البهائيون في العراق الملكي بين تأسيس الدولة والاعتراف العالمي

آراء وأفكار 2015/04/04 12:01:00 ص

البهائيون  في العراق الملكي  بين تأسيس الدولة والاعتراف العالمي

إعادة قراءة تاريخ الطائفة البهائيّة في العراق  (3)

 

عزز الدستور العراقي في سنة 1925 التعددية الدينية، إذ اعترف صراحة بحرية الأديان والعقائد الدينية، وخلال هذه المدة استكمل البهائيون في العراق تأسيس مجالسهم الروحانية (المحفل الروحاني المركزي والمحافل الروحانية المحلية)، واتخذوا لهم مقرا رسميا وعلنيا في بغداد في محلة الحيدرخانة، يقيمون فيه شعائرهم الدينية، وفعالياتهم الاجتماعية، وكذلك يديرون فيه شؤونهم الإدارية، ويسمى هذا المركز عند البهائيين بـ (حظيرة القدس).

 
ولكن قبل ذلك التاريخ نسجل صدور بيان المحاكم رقم 6 لسنة 1917 من قبل فريق أول و. ر. مارشال قائد جيش الاحتلال البريطاني، كأول وثيقة تتضمن اعترافا بحرية الدين والمعتقد بالنسبة للطوائف غير المسلمة في العراق ومن بينها الطائفة البهائية. 
بناءً على ذلك دأب القضاء العراقي بإحالة قضايا الأحوال الشخصية للطوائف غير المسلمة إلى محكمة البداءة (المواد الشخصية) مثل قضايا الزواج، والطلاق، والتفريق، والوصية، والإرث، والوقف. وغيرها من المسائل التي عدّها القضاء العراقي تمس العقيدة الدينية لتلك الطوائف، وأي تدخل فيها، يتسم بالحساسية، ماحدا بالمشرع العراقي منذ البداية، إلى أن يذهب إلى تطبيق الأحكام الفقهية الخاصة بتلك الطوائف، على المنازعات المتعلقة بأحوالهم الشخصية في المحاكم المدنية البداءة (المواد الشخصية).
وتسجل وثيقة (تاريخ الامر في العراق) انه منذ تاريخ 1917 بدأت المحاكم المدنية (المواد الشخصية) بتصديق عقود الزواج للبهائيين التي يعقدها محفلهم الروحاني بموجب أحكام الشريعة البهائية، وتحتفظ المحاكم المدنية بنسخة من عقد الزواج الصادر عن المحفل الروحاني للبهائيين في سجلاتها، وذلك أسوة بالطوائف غير المسلمة الأخرى، الموجودة في العراق.
ترك بيان رقم 6 هامشا من الحرية للبهائيين ولغيرهم من الطوائف الدينية غير الإسلامية في أحوالهم الشخصية، وبدأوا ينشرون معتقداتهم الدينية، وشهدوا دخول مؤمنين جدد إلى ديانتهم مع هامش لإنشاء مؤسساتهم الإدارية، وفي بداية العشرينيات بدأت مثل هذه المؤسسات في جميع دول العالم التي فيها حضور او وجود للبهائيين، لكن العراق كان من أسبق الدول التي تأسس فيها نظام إداري بهائي والمتضمن انشاء المحافل المحلية والمحافل المركزية. وفي الواقع يعود تأسيس المحفل المحلي في بغداد إلى العام 1919، ثم في العام 1924، أو 1925 تأسس المحفل المركزي الذي ضم ممثلين عن المحافل المحلية في بغداد، وبعقوبة، وعواشق، وذيابة، والموصل، والبصرة، وكربلاء، والنجف، وكركوك، والكاظمين، والسليمانية.
وقد ضمت المذكرة المرفوعة إلى عصبة الأمم في العام 1927 توقيع رئيس المحفل المركزي في العراق الحاج "محمود قصابجي"، في وقت كان فيه العالم يضم خمسة محافل مركزية، والعراق كان يمثل المحفل المركزي السادس. وحين بدأت نواة الدولة العراقية بالنمو كان يرافق ذلك نمو في الطائفة البهائية، فصدر قانون الجمعيات العراقي، وتشكلت بموجبه المنظمات والأحزاب والجمعيات، وبدأ الجيش العراقي يتصلب عوده، وتتشكل وزارة المعارف وغيرها من الوزارات.
لكن إذا كانت هذه الوقائع معروفة ومسجلة، فإن هناك أدوارا وشخصيات لم يسبق للباحثين تناولها أو ذكرها، فمثلما كان لأفراد الأقليات الدينية دور في تأسيس العراق المعاصر، ويذكر في هذا السياق الدور البارز الذي شهد به الجميع لـ"ساسون حسقيل" وزير المالية الذي ينتمي إلى الأقلية اليهودية، كان هناك شخص بهائي سجل حضوره في بدايات التأسيس للدولة وهو "حسين أفنان" الذي قدم مع الحملة البريطانية كإحدى الكفاءات العربية، وعمل سكرتيرا لمجلس الوزراء. وقد كانت له قرابة مع عائلة حضرة البهاء، فهو ابن بنت عبد البهاء، وكان يحمل الجنسية الفلسطينية، بعد أن كان يحمل الجنسية العثمانية، حصل على تعليم عال في الهند، وبرز كمثقف علماني له خبرة في بداية تأسيس الدولة، فقد كان المساهمون الأوائل إما ينحدرون من فئة الضباط الشريفيين الذين عملوا مع فيصل الأول، أو كانوا من رجال الدين أو طبقة الشيوخ والملاك. 
وعلى حد علمي ليس هناك اي اصدار او بحث يتناول دور هذه الشخصية ومدى علاقتها بالملك فيصل الاول، وحبذا لو تطوع احد الباحثين في التاريخ لكتابة اطروحة حول هذه الشخصية الفذة والغامضة. 
وحسب شهادة "عبد الرزاق العبايجي"، فقد حمل الملك فيصل تقديرا عاليا لحسين أفنان، وقد ارتبط ذكره بوعد شخصي من الملك فيصل الأول بإيجاد حل لبيت حضرة البهاء الذي ثارت حوله قضية ملكية أمام القضاء وصلت تداعياتها إلى عصبة الأمم في ثلاثينيات القرن الماضي. كان الملك فيصل وقتذاك تحت ضغوط شديدة، فمن جهة كانت هناك قضية الآشوريين 1933 التي أحرجت سمعة العراق أمام المجتمع الدولي، ومن جهة ثانية كانت هناك قضية ملكية البيت للبهائيين. وكانت قضية البيت تعود لتأريخ أسبق من ذلك، محاطة بتعقيد يرتبط بالموقف الديني من البهائية، فقد وقف علماء الدين الشيعة وشيوخ الدين ضد البهائيين، وكان الملك فيصل بما عرف عنه من اعتدال وتسامح يحاول أن يقف على مسافة وسطى بين الجميع. 
استمرت أزمة القضية للمدة من 1920-1925 وحسمت في غير صالح البهائيين، لذا لجأ البهائيون للضغوط الدولية، ووصلت القضية بالفعل إلى عصبة الأمم، وإلى لجنة الاستقلال في العصبة، التي عطلت دخول العراق كعضو في عصبة الأمم لمدة ثلاث سنوات بسبب هذه القضية، واستمرت الأزمة منذ انتهاء الجانب القضائي بالحكم في غير صالح البهائيين إلى قبيل الحكم لصالح دخول العراق عضوا في عصبة الأمم 1925-1932. وكانت اللجنة قد قدمت تقريرا إلى لجنة الانتدابات يوصي بتأخير الانتداب البريطاني على العراق بسبب ضعف مؤسسات الدولة ، ومن بينها الأجهزة القضائية، وبسبب التمييز ضد الأقليات الدينية بدلالة قضية بيت بهاء الله. 
قدّم العراق تقريرا أو جوابا خطيا إلى هيئة العصبة يتضمن اعترافا بكون إعادة ملكية البيت للبهائيين قد أصبحت مسألة في غاية الصعوبة، لأن القرار اتخذ شكلا قضائيا باتا، ولا يمكن إلغاء حكم قضائي بقرار إداري سياسي من ملك، أو من رئيس وزراء، لكن مع ذلك تعهدت الحكومة العراقية بإيجاد وسيلة مناسبة لتعويض من صدر في صالحهم الحكم، بحيث يعود البيت الذي يحظى بقدسية خاصة لحيازة البهائيين. قبلت اللجنة التعهد وقدمت تقريرها إلى العصبة بتوصية لرفع الانتداب عن العراق. 
وفي جميع الأحوال فإن حادثة البيت الذي سكن فيه "بهاء الله" مدة عشر سنوات في جانب الكرخ – شيخ بشار- التي استغرقت مدة تأسيس العراق المعاصر من سنة 1921 إلى سنة 1934، تدل بصورة واضحة على تمثيل البهائيين وحضورهم طرفا تعترف به الدولة، والمجتمع الدولي. وكانت المحافل البهائية العراقية المنتخبة تتعامل مع الجهات الرسمية بصورة علنية على أساس كونها الممثل الشرعي للطائفة البهائية في العراق، في جميع المراحل التي تدرجت فيها القضية، من المحلي إلى الوطني إلى الدولي: ابتداء من المحكمة الشرعية الجعفرية، ومتصرفية لواء بغداد، ومحكمة الصلح، ومحكمة الاستئناف، ومجلس الوزراء، وموقف الملك فيصل الأول، وانتهاء بقرارات عصبة الأمم في جنيف. 
وقد تقدم في العام 1931 المحفل المركزي للبهائيين في العراق بطلب لوزير الداخلية بعدّ المحفل الروحاني المركزي للبهائيين هو الممثل الوحيد للبهائيين في العراق والذي يمثل هيئة لها شخصية قانونية مستقلة ترعى شؤون البهائيين الروحانية والإدارية، أسوة بمنظمات دينية أخرى انضوت تحت حكم قانون الجمعيات. 
وقد احاطت بوزير الداخلية ظروف دقيقة تضمنت ضغوطا بحيث لم يصدر رد إيجابي من الوزير على طلب الانشاء، لكن القانون تضمن تحديدا زمنيا يصل إلى مدة 30 يوما، اذا لم يرد الوزير بإقرار الطلب يعد الاقرار قائما، وبهذا أصبح المحفل المركزي مؤسسة ذا شخصية قانونية تستطيع ممارسة نشاطها علنا، ولديها عنوان معروف، وصندوق بريدي، وتعقد اجتماعات دورية وتجري انتخابات سنوية، وكانت وزارة الداخلية تتسلم عن طريق قنواتها الرقابية أسماء أعضاء المحفل المركزي رئيسا وأعضاء. ولحرص البهائيين على هذه الممتلكات الجديدة، وللمخاوف من مصادرتها، فقد سجلت بأسماء شخصيات بهائية وليس باسم المؤسسة، وكان الخيار مفتوحا أن تصبح هذه الممتلكات في ما بعد وقفا على المؤسسة المعنية التي تمثل الطائفة. 
في رأي "عبد الرزاق العبايجي" لم تشهد مرحلة الحكم الملكي سياسة عدائية تجاه أي مكون ديني، إذ كان أغلب القائمين على الحكم آنذاك شخصيات متنورة مثل: جعفر العسكري، وعبد المحسن السعدون، ونوري السعيد، وياسين الهاشمي، وحتى الكيلاني. لكن هذه الشخصيات على الرغم من أن جلهم يعرف البهائية والبهائيين، ويحتفظون بمودة لهم، لم يستطيعوا المجاهرة علنا بتأييد أو دعم البهائيين خوفا أو حذرا من ردود فعل الدوائر الدينية والشيعية بشكل خاص.
كان للبهائيين حضورهم في العهد الملكي من خلال النشاطات العلنية للمحفل الروحاني المركزي ومشاركتهم في المناسبات والأعياد الوطنية، وتقديم التهاني والتبريكات إلى الحكومة العراقية في جميع المناسبات والأعياد الدينية والوطنية نيابة عن البهائيين في العراق، سواء أكان ذلك عن طريق الحضور للبلاط الملكي ومجلس الوزراء والتسجيل في سجل التشريفات الملكية، أم عن طريق الإذاعة العراقية. وعند تتويج الملك فيصل الأول أرسلوا برقية تضمنت تهنئة وتبريكا بالمناسبة، وشاركوا أيضا في مناسبات أخرى مثل وفاة الملكة عالية في بداية الخمسينيات، ويحتفظ البهائيون بصورة لأعضاء المحفل المركزي وهم يضعون إكليلا من الزهور على قبر الملكة الراحلة. فضلا عن المراسلات الرسمية بين البهائيين والمؤسسات الرسمية للحكومة التي تضمنت جوانب من طلب البهائيين الاعتراف، ففي ثلاثينيات القرن الماضي قدم أحد الضباط البهائيين طلبا لمجلس الوزراء بشأن الاعتراف بالعطل الدينية للبهائية، حينها كتب وزير الداخلية إلى وزير العدل لسؤاله عن الموضوع، فرد عليه الأخير بعدم وجود مانع قانوني لكن يجب توافر إحصائية بعدد البهائيين في الجيش لمعرفة جدوى الاعتراف من ناحية عملية، وحين تبين أن العدد لم يكن ضخما، لم يستوجب الأمر برأيهم إصدار اعتراف مبكر بالعطل الدينية للبهائيين، إذ كان بإمكانهم أخذ إجازات اعتيادية عند حلول أعيادهم. وهذا دليل على سرعة الاستجابة الرسمية وموضوعيتها في التفاعل مع شؤون البهائيين في حدود حماية الصالح العام.
في سنة 1952 حصل تطور جديد في تاريخ الطائفة البهائية في العراق، تمثل بإنشاء مقبرة خاصة للبهائيين في بغداد، بعد تبرع أحد البهائيين بقطعة أرض في منطقة بغداد الجديدة، واستحصل المحفل الروحاني الموافقات الأصولية من وزارة الصحة وأمانة بغداد لإنشاء المقبرة، وبهذا أصبح للبهائيين مقبرة خاصة، يقومون بدفن موتاهم فيها بموجب الشريعة البهائية، بصورة رسمية وعلنية.
أما عن قيود البهائيين في سجلات الأحوال المدنية، فقد تسجل البهائيون في العام 1934 في أول تعداد سكاني بعد صدور قانون الجنسية العراقية، وسجّلوا بوصفهم بهائيين بعد ذلك في أوراقهم الثبوتية، وكذلك في شهادة الولادة لكل مولود بهائي. وبعد أكثر من عقد من الزمن وبالتحديد في العام 1947 تسجلوا بهائيين أيضا في التعداد السكاني، وتسلموا ما يسمى آنذاك "دفاتر النفوس"، سجل فيها تسمية "بهائي" كمحدد للهوية الدينية أو المعتقد. وفي تعداد العام 1957 تم تسليم السكان استمارة معلومات تضمنت ذكر ثلاث ديانات هي: الإسلام والمسيحية والموسوية، وثلاث عقائد دينية هي الصابئة واليزيدية والبهائية، وكان هذا اعترافا صريحا بالبهائية ضمن المعتقدات الدينية في العراق من قبل الدوائر الإحصائية الرسمية. وبدأ البهائيون بالحصول على دفاتر النفوس وهويات الأحوال المدنية لسنة 1957 وكذلك شهادات الجنسية العراقية مثبت فيها في حقل الدين (بهائي) تماما كما يكتب في حقل الدين (مسلم) للمسلمين و(مسيحي) للمسيحيين.
وعلى الرغم من أن الإحصائيات السكانية الأخرى سجل فيها البهائيون عقيدتهم مثل إحصاء 1977 وإحصاء 1987 و في 1997 أيضا، إلا إنه بعد صدور قانون تحريم النشاط البهائي 1970 تعين عليهم الصمت طوال المدة الممتدة من بداية السبعينيات وحتى العام 2003، ولم تظهر هذه الإحصائيات بشكل رسمي أعداد البهائيين، حتى أن الإصدار محدود التداول عن التوزيع الديني للسكان العراقيين، لم يذكر أرقام البهائيين، وفي ذلك مؤشر على عدم رغبة السلطات الاعتراف رسميا بوجود البهائيين على الرغم من تسجيلهم عقيدتهم، وتنفيذا لقرار رسمي بمحو حضورهم في الذاكرة الجماعية، وهو ما كاد يتحقق في واقع جهل الناس بوجود بهائي في العراق بعد العام 2003.

تعليقات الزوار

  • Aziza Marakchi

    الله يوفقكم لما فيه رضاه

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top