جماليات القبح

شاكر لعيبي 2014/10/17 09:01:00 م

جماليات القبح

إذا وُجدتْ قوانين للجمال حسب اليونانيين، ومن تابعهم منا، فلا توجد قوانين للقبح، رغم أننا نعتقد لوهلة الأولى أن قوانين الأول كفيلة ضمناً بإظهار الثاني. عام 2010 نشرت مجلة تايم الأميركية صورة صادمة للفتاة الأفغانية بيبي عايشة (18 عاماً) من تصوير جودي بايبر، أثارت الانتباه: بورتريه تقليديّ (ثلاثة أرباع) على كامل الغلاف، الفتاة بزيّ تقليديّ، غطاء رأس، ووجه جميل لا ينقصه سوى الأنف: لقد قطع رجال طالبان أنفها، وهو ما نراه، وقطعوا أذنيها أيضاً وهو ما لا نراه بسبب انسدال شعرها عليهما.
نشرتُ الصورة لإدانة السلفيين وقمعهم الدمويّ للمرأة. بالنسبة لعلماء الجماليات، فكانت الصورة، إضافة لذلك، موضوعاً للمساءلة عن الحدود بين الجمال والقبح في العالم المعاصر، طالما أن الصورة قد قادت إلى قلق جماليّ وصدمة عاطفية، في أطار نوع آخر من (الجمال) بعيد الصلة بالمقاسات التي تعوَّد المشاهد عليها.
ليست هذه الصورة منطلق المعنيين بالفنون الجميلة اليوم عند حديثهم عن (جماليات القبح). عام 1853 أصدر كارل روزنكراتنس بالألمانية كتابه - المترجم إلى الفرنسية في وقت متأخر عام 2004 - بعنوان (جماليات القبيح). كان روزنكراتنس مجدّداً ومؤثراً في تطوّر الانشغالات الجمالية في ألمانيا، إضافة إلى التزامه السياسيّ، ومتقدّماً على بعض الفرضيات الجمالية التي قدمها أدورنو لاحقاً.
بعد دراسات وفحص نقدي منهجيّ لما سيُصطلح عليه بـ (جماليات القبح)، تصدر الترجمات الفرنسية لأمبرتو أيكو: عام 2004 عمله "تاريخ الجمال"، وعام 2007 كتابه "تاريخ القبح". عام 2007 أيضاً يُصدر الفيلسوف الفرنسيّ غويناييل أوبري كتابه العصيّ عنوانه على الترجمة "مذاق القبح" الذي يلعب عامداً على الكلمتين الفرنسيتين (اشمئزاز Dégoût) و(نكهة، طعم goût). في العام نفسه أجرت المجلة الفرنسية (لانوفيل أوبزرفاتور) مقابلة تحت عنوان ّالقبح المُركَّز" مع أيكو وأوبري كليهما بهذه المناسبة، كان محورها كيفية القيام بحكم جماليّ، كيف نقرّر أن وجهاً أو عملاً فنياً جميل أم قبيح، أليس القبح نقيضاً للجمال؟. أنْ يطرح أفلاطون مسألة (القبح الساخر)، ألم يكن ينطوي على وجود جمال مخفيّ خلف المظاهر، في الكلام أو في الذهن؟.
يرى أوبري أن التعارُض قبيح – جميل، في التقاليد الميتافيزيقية، قد اندرج مع أزواج أخرى من الثنائيات: المادة – الشكلّ، الخير – الشرّ، الكوميدي – التراجيدي، الموت – الحياة... الخ. لكنه يعتقد أن الأمر أكثر تعقيداً في قضية القبح والجمال، لأن القبح يمكن أن ينطوي على جانب من حيوية الحياة، وأن يكون نوعاً مختلفاً من الجمال، وأن يصير دافعاً لتجديد للأشكال. ويظن أن الفيلسوف أدورنو من فلاسفة نادرين نجحوا في التفكير بالقبح وحده دون مقاربات ثنائية من النمط الموصوف.
أما أمبرتو إيكو الذي جمع نصوصاً وصوراً عن القبح في الفن التشكيليّ، بعدما فعل الشيء نفسه بالنسبة للجمال، فهو يعتقد بأنه قد فهم الفرق الحقيقيّ بين المفهومين، مقترحاً أن النظرية الأولى للجمال هي قانون النحات اليوناني بوليكليتوس (عاش في القرنين الخامس والرابع ق.م.) الذي تتسم أعماله بالتوازن والدقة، وتتحدّد بالمقاسات والنسب الصارمة. إن رجلاً من الرجال يمكن أن يكون جميلاً إذا كان مقاس قدمه ثلاثين سم، وتكون لذراعيه قياسات متوازية محدّدة.. الخ. لذا يرى أيكو أن الجمال يقع في إطار حدود مرسومة، في حين أن تخوم القبح لا متناهية، وبالتالي فهو أكثر تعقيداً وتنوّعاً وتسلية. يرى أيكو أيضاً أن القبح في اللوحة التقليدية، غالباً ما يتم إخفاؤه في التفاصيل، ويتوجب الذهاب للبحث عنه فيها، ويذكر أن جميع الفلاسفة تحدّثوا عن الجمال، لكن هناك عدداً قليلاً جداً من النصوص التي تعالج القبح.
هل صحيح أن تخوم القبح لا متناهية، وبالتالي فهو أكثر تعقيداً وتنوّعاً وتسلية؟. هذه إشكالية جديدة في ثقافتنا العربية المعاصرة، وفي فنوننا التشكيلية التي ما زالت تتمسّك بمفهوم شبه رومانتيكيّ (للحلو) و(الجميل)، وفي أحسن الأحوال تفتقد إلى مفهوم صلب (للجميل) نفسه، ناهيك عن (القبيح) الذي تختلط فيه علوم الأخلاق بعلوم الجمال.

تعليقات الزوار

  • هيام صباح

    شكرا استاذ على مقالة الجميلة

  • وليد الكوماني

    شكرا جزيلا لمجهودك أستاذ علي المقالة مميزة وجميلة.. كنت أتنى لو كتبت عن بعض صفات الجميل وفي المقابل أيضا صفات القبيح كما هي عند أمبرتو أيكو لإثراء المقال وللخروج بفائدة أكثر

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top