غرف مظلمة لأهم خبرائنا

سرمد الطائي 2012/10/21 07:53:00 م

غرف مظلمة لأهم خبرائنا

ما الذي ورط السيد نوري المالكي بشراء أسلحة كثيرة وجعلنا نتذكر كلما بدأنا الكتابة عن موضوع عراقي، ان الحكومة تتحمس لإنفاق المال على السلاح بينما يدرس طلاب الاختصاصات النادرة في غرف تشبه غرف دائرة كاتب العدل في شارع المغرب. كئيبة ومظلمة ومخنوقة وخائفة؟
اكتب هذا المقال على متن طائرة تعبر بنا الأطلسي نحو واشنطن، اذ كنت محظوظا هذه السنة لأتواجد بين بضعة آلاف من الصحفيين الذين سيشهدون اهم انتخابات في نصفي الكرة الارضية. مرت خمس ساعات على الرحلة ولا يزال امامنا سبع اخرى ولا رخصة للتدخين. وبدل ان أفكر في امريكا التي ازورها اول مرة، لايزال عقلي محتجزا في آخر مناسبة حضرتها في العراق.
آخر شيء فعلته هو التواجد داخل واحدة من اهم كليات بلادنا. زوجتي ناقشت اطروحتها عن علم الخلية وحظيت بأفضل الاساتذة. واذ احسدها على كل تلك الروح المثابرة التي جعلتها تواصل التفكير في مفاهيم الطب خلال اخر ١٤ سنة من حياتها، فإنني لا احسدها ولا امثالها ممن يفنون اعمارهم في البحث العلمي، على الاماكن التي يتواجدون فيها. شيء لا يليق بمثابرتهم بالتأكيد.
المؤسسة الجامعية في العراق مزينة بحدائق وبعض الاشجار الحلوة من الخارج، غير انها تناقش اطاريحها احيانا في غرف مخنوقة، فقيرة الاثاث، قليلة الاضاءة. مولد كهرباء الكلية بلا وقود منذ يومين. هذا عاطل وذاك غير متاح. الاستاذ الوقور والطيب الذي جال اهم جامعات العالم، يفتتح المناقشة بالقول ان هناك نظاما امريكيا لتشخيص الاورام الخبيثة بشكل مبكر، جرى تطبيقه حتى في الاردن عام ٢٠٠٢، ولا يزال العراق بعيدا عن تطبيقه في ٢٠١٢. من يصوغ خياراتنا المتلكئة بينما جميع الخبراء يرددون شكواهم من كيفية سير الامور؟
لازلت افكر بإمكانية ان نشتري مقابل كل دبابة او مدفع سفينة تجارية تحيي نشاطنا البحري كما قلت قبل ايام، وان في وسعنا ان نضيء ونرمم قاعة مناقشة الاطاريح العلمية الحساسة او قاعات الدرس في الجامعات، مقابل كل صفقة عتاد نصرف لها فورا وبدون تلكؤ. نشتري البارود بالعاجل ولا نطور بنيتنا التحتية الا بالآجل!
المناسبة اتاحت لي لقاء العديد من اهم خبراء الحقول الطبية في العراق. احدى الاخصائيات تقول ان بغداد اشترت في الاونة الاخيرة اجهزة طبية حديثة، وكلما جاء الطبيب لاستخدامها وجدها في غرفة محكمة الاقفال. انهم يخشون ان تتعرض للتعطيل او السرقة. طبيب القلب فوجئ مؤخرا بأن سائق الاسعاف لا يحمل في السيارة جهاز الصعقة الكهربائية لانه "ذمة" ويخشى ان يسرق. ففي آخر مرة فقده اثناء نقل جرحى انفجار، عاقبوه وخصموا ثمن الجهاز من مرتبه!الاهمال والسرقة تحرمان العراقيين حتى من الاجهزة الطبية الضرورية، مرة يأكلها الفساد او يعطلها، ومرة نضطر لحمايتها بإخفائها وحرمان المرضى منها.
ليس كل العراقيين لصوصا طبعا، لكن ٣٠ مليون عراقي لم يعثروا على طريقة بعد لمحاصرة اهم ١٠٠٠ لص في البلاد يعرقلون كل شيء. كيف اصبح العراقيون اسرى لبضع مئات من اللصوص؟ هل التشوه الاخلاقي سائد بين الجمهور وتنتقل عدواه الى الساسة. ام ان "الناس على دين ملوكها"؟ لماذا ظل المتنفذون الحاكمون في الغالب، يشبهون أسوأ المواطنين الخاضعين لحكومة عاجزة عن حماية جهاز صعقة كهربائية في سيارة اسعاف؟
في الجامعة تجد اختصاصات نادرة مهددة بالاجتثاث. وفي مكتب القائد العام تجد ضباطا كثيرين جرى تحصينهم من قرارات الاجتثاث. الدولة تنحاز لحامل السيف على الخبير الجامعي، في شراء متطلباته ومعداته بالمليارات، وفي تحصينه من الاجتثاث. دائما يصنع حامل السيف المشاكل ويدفع ثمنها المدنيون الى الابد.
الأساتذة في الاختصاصات النادرة يقولون ان لا احد يستشيرهم في تنظيم وضع الجامعة. وهو امر طبيعي وظاهرة عراقية بامتياز. قوانين الخدمة والتقاعد لا يستشار الطاقم التعليمي الاعلى في صياغتها وابرامها. فقوانين المال ايضا لا يضعها خبراء مال، وقد نجح اشخاص غير خبراء بعالم الاقتصاد، في ابعاد خبير دولي مثل سنان الشبيبي. وهكذا هو حال قرارات السياسة الخارجية اذ لا يحسمها لدينا خبراء العلاقات الدولية، بل طواقم حزبية ضيقة تستسهل اعلان العداوة على اهم مراكز القوى في العالم. هل القاعدة وقطر مسؤولون عن وضع ملفاتنا المعقدة بيد غير الخبراء؟ هل القاعدة وقطر مسؤولون ايضا عن حماية حامل السيف والعبث بمقدرات حامل المعرفة او من تبقى من حاملي الاختصاص في هذه البلاد؟
لازلت أتخيل كيف كنت انظر بكثير من الاسف والحزن الى افضل خبرائنا واساتذتنا وهم يناقشون اكثر المسائل العلمية تعقيدا، في غرفة كئيبة مظلمة وبلا اثاث مناسب. واتخيل الكثير من ساسة الصدفة وحملة السيف وهم يغرفون من خيرات البلد ويحتجزون ما تبقى من العراقيين المهرة في عالم الطرد والاستبعاد والنسيان. ان ما اسسه الدكتاتور صدام حسين من تقاليد انحطاط، يعيش اليوم فترة ازدهار رهيبة.

تعليقات الزوار

  • ميثاق

    مبروك اخي سرمد , ارجوا ان توفق في تغطية العرس الديمراطي الحقيقي , اخبرنا عن الاسمر الوسيم ومعجبيه وعن الاشقر المتحمس وجمهوره وهل الشعب الامريكي المتعدد الاعراق والاطياف يأخذ ديمقراطيتنا الفتيةويحاول ان يطبقها عسا ان تنفعة في انقاذه من الازمات المتلاحقة من

  • اكرم حبيب

    الم تكن عشر سنوات كافية لاحداث التغيير في عقول الساسة لكبح جماع شهوة الانتقام من الشعب ما استفزني في مقالتكم (السيد الطائي والبقية) مازلتم تتهمون الدكتاتور في كل شاردة وواردة الايكفي ان نقول انهم اشباه رجال يتلونون مع التيار السائد كلنا نعرف اننا نعيش ازه

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top