الأبناء يتسلحون والأُمهات خائفات والأطفال قلقون

آراء وأفكار 2014/07/23 09:01:00 م

الأبناء يتسلحون والأُمهات خائفات والأطفال قلقون

يوميات مهاجرة عادت إلى بغداد في الزمن الداعشي
 
1-2
 
منذ وصولي إلى بغداد، ليلة الأربعاء، وأنا محبوسة في البيت بسبب ذكرى وفاة الإمام موسي الكاظم. وفي تورنتو، حيث أُقيم منذ سنوات، أنحبس في بيتي عندما تهب العواصف الثلجية التي تلقّينا منها الكثير في الشتاء الماضي. 
خلالها، لا اسمع إلا صوت جرافات الثلج والموسيقي الكلاسيكة التي تنبعث من الراديو. أما هنا، في بغداد، فأصحو علي  صياح الديكة صباحاً، تليها أصوات المؤذنين الشيعة ثم المؤذنين السنة...
يتنافسون على الحث على الصلاة. وبعدها بساعات يبدأ الأطفال بلعب الكرة في الشارع.
سمعت دويّ انفجارين، اليوم، ولم يتحرك أقاربي الذين ّأُقيم عندهم . سألتهم عن الصوت فقالوا بلا مبالاة: "انفجار". وكأن شيئاً لم يكن.   

 

هذي صباحات بغداد
أتمشى في بيت عمي وأُغني في سري: "نارك ولا جنة هلي"، مع العلم أن أهلي مبعثرون "متطشرون" في أرجاء المعمورة وليس لي أهل في كندا ولا أعتبرها بلدي، لحد الآن. سأقضي إقامتي خلال وجودي في بغداد في بيت عمي. إنهم متدينون كثيراً بعكس عائلة والدتي. الكل يرتدي الحجاب هنا، بينما كان أهل أُمي غير متشددين، يحبون الأدب والشعر والموسيقى. 
تقضي زوجة عمي وابنتها نصف وقتيهما في الصلاة وتلاوة الآيات. وأقضي وقتي في القراءة والتأمل، 
مُلزمة بسماع "القرايات" من التلفزيون. لقد طوروا هذه الأناشيد الدينية بحيث صار بعضها على نسق ألحان الأغاني المعروفة. قد تكون أغاني وتغيرت كلماتها إلى أدعية وتراتيل ولطميات.  
أخذتني ابنة عمي، مساء، إلى شارع فلسطين. الطرق مغلقة والمشاة أمواج من البشر، يرتدون السواد حزناً علي موسي الكاظم. تتوقف الحياة في بغداد،. وعلى حافتي الطريق رجال يشوون الكباب ويوزعون الماء على السائرين "المشايّة". شاي وكعك وبطيخ وليمون حلو "نومي" و"كوجة".  
شربت عصير نومي البصرة وسألت الإمام الكاظم، بدون صوت، كيف يرضى بما آلت إليه أحوالنا؟
الناس تمشي وكأنها مسكونة بشيء لا أدري ما هو. أعود إلى بيت عمي والسؤال يخنقني. لديهم حديقة صغيرة، أخرج إليها وأبدأ بسقيها. يا الله، ليس هنالك ما هو أطيب من رائحة تراب بغداد. لم لا يستخلص العراقيون عطراً من تراب عاصمتهم ويوزعونه على المغتربين؟ سيسكر هؤلاء علي كأس عرق وأغنية "جي مالي والي" وعطر تراب بغداد وسيبكون على الذي راح.
أقطف  زهرة غاردينيا وزهرتي رازقي وأتطلع الي النخلة المليئة بالخلال الأخضر. سأنتظر في بغداد حتي يصير الخلال تمراً ناضجاً. أدخل إلى البيت وأُشارك ابنة عمي بلقمة قشدة، "قيمر" وعسل. أتذكركم.  
اخيراً أُفرج عني 
تركت البيت بعد أن رجع "المشاية" إلي قواعدهم سالمين وانفتحت الطرق بقدرة قادر. طلبت من صديقتي أن تأخذني إلى سوق قريب من بيتها بعد وجبة غداء دسمة. مشينا إلى سوق اسمه سهام العبيدي. تصورت أن صاحبة السوق امرأة ثم تبين أنه اسم رجل.
لسبب ما تذكرت سوق الشورجة
الشورجة وأيام زمان، عندما كنت طفلة، أتشبت بيد أُمي وسط الزحام لكي لا أضيع.
أتذكر مدخل السوق وبراميل البهارات وتوابل الهند. كلما شممت رايحة الكركم، أينما حطت قدماي في مدن العالم، أتذكر الشورجة.
تجرني والدتي من دكان لدكان وأنا أعطس من عبق الروائح. يقف بعض الباعة عن كراسيهم ويحيونها. أسمعم يقولون: " ست عائشة الشورجة نوّرت". كانت أُمي واحدة من أشهر مديرات المدارس الإبتدائية في الكرادة، قبل نصف قرن.
 أسأل صديقتي عن الشورجة وما حلّ بها. أطلب منها أن تأخذني إلى هناك فتشترط عليّ أن ألبس الحجاب إذا ذهبنا سويا ... وأُوافق رغم أنني لا أُحبه. 
ندخل سوق سهام العبيدي وقت الظهيرة. أتطلع وإذ بامرأة ذات وجه مألوف. أحدق في الوجه وأتعرف على هناء، صديقتي ألتي لم أرها منذ أكثر من ثلاثين سنة تقف أمامي. أيكون حلماً؟ اقتربت منها. ناديتها: "ولج هناء...". خافت وتراجعت خطوات إلى وراء. ألحق بها وأُردد ثانية: "هناء؟". خافت مني ولم تتعرف عليّ. أرفع نظارة الشمس عن عيني وأبتسم وأقول: "هنّاوي، ما عرفتيني؟.  
تعانقنا. تمسكت بها. خفت أن أفقدها كما فقدت الآخرين في بغداد. تمسكت بها لوعة وشوقاً لتلك الأيام. بكينا وبكينا ومسحنا دموعنا ثم عدنا وبكينا. صديقتي التي ترافقني وآخرون بكوا معنا وقلبناها "لطمية" شخصية بعد أن انفضت اللطميات في الشوارع.  تبادلنا  أرقام التلفونات وتواعدنا أن نلتقي في اليوم التالي. 
التقيت بهناء وزالت السنوات في لحظة وكأننا لم نفترق. أعدنا الروزنامة لثلاثة عقود ماضية وعشنا ساعات في الماضي. لم أكفّ عن الكلام ولم تكفّ. بكينا مجددا وضحكنا حتى غصصنا واتفقنا علي أن نلتقي في الأسابيع الآتية، إذا بقينا على قيد الحياة.
يذكرني وجودي في بغداد بأيامي الماضيات. هكذا أشعر كلما أعود إلى مدينتي. تزول سنوات الغربة بلحظه وأشعر بأنني وبغداد واحد. لكن بغداد شاخت وأنا كبرت. أرجع طفلة، أحياناً، شابة في أحيان أُخرى، أو أراني امرأة تركت المكان الأول منذ زمان ولا يزال قلبها عالقاً هناك. 
أتطلع بنهم إلى كل شيء. أخاف من حبي لهذه المدينة. قد أُختطف أو أُقتل.  حذرتني صديقتي في كندا من السفر وطلبت مني، وصديقات أُخريات، أن أُلغي رحلتي. قلت لهن: "ليس أحلى من الموت في بغداد". ليس أعذب من العيش فيها ولو لفترة قصيرة، علني اشعر بالامتنان لقضاء شيخوختي في كندا.
كلما غادرت البيت تتابعني عينا قريبتي بنظرة حزينة وتقول: "هل تعلمين بأننا نخرج من البيت، يومياً، حاملين شهادات وفاتنا بأيدينا، وإذا رجعنا سالمين، نعود فرحين حاملين شهادات ميلاد يوم اخر...؟.
يتعبني حبك يا بغداد وأحلم بأن تزول شدّتك يوماً، يا حبيبتي، ساعتها سأُدندن بكل الأغاني التي حفظتها، واحدة تلو الأُخرى، وسيملأ السلام قلبي.
أترك البيت الساعة الثامنة صباحاً. الزحام قاتل وسائق التاكسي الشاب يستمع الإذاعة. تزورني فيروز : "بعدك علي بالي...". بعدك علي بالي يا فيروز، عندما كنا نفتح أعيننا علي صوتك، صباحاً، يأتي من الإذاعة. كانت والدتي كانت تعشقها. أتساءل: "حب الموسيقى... هل يُورّث؟".  
لا أُصدق عينيّ من خبصة المرور. السيارات لا تتحرك. يبتسم سائق التاكسي ويقول ساخراً من دهشتي: "يمكن السيارة اللي بجانبنا مفخخة". أضحك غصباً عن خوفي: "ليش تريد تموتنه على الصبح يا معوّد... على الأقل نموت بالليل". 
بدأت أول مراجعة لدائرة حكومية. عليّ إنجاز معاملات تخصني. ومع المرور من الباب تبدأ حرب البسوس. أدخل غرفة تفتيش السيدات. تتطلع فيّ الأخت التي تفتشني كأنني هبطت للتو من المريخ. أُسلمها هاتفي النقال وأخرج من باب إلى باب. 
كالعادة، أحرص علي ارتداء ملابس محتشمة. لكن ملابسي تختلف عما يلبسون. أضحك في عبّي وأتخيل لو أن الحجيّة رأتني قبل أسابيع، أحتفل بزواج ولدي، علي ساحل "بونتا كانا" في الدومنيكان، بمايوه السباحة، لقطعتني إرباً.
عندما هاجرنا إلى كندا، في نهاية الثمانينات، كان الآخرون يتطلعون إلينا، كلما ركبنا باص النقل العام، دون أن نفهم السبب. الآن، بعد كل تلك السنوات، أُدرك بأنني، وأولادي، كنا نرتدي أكواماً من الملابس أكثر مما يرتديه الكنديون في فصل الشتاء. 
يطلقون علي لقب "دكتورة"، حيثما أذهب في بغداد. وأتساءل هل للدكتورات شكل يختلف عن الآخريات؟ أُسلّم مستنداتي إلى الشخص المسؤول ويبعثني على آخر. تحولت الى كرة سلة أتنطط  بين الغرف، ويحزّ في قلبي ما آلت اليه الدوائر والمصالح الحكومية. ثم، يجري تحويلي، بقدرة قادر، على واحدة من الموظفات الكريمات التي تتفحصني وتطلب مني أن أجلب لها عصير برتقال قبل أن تبدأ بالنظر في معاملتي.  تصورت أنها تمزح معي. لكنها تعيد التطلع فيّ وتقول: "بعدك واقفة؟". 
نزلت إلى الشارع واشتريت لها العصير ولفلفته بدعاء أن ينزل علي قلبها هنيئا مريئاً، لكي تكمل شغلتي. لكنها تطلب طلبت مني مستندات أُخرى. وبناء عليه، عليّ العودة في اليوم التالي. أنزل الدرج وأتأمل القذارة على الحيطان، السلالم المكسرة، وجوه الناس المتعبة. أترك الدائرة وأنا أُجفف دموعي بكمي. 
أذهب للغداء مع صديقة في حي الجادرية. عملنا سوية سنة ١٩٧٨. المطعم على دجلة وسور طويل يواجهني. أقول لها أن الجدار يُذكرني بسور الصين العظيم. تضحك وتقول إنه سور أميركا العظيم، وسفارتها تقع وراءه. أشعر أن الطعام سيصبح سماً، أن الأكل "زقنبوت". أكره الأميركان بسبب جرائمهم في العراق. ترد عليّ صديقتي: "إحنا اللي سويناها بنفسنا" وليسوا هم. 
تطلب لنا صديقتي السمك المكسوف. يا الله يا الله ما ألذه. ليس هناك في العالم ما هو ألذ منه وليس أجمل من منظر دجلة. كان بيتنا في محلة "أبو قلام"، حيث تربيت، قريباً من النهر. كان دجلة جزء من حياتنا اليومية. تذكرت طقوس الإحتفال بالنبي "خضر الياس". أخذتني والدتي  لنوقد شموعاً للخضر. جلسنا علي طرف دجلة وكان أخي مريضاً، ليلتها. جلسنا على جرف النهر ووضعت أُمي ست شمعات على خشبة، أوقدت الشموع وأسرجت الخشبة فوق صفحة النهر. 
النجوم في السماء وشموعنا وشموع الآخرين أصبحت واحداً. أمسكت بيد والدتي. سمعتها تتمتم بآيات قرآنية. أجهشت بالبكاء ووضعت رأسي علي كتفها. بقينا هناك لفترة، في حضرة دجلة، ونسينا الدنيا. 
تسألني صديقتي: "هاي وين سافرت... لكندا"؟ أبتسم ويخطر ببالي العودة إلى جرف النهر، في الليل. سأجلس عنده ساعات وأُشعل شموعاً لخضر الياس وأتذكر أُمي وكل الأمهات العراقيات اللواتي قاسين المر. أبكي علي الحال التي أمست عليها البلد واقرأ أدعية حفظتها في مدرسة الراهبات والصلاة التي تعلمتها من والدتي. أن يحمي الله العراق والعراقيين من أي مكروه إضافي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top