(2 - 2)
• عمارة الخمسينيات .. "العقد البطولي" عمارة الحداثة في مرحلتها الثانية والأخيرة * يحتفي المؤلف في هذا الفصل بالمنجز المعماري المتحقق ، وذلك الذي ظل طَي أوراق التصميم ، يداعب خيال البغداديين في بناء مدينة عصرية ناهضة ، و
(2 - 2)
• عمارة الخمسينيات .. "العقد البطولي" عمارة الحداثة في مرحلتها الثانية والأخيرة
* يحتفي المؤلف في هذا الفصل بالمنجز المعماري المتحقق ، وذلك الذي ظل طَي أوراق التصميم ، يداعب خيال البغداديين في بناء مدينة عصرية ناهضة ، ويرى الدكتور السلطاني ان مرحلة الخمسينيات رسمت حدودا حادة تكاد تشكل قطيعة واضحة مع عمارة ما قبلها ، " ليس فقط في استخدام تكوينات عمارة الحداثة في معالجة المباني التي نفذت ، وإنما في التغيير الشامل والواسع لطبيعة هذه المباني ومقياسها المعماري وتوظيف مختلف الأساليب والمواد الانشائية الحديثة بشكل واسع ، علاوة على ادخال منظومات الخدمات الهندسية المعقدة في صميم نسيج المبنى للمرة الأولى" .
* ويعزو المؤلف النجاحات التي حدثت في مجال المغامرات التصميمة الى تلك الموجة العالمية التي اجتاحت عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية في الذهاب بالتصاميم الحداثية الى تخوم لم تكن معروفة قبل هذا التاريخ .
* في متابعة عميقة لمنجزات المعماريين الشباب الذين عادوا للتو من جامعات عالمية ليباشروا دورهم في بناء مدينتهم ، يتوقف المؤلف عند نجاحات هذه النخبة حيث جعفر علاوي ومدحت علي مظلوم وإحسان عبدالله كامل ومحمد مكية ونزار جودت الأيوبي والين جودت الأيوبي ورفعت الجادرجي وقحطان عوني وقحطان المدفعي وسواهم ليقدم تلك القراءات النقدية المميزة في ما تركوه من شواخص عمرانية توزعت في أنحاء المدينة ، لعل ابرزها تلك الظاهرة الجديدة في تاريخ المدينة ، التي تجلت بظهور المباني متعددة الطوابق ، من مثل عمارة سوفير لمدحت مظلوم ، وعمارة الدامرجي لنيازي فتو ، وعمارة الدفتردار التي أسهم في توجيه تصميمها عبدالله حسان كامل ، ومصرف الرافدين لفيليب هيرست وسواها .
• مشغل الهلال الأحمر في العلوية
شخصيا ليس لديَّ أسباب وجيهة تبرر ذلك الإعجاب الشديد الذي يكنه الدكتور خالد السلطاني لواحدة من اكثر البنايات مجهولية لغير المتخصصين في تاريخ العمارة ، وأقصد هنا بناية مشغل الهلال الأحمر في منطقة العلوية ، التي قامت بتصميمها الين جودت الأيوبي وزوجها نزار الأيوبي ، حيث أفرد لها المؤلف صفحات من القراءة التفصيلية ، عاداً إياها " الحدث التخطيطي الأبرز في مكونات تخطيط بغداد آنذاك " و"صدمة مفاجئة للمشهد الثقافي بشكل عام والمعماري بوجه خاص " و " العمارة التي ستؤسس لاتجاه جديد يشي بنقطة انطلاق مغايرة في مسار العمارة العراقية الحداثية ، وهي بصفتها الاستثنائية هذه تكون قد لبت على وجه اكمل نداءات ارهاصات التغيير " ويخلص الكاتب بعد كل هذه الإطراءات التي تزدحم بلغة الإعجاب الكبيرة ، ليشيرنا ببساطة الى ان المرجعية النظرية لهذه البناية تعود في جوهرها الى أطروحة لوكوربوزيه في عمارة الحداثة ، والتأويل الشخصي الذي اعتمده المصممان في تأوُّل هذه الأطروحة ، التي تتلخص بعناصرها المعروفة وهي ؛ المبنى المرفوع على أعمدة ، الواجهة الحرة ، النوافذ الشريطية ، وأخيرا السطح المستوي .
في الواقع انا لم أتأمل بشكل شخصي هذه البناية ، التي استحوذت على كبير إعجاب استاذنا الدكتور خالد ، ولم انتبه يوما لقيمتها التصميمية برغم مروري المتكرر قريبا منها وربما زيارتها اكثر من مرة ، لكني لم أجد حتى بعد الاستغراق في التفاصيل التي أوردها الدكتور ، ما يثير اعجابي بها ، وباعتقادي ان وصفة لوكوربوزيه الحداثية ، ليست كافية لتصميم عمارة الصدمة ، حتى لذائقة خمسينيات القرن المنصرم ، ولم اجد فيها رونشان العمارة العراقية كما ذهب المؤلف في محل آخر ، كما أنني لا أعدها تمثيلا لمرحلة مفصلية ، والا لكان تاريخ العمارة يقسم زمنيا ، ما قبل هذه البناية وما بعدها . ولعلي اتفق معه في تقييمه لثانوية الحريري التي عدها مفصلية في تاريخ تصميم المدارس العراقية ، وذلك امر يمكن القبول به ، لما لهذه المدرسة من مميزات حداثية واضحة ، استمرت تعمل في الذائقة البغدادية حتى يومنا هذا ، وليعذرني الدكتور عدم اقتناعي بفائقية بناية مشغل الهلال الأحمر ، لأنني اولا وأخيرا متلقي للغة المعمارية وليس اكثر.
• عمالقة العمارة العالمية في بغداد
بعد قراءات متنوعة في اهم الشواخص المعمارية التي نفذها معماريو العراق ، يتوقف المؤلف عند تلك الظاهرة الفريدة ، واللغز الغامض الذي استدعى حضور أهم أساطين العمارة العالمية الى مدينة متواضعة تنفض عنها غبار ماضيها الأسطوري ، بعد ان خرجت من عصور الظلام ، ودخلت قبل ثلاثين عاما فقط الى العالم الحديث ، واغلب بنايات هؤلاء المعماريين التي اشتهرت في القرن العشرين ، هي في الواقع اقدم من تاريخ الدولة العراقية الحديث ، فرانك لويد رايت ، لوكوربوزيه ، غروبيوس ، جيو بونتي ، دودوك ، وليم دونكل وكوبر العائد من جديد ، بالاضافة الى الفار التو وسواه ، كل هؤلاء حلوا ضيوفا على بغداد ، تَرَكُوا تواقيعهم على ارضها ومضوا ، باستثناء فرانك لويد رايت ، فقد ترك احلامه تراكم احلام مدينة الف ليلة وليلة ، تلك الأحلام التي لو قدر لها ان تنوجد لكانت بغداد تكتب قصة جديدة ، وسردية مغايرة عن تلك التي شاءت الأقدار ان تكتبها ، جزيرة عدن ( ام الخنازير ) كادت تتحول الى واحدة من عناصر تشكل المدينة على نحو جديد ، فقط لو ان تخطيطات رايت استحالت آلى واقع ، تلك الجزيرة الحلم بأوبراها ومولها وهارونها ونوافيرها ومتحفها ، بقيت تتنفس الغبار على ورق الاسكتشات ، بينما انبثقت دار الأوبرا المطابقة لتصميمها في ولاية كاليفورنيا ، في المكان الذي يعرف ان دار أوبرا وحدها ، بامكانها ان تحقق ازاحة ثقافة في تاريخ مدينة .. قلبي يتقطع ألماً ، وانا اتابع الحروف التي سطرها الدكتور خالد ، وهو يقرأ جماليات هذه التصاميم وروعتها .. كيف يمكنني ان أُلخصها هنا ، وهي بالضبط مثل خطوط المصمم العظيم ، أيقونة العمارة في القرن الماضي فرانك لويد رايت ، لا ، لا يمكن اختزالها ، ليس لديّ قدرة على بعثرة تلك السطور التي دونها استاذ لغة العمارة الدكتور خالد السلطاني ، وهو يستنطق الخطوط والزوايا والمناظر الطبيعية .. تعساً للسياسة التي قطعت على مدينتا الطريق ، فليس كل عسكري هو ونستون تشرشل ، وليس كل سياسي ، هو ونستون تشرشل ، ليتعلم الدرس ، الذي يقول ان العمارة التي نبنيها ستبنينا بدورها .. بدل دار الأوبرا تحوّل بلدنا الى معسكرات تزاحمها معسكرات ، وقصور ساذجة تزاحمها قصور اكثر سذاجة .. لقد قتلت الحداثة على ورق السكتشات ، وما بقي من إرث ، تركه لنا جيو بونتي ولوكوربوزيه وغروبيس وسواهم ، هو في الحقيقة مجرد جزر جمالية في محيط كئيب وغريب عنها تماماً .. لقد ماتت الحداثة هناك ، لقد قتلها البيان رقم واحد .. ولكنها موجودة هنا في هذا الأرشيف الأصيل ، في قراءة الدكتور خالد السلطاني ، بانتظار ان تمتد لها يــد مثل يــد الملوك وزمن مثل زمن الملوك ، لتنفض عنها غبار السنوات ودموع التغريب .
// على كل بغدادي ، ولد قريبا من ضفاف دجلة ، في كرخها او رصافتها ، ان يحتفظ بنسخة من هذا الكتاب في بيته ،، لان بغداد هي مجرد حلم ، او ذكرى ،،، او الف ليلة وليلة ، وفي هذا الكتاب قصة الليلة الثانية بعد الألف ، شهرزاد الجريحة هنا..
بعد حداثة الخمسينات ، تركت بغداد حداثتها وراءها ، تماماً ، لولا تلك القصة النادرة لولادة شارع حيفا ، لكنا في صحراء عمارة النصف الثاني من القرن الماضي . لقد شاخت بغداد تماماً كما شاخ ابناؤها المعماريون الشباب ، الذين كانت الحداثة تشكل حلما مجيدا في وجدانهم ، و مدينة أنيقة تليق بذاك الخيال الأنيق..
// بقي ان أقول ، ان ولادة هذا الكتاب - الوثيقة في هذا الوقت امر سيحتار معه المؤرخون في المستقبل ، حيث من الغرابة ان تصدر للعمارة البغدادية شهادة ميلاد عشية احتضارها وافولها ، ان الشواخص التي يحتفي بها الدكتور السلطاني هي الان مبان هرمة ومتعبة وتذرف دموعها على المارة في مشهد خرائبي قل ان عاشته مدينة في تاريخها ، مدينة منكوبة في عمرانها وثقافتها وجذورها . مدينة بلا مدنية ، هي بالأحرى قرية منكوبة ، يحف بها التخلف من كل الجهات ، و ينعدم فبها الذوق . ويكرهها من يتولى امرها . ليست هناك مدينة في التاريخ تعاقب بسبب تاريخها مثل بغداد .