلاص)- خلاص الإنسان من مجتمع القهر والظلم والتعسف وصولاً إلى مجتمع العدل والمساواة والرفاهية للجميع.
مسرحية جينيه (الخادمتان) هي رديفة لمسرحية (رقابة عليا) حيث يدور التوتر الدرامي بين ثلاث شخصيات نسائية: سيدة وخادمتان عندها حيث تريد كل منهما الوصول إلى مرتبة سيدتها عبر طقس مسرحي لتبادل الأدوار بين السيد والتابع وحيث تعبر الخادمتان عن كراهيتهما للتسلط والقهر الذي تمارسه السيدة معهما والذي تمارسه الخادمتان مع بعضهما.
سبق وأُخرجت (الخادمتان) من قبل المخرجين العراقيين ،فقد اخرج (ناجي عبد الأمير) مسرحية أعدها (علي حسين) عن المسرحية الأصلية بعنوان (الحريم) أواخر التسعينات من القرن الماضي، وأخرجها (جواد الأسدي) بعد ذلك ومع ممثلات لبنانيات بداية القرن الحادي والعشرين وأخرجتها (عواطف نعيم) العام الماضي مع كل من (سمر محمد) و(إقبال نعيم) و(سوسن شكري) وقدمتها في المعهد الثقافي الفرنسي ونالت إعجاب الجمهور.
ولابد ان نذكر ان قسم الفنون المسرحية في عام 1983 قدم مسرحية جينيه المشهورة (السود-أو احتفال تهريجي للزنوج) بطولة (ميمون الخالدي) و(ثورة يوسف) . وتتعرض المسرحية إلى  استعمار الغرب لأفريقيا والتنديد بممارسات المستعمرين وتطلع الأفارقة إلى التحرر من ريقة الاستعمار، قدمت المسرحية في بناية المسرح الدائري الصغير في القسم المذكور وبشكل مبتكر مخالف لما اقترحه المؤلف نفسه في نصه ولكن مع الالتزام بالروح الطقسية التي اتسمت بها المسرحية، حيث تقوم فرقة من الممثلين الزنوج بعرض مقتل طقسي لامرأة بيضاء أمام لجنة قضاة-محكمين من الزنوج أيضاً ولكن يضعون على وجوههم أقنعة بيضاء وهي استعارة ذات دلالات معناها الظاهر.
عرف عن (جينيه) تعاطفه مع ثورة الجزائر ضد المستعمر الفرنسي وأوضح ذلك التعاطف في مسرحيته الموسومة (الستائر) وهي عمل مغامر ينقص فيه الصراع طويل الأمد بين الوطنيين الجزائريين والمحتلين الفرنسيين، واستخدم (جينيه) الستائر لتبيان كيفية إخفاء الحقيقة وضرورة كشفها وكيف يمكن إظهار الواقع منعكساً على ستائر- شاشات مجرد صور، وفي مسرحيته (الشرفة) التي أخرجها (بيتر بروك) عام 1956، يتعرض إلى فساد السلطة حيث يشخص أعمدتها (رجل الدين والقاضي والجنرال) وهم يتبادلون أدوار (السادة والخدم) في لعبة طقسية مثيرة يمارسونها في غرف متعددة في بيت للدعارة بينما تقوم ثورة جماهيرية في الخارج تستهدف إسقاط تلك السلطة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top