استقبلني الترميذا "نظام كريدي" بفتح ذراعيه بعد أن اقتحمت مراسيمه على نهر دجلة في العمارة، تبادلنا "بوسة هوائية" وعناقا رمزيا بما أن رجل الدين لا يمكنه مس أي كائن أثناء أداء المراسيم. وقبل أكثـر من تسعين عاما استقبل أجداده "الليدي دراوور" بنفس هذه ا
استقبلني الترميذا "نظام كريدي" بفتح ذراعيه بعد أن اقتحمت مراسيمه على نهر دجلة في العمارة، تبادلنا "بوسة هوائية" وعناقا رمزيا بما أن رجل الدين لا يمكنه مس أي كائن أثناء أداء المراسيم.
وقبل أكثـر من تسعين عاما استقبل أجداده "الليدي دراوور" بنفس هذه الروحية الرائعة، جلست دراوور في حضرة ثقافة ألفية تتأمل في معجزة روحية متواصلة لأكثـر من عشرين قرنا. لكن ما بال مواطنهم المسلم "عبد الرزاق الحسني" الذي كان يعيش بين ظهرانيهم لكنه لم يبذل جهدا في اكتشافهم كما فعلت تلك الباحثة المسيحية الكولونيالية!
كان كلاهما (الحسني ودراوور) يعيشان في العراق لكنهما اختلفا في الكتابة عن ثقافة أهله ومعتقداته القديمة، وكان بإمكانهما ارتشاف الشاي والتعرف على وجهات نظر بعضهما، وتبادل التأويلات عن "الإحفوريات الحية" التي تعيش منذ قرون في بطائح جنوب العراق.
الآن نذكر "الحسني" و"دراوور" بوصفهما مسؤولين عن جانب من جوانب الاهتمام بالمندائية، ففي حين نذكر شيخ المؤرخين العراقي بوصفه مسؤولا عن بث أساطير عن مواطنيه المندائيين أدت به إلى خوض صراع قضائي معهم، نتذكر الروائية والباحثة الإنكليزية الليدي دراوور بوصفها المسؤولة عن انبعاث الاهتمام بالدراسات المندائية في بريطانيا.
جالت دراوور بلدان الشرق الأوسط بعد أن لاقت روايتها الأولى عن تونس "النقاب" النجاح الذي مكنها من توفير دخل مالي يساعدها في متابعة أسفارها. وقد زارت حيفا والقدس والتقت بعبد البهاء الرئيس الروحي والديني للبهائيين وألفت روايتها الثانية "جبل الله" التي يعتز بها البهائيون. وحين زارت السودان ألفت روايتها الثالثة.
روايتها الرابعة لم تنته، إذ دخلت في عالم عراقي استولى على روحها، فخرجت منه بدراسات ذات طابع أنثروبولوجي وقاموس لغوي عن لغة على شفا الانقراض، وهوس بثقافة وجماعة رافقتها إلى نهاية حياتها.
والفضل في اكتشافها المثير يعود أيضا إلى زوجها "أدوين أدوارد" الذي كان يتقن العربية ولديه خلفية ممتازة في معرفه القوانين التركية، وحين وضع العراق تحت الانتداب البريطاني، تم تعيينه مستشاراً للدولة العراقية 1920 فالتحقت به.
قضت الأعوام التالية في اكتشاف المجتمع العراقي مركزة على المندائيين، ومع أنها اضطرت إلى مغادرة العراق على خلفية أحداث حركة مايس 1941 إلا أنها عادت إلى البلاد في العام 1952 لغرض تصوير فيلم عن المندائيين .
قضت "الليدي دراوور" أربعين عاما في دراسة المندائيين، وتعلمت لغتهم ونشرت العديد من الدراسات عنهم، أما أهم ما ترجم من مؤلفاتها إلى العربية فهو : كتابها (في ضفاف دجلة والفرات) الذي يمثل دراسة عن التنوع الموجود في العراق، ويتضمن فصلا مخصصا عن المندائيين ، إلا ان اهم مؤلفاتها الرئيسة هو كتاب (الصابئة المندائيون في العراق وإيران).
لكن عمل دراوور برغم أهميته لم يسهم في تغيير الصورة الشائعة عن المندائيين، فبسبب كون المندائية غير تبشيرية، وصعوبة التعامل مع طبقة رجال الدين من المندائيين وتأكيدهم على سرية الدين وطابعه غير التبشيري، ظلت الاتهامات معلقة حتى تصدى الباحثون المندائيون مثل غضبان الرومي وناجية المراني في الستينيات والسبعينيات وعزيز سباهي في التسعينيات لتوضيح الغموض الذي يلف هذه الديانة الألفية عن طريق ترجمة المؤلفات الغربية إلى العربية أو القيام بالتأليف بأنفسهم ونشر بحوثهم في دوريات ، مثل التراث الشعبي أو في شكل دراسات مستقلة، لا سيما بعد ان ألحق مواطنهم "عبد الرزاق الحسني" إساءة إلى سمعة الطائفة من خلال كتابه عن المندائيين.
ولكن كل هذا الحراك الثقافي لم يعد كافيا بعدما اسهم تصدع الدولة في العراق بسبب الحروب الدولية والحصار الاقتصادي الذي استمر لمدة 13عاما، والاحتلال الأميركي وما تبعه من انهيار أمني، في نمو التشدد الديني والطائفي على نحو جعل من الاتهامات ضد المندائيين مسوغات للاعتداء عليهم وإباحة أموالهم وممتلكاتهم.
وفي محاولة للتصدي لجميع هذه الاتهامات ومواجهة التشدد الديني الذي بدأ بغزو المجتمع العراقي في التسعينيات، اتخذ المندائيون قرارا بترجمة كتابهم المقدس "كنزا ربا" إلى العربية، بعد ان لم تنفع الدراسات المكتوبة في تصحيح صورتهم وما لحق بسمعتهم من تشويه بسبب هذه الاتهامات.
مرّ أكثر من أربعة عشر عاما على ترجمة الكتاب المقدس إلى العربية وما تزال الصور النمطية والتشويهات تساق ضد المندائيين، ويتعرضون للاضطهاد والخطف الذي تحول إلى تجارة رائجة ضد جماعة غير خاضعة لبنية النظام العشائري المهيمن، ولا تحميها ميليشيات، ولا تغري السياسيين بالتملق لها بفعل وزنها العددي قليل الأهمية في المواسم الانتخابية.
وها نحن بعد مرور ستة عقود على صدور كتاب الحسني ندرك أننا لم نفعل شيئا لحماية ممثلي هذه الثقافة الألفية وتركناهم عرضة لسوء الفهم والتمييز الاجتماعي، وانطلاقا من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية كنت قد كتبت عن عمليات خطف المندائيين وقتلهم في بغداد وبعض محافظات الجنوب، لكني وجدت ان الكتابة ليست كافية فتوجهت لزيارة الناصرية ومن ثم العمارة للاستماع إلى الشباب المندائيين الذين يفكرون بسبب تكرار هذه الحالات إلى التفكير بخيار هجرة اللاعودة.
ترافق وصولي إلى العمارة مع اكتشاف جثة شاب مندائي مختطف منذ اشهر، بعد ان اختطف وقتل شاب قبل اكثر من أسبوع في بغداد. وقد خيم هذا الخبر المؤسف على رحلتي مثيرا العديد من الأسئلة المحرجة التي طرحها المندائيون والعبرة تخنقهم :
*كيف يمكن ضمان العدالة وسط إفلات من العقاب وهل الحل البديل في التوسل بسلطة العشيرة والدين السائد والطائفة المهيمنة التي تلتهم خصوصية المندائي وتجعله رقما زائدا في لعبة تفاوض معقدة؟
*هل من أمل في طلب العدالة اذا كان النظام القضائي بحد ذاته ينطوي على قضاة ينظرون إلى المندائي بوصفه من درجة أدنى لأنه غير مسلم؟
لا يمكن مواجهة جميع هذه التصرفات التمييزية وعمليات استهداف المندائيين دون تفكيك الثقافة التي تقف خلفها وتشرح سياقها، فهي ليست مجرد عمليات ذات طابع إجرامي بهدف الربح من تجارة سهلة، بل ان طريقة تنفيذها وتكرارها وإهمال ملاحقة الجناة تسهله وتشجع عليه ثقافة سائدة تقوم على جملة من الصور الشوهاء والأساطير والتلفيقات التي تساق ضد المندائيين.
ومن دون تصحيح هذه الصور النمطية والنضال من اجل نظام يضمن حرية الدين والمعتقد لهم ولغيرهم من الأديان التي تصنف خارج دائرة الأديان الإبراهيمية سنكون شركاء في تبرير وتسهيل وتخفيف حدة ما يحدث للمندائيين، وسواء أنكرنا ذلك أو قللنا من أهميته، فإن القوالب الفكرية التي حجرنا فيه المندائي هي نوع من الإبادة الصامتة للمندائيين.
ومن أشهر هذه الصور النمطية والاتهامات هي عبادتهم للنجوم والكواكب، ومن ثم نفي التوحيد عن معتقداتهم وعدهم ديانة وثنية، وإشاعة أفكار غريبة عن طقوسهم ، مثل خنقهم الحيوانات بدلا من ذبحها كما يفعل المسلمون أو اليهود والمسيحيون، بل يصل الأمر إلى خنقهم المحتضر للتعجيل في موته!
ومن الغريب اتهامهم بخنق الحيوانات مع ما يعرف عن المندائيين من تشبث بالطقوس ووجوب ممارستها بدقة ،ومنها طقوس ذبح الحيوانات التي تتضمن غسل الحيوان أو الطير والتأكد من سلامته قبل ذبحه مع قراءة عبارات دينية أثناء الذبح، بحيث يصبح الذبح على الطريقة الإسلامية بالمقارنة مع شروط الذبح المندائية مجرد تمرين هواة!
أما اتهام المندائيين بخنق الميت، فقد يكون مرده عدم الاطلاع على طقوس الوفاة عند المندائيين التي تتضمن تكفين الميت قبل وفاته بلحظات، على أن يكون جسمه طاهرا ، لذلك يجب ان "يطمش" أي ان يغسل جسده قبل وفاته لكي تخرج روحه طاهرة، وذلك قبل وفاته وإجراء مراسيم الدفن.
أما النظرة التمييزية التي تترتب على ما سبق من أساطير وتخضعهم لحصار اجتماعي تجعل الآخرين لا يصافحونهم ولا يشاركونهم الطعام بوصفهم "أنجاس" فهي مفارقة تثير السخرية، لا سيما ان المندائية ديانة تقوم على النظافة وتقديس "الماء الجاري".
تعد تهمة عبادة الكواكب أو النجم القطبي أخطر التهم الموجهة اليهم، ويقوم هذا الاتهام على سوء فهم تاريخي بسبب خلطهم مع عبادات جماعات أخرى، إضافة إلى عدم فهم طبيعة معتقداتهم بحد ذاتها، فالمندائيون لا يتجهون في صلاتهم نحو النجم القطبي لغرض عبادته أو بوصفه قبلة لهم، بل يتجهون إليه في الصلاة وأثناء ممارسة الشعائر الدينية الأخرى نحو جهة الشمال، لكونهم يعتقدون بأن عالم الأنوار (الجنة) في هذا المكان المقدس من الكون الذي تعرج إليه النفوس في النهاية لتنعم بالخلود إلى جوار ربها،ويستدل على اتجاه الشمال بالنجم القطبي جغرافيا.
و تقف وراء مثل هذه التصورات المغلوطة أسباب يرجع قسم منها إلى التاريخ الوسيط ونقل روايات من قبل خصومهم الدينيين وتبنيها لاحقا دون مراجعة أو تمحيص، ولأسباب تتعلق بطبيعة الجماعة ذاتها التي تتصف بالسرية والانغلاق على الذات، فضلا عن أخطاء وتشويهات نجم عنها الخلط بينهم وبين جماعات أخرى انتحلت اسمهم زورا (صابئة حران).
فقد حاولت جماعات دينية غير داخلة في نظام الاعتراف الإسلامي الرسمي بالأديان الكتابية ان تنتحل اسم الصابئة لحماية معتقداتها الدينية والتخلص من عقوبة الموت أو الدخول في دين الأغلبية، لذا ادعت هذه الجماعات أنها من "الصابئة" في قصة شهيرة ذكرها ابن النديم في "الفهرست" حماية للذات والعقيدة في نوع من "التقية" التي تكررت طوال التاريخ الإسلامي لدى جماعات دينية عديدة.
وقد عزز من الاتهامات التي تساق ضد المندائيين أسباب لها علاقة ببنية الجماعة الداخلية وحجمها الديموغرافي، فقلة عددهم دفعت بهم إلى الانغلاق على الخارج بهدف حماية الذات، مما قد يشجع على انتشار أساطير وخرافات عن عقائدها، ويسهل مهاجمتها ونشر الأباطيل حولها، خاصة وان هذا الانغلاق قد ترافق مع انحدار مكانة الجماعة الاجتماعية والسياسية، في فترة الغزو المغولي، والفتح العثماني من بعد، وتعرضهم إلى الاضطهاد في العهود المختلفة، انكمشوا على انفسهم في القرى المنتشرة عند البطائح الممتدة من نهر الفرات حتى نهر كارون جنوب غربي إيران.
وهناك سبب داخلي آخر له علاقة بطبيعة المندائيين المسالمة التي تركتهم ردحا طويلا من الزمن خارج المجادلات، فالجماعة منعزلة بيئيا في مناطق بعيدة عن المدن، ومنغلقة لا تسمح باعتناق معتقداتها من قبل الآخرين ولا تسمح بالزواج منها، الأمر الذي يجعلها جماعة دينية وعرقية أيضا.
كما ان رجال الدين المندائيين لا يحبون خوض مثل هذه الجدالات لعقائدهم التي يعتقدون بسموها وروحانياتها العالية، والجدل بين رجال الدين من أديان مختلفة لا يؤدي إلى نتيجة في معظم الحالات.
وكان هذا الابتعاد عن الجدال مع الآخرين الذي قد يثير المشاكل ويثير البغضاء ويدخلهم في مجال المنافسة الدينية مع ديانة الأغلبية أو مع ديانات أخرى سببا في تبلور الأساطير والخرافات عنهم، واتخذ بعدا سلبيا حتى في حال ورود اتهام إلا ما ندر، من أمثلة حول سلوك دفاعي اقتضته الضرورة أو الصدفة، ومن الاستثناءات التصدي إلى ما ذكره الحسني في كتابه عن المندائيين من اتهامات بعبادة النجوم والكواكب، وعدا ذلك لن نجد أمثلة على خوض المندائيين مثل هذه الجدالات التي تورث الخصومة حول حقيقة ديانتهم، وتفضيلهم عدم الرد على ما يساق ضدهم من أساطير وأكاذيب وتلفيقات.
وقد لا يكون من المبالغة إذا تصورنا في الغد القريب زيارة أحفادنا قسما خاصا للمندائيين في متحف الذاكرة العراقي حيث سيتحولون إلى مجرد صور على الجدران، وربما سيكتب عنوان مقالي السابق في جريدة المدى كشرح مناسب لصور المندائيين على الجدران : نهاية المعجزة المندائية : الإبادة الثقافية لجماعة ألفية.