TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > عمارة.. عمارة.. البيت البغدادي الثلاثيني: عمارة الآمال الواعدة

عمارة.. عمارة.. البيت البغدادي الثلاثيني: عمارة الآمال الواعدة

نشر في: 7 نوفمبر, 2015: 12:01 ص

يظل حدث تأسيس "الدولة العراقية"  في مطلع العشرينات من القرن الماضي، يظل يعتبر من الاحداث الكبرى التى شهدتها  منطقة الشرق الاوسط، سواء لجهة أهميته السياسية، وما ترتب عن ذلك من تداعيات اثرت عميقا على جوانب مختلفة على البلد وعلى سكانه، ام لناح

يظل حدث تأسيس "الدولة العراقية"  في مطلع العشرينات من القرن الماضي، يظل يعتبر من الاحداث الكبرى التى شهدتها  منطقة الشرق الاوسط، سواء لجهة أهميته السياسية، وما ترتب عن ذلك من تداعيات اثرت عميقا على جوانب مختلفة على البلد وعلى سكانه، ام لناحية فرادة الحدث الناجز في منطقة كانت مبتلاة باحتلالات عديدة من قبل جيوش اجنبية. لقد تواءم وجود عدة عوامل مواتية، افضت الى "تخليق" ذلك الحدث السياسي الهام، وجعله يكتسي قيمة تاريخية عالية.

الا ان عقد الثلاثينات (الذي لطالما دعيته بـ <العقد الفريد>) من تاريخ وطننا الحديث، المتكئ على تداعيات ايجابية، وفرها ذلك الحدث الهام، كان فعلا عقداً واعدا، يفيض بآمال "عذبة"، مترعة بطموحات كبيرة، توقعها الجميع لذلك البلد الذي نال اعترافاً دولياً غير مسبوق، في مطلع الثلاثينات، بانضمامه الى منظمة "عصبة الامم" في 3 تشرين الاول (اكتوبر) عام 1932، "كدولة" كاملة العضوية ومستقلة.
معلوم ان تلك الآمال الموعودة وجدت لها تصاديات مؤثرة انعكست في متغيرات كثيرة شملت جميع مناحي الحياة، بضمنها النشاط الإبداعي المتمثل في "العمارة"، وما رافق ذلك من اجراءات تخطيطية جديدة، شملت طبيعة البيئة المبنية، وغيرت من معالمها. اذ تكرست في العقد الثلاثيني، نزعة "الخروج" من اسوار بغداد التاريخية، والتوجه نحو جوارها، والبدء في تشييد احياء سكنية ذات مواصفات تكوينية لا مثيل لها، ظهرت لاول مرة، من خلال حضور "الدارة/ الفيلا"، كمفردة سكنية حديثة، انطوت على خصائص تصميمية جديدة، تمظهرت في "تغطية" الفناء الوسطي، المصاحب لتصاميم البيت السكني التقليدي المعروف، بالاضافة الى وجود "حديقة" ملحقة بالدار، يكون موقعها إما امامها او خلفها، او في موقع الاثنين معاً، فضلاً عن استخدام مواد انشائية حديثة، ذات مواصفات عالية، تتيح التخلص من سلبيات البناء السابق وتفتح امكانات جديدة في صميم العملية التصميمية للبيت السكني المحلي.
لقد انتشرت ممارسة بناء الدور السكنية "الفيلات" بصورة جلية بالمناطق الجديدة من ضواحي بغداد، والتى تكفل بتشييد معظمها ممثلو "الطبقة الوسطى"، الطبقة التى ظهرت فجأة في "هرمية" المجتمع العراقي، والمتشكلة من موظفي الدولة الحديثة المتعلمين، ومن ازدياد عديد رجال الاعمال والتجارة، الذين سعوا بعملهم الدؤوب، وتنويع اساليب تجارتهم وراء ايفاء متطلبات متنوعة للدولة الناشئة والغنية نوعا ما (بعد اكتشاف النفط في نهاية العشرينات) مع تلبية حاجات سكانها المترفين/ "المتبغددين" العديدة! واعتباراَ من نهايات العشرينات، وخصوصا في عقد الثلاثينات، بدأت تظهر في نسيج البيئة المبنية البغدادية دوراً سكنية ذات لغة تصميمية مميزة، اتسمت على قطيعة تامة لما كان مألوفاً وشائعاً في السابق. لقد ارتضت هذه الطبقة أن تكون لها مساكن ومقيميات جديدة لا تقل شأناً عن حداثة المباني الحكومية ذاتها، التى بدأت تظهر في افق المدينة التاريخية، كما أنها أحست سريعاً بعدم استجابة بيوت الآباء والأجداد التقليدية للإيفاء بالمتطلبات المستحدثة في حياتهم ومراكزهم الجديدة. ان ذلك الظهور اللافت لتلك الابنية الغريبة وانتشارها، لم يكن يعيقه عدم وجود كفاية من معماريين مختصين بالبلد وقتذاك. اذ ان هذا العقد، وكما كتيت عنه سابقاً، فرز ".. ظاهرة جديدة وغير مألوفة في السياقات التصميمية، وهي ظاهرة البناء وفق ما يعرف بالبيانات المصورة (أو الدفاتر المصورة ) أي (الكاتالوغات CATALOGUE). فقد انتشرت موضة المكاتب التي تعنى بتقديم أنواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذا (الكاتالوغات) وتترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه ويتكفل المكتب المحلي في تجسيد "الحلم" التصميمي إلى الواقع. وأكثر تصاميم هذه (الدفاتر المصورة) هي تصاميم شائعة في بلاد الشام وخصوصا في فلسطين وكذلك في بلدان حوض البحر المتوسط الأخرى، كتركيا واليونان وإيطاليا وحتى فرنسا. وتتسم تصاميم هذه المشاريع التي كانت تتبع الأسلوب (التوليفي ECLECTICISM) بكثافة فائقة من العناصر الزخرفية واستخدام مفردات معمارية هي أصلاً دخيلة وغير مألوفة وغريبة عن تراث وتقاليد السياقات العمرانية المحلية". لا اريد، هنا، ان استرسل كثيرا عن قيمة وخصائص "فورمات" تلك الدور السكنية، فقد كتبت عنها الكثير (وللمهتمين يرجى مراجعة كتابي المعنون "عمارة الحداثة في بغداد: سنوات التأسيس" الصادر في 2014، فهناك كلام وافٍ عن عمارة تلك المرحلة)؛ لكني اود ان اتوقف عند مثال مشيد لدار سكنية، اعتبرها نموذجا ساطعا لما ما تمثله من مزاج معماري مترف، اتسم بلغة تصميمية مميزة، شاعت امثلته في ذلك "العقد الفريد"! انا اتحدث عن "الدارة" السكنية الخاصة بـ "بيت لاوي"، في حيّ "العلوية" المحاذي لضاحية "الكرادة الشرقية" و"الدارة" اياها، التى تم تشييدها في عام 1932، تشغلها الآن "السفارة الفرنسية" ببغداد، صممت ونفذت بامر من عائلة "لاوي"، وهي عائلة بغدادية معروفة، كان افرادها يمارسون التجارة، وظلت لسنين عديدة الوكيل الحصري لسيارات "شفروليه والبويك" الامريكيتين في العراق.
من نظرة اولية، تبدو "الدارة" مصممة من قبل معمار مهني، يعرف جيداً ادوات التكوين التى يتعاطي معها؛ لكن الحقيقة، غير ذلك، فليس من ثمة دليل مؤكد وموثوق لهذا الافتراض. وارجح بان المبنى صمم ونفذ من قبل "حرفيين"، وفقاً لاسلوب العمل بـ "البيانات المصورة"، التى تحدثنا عنها تواً. ومن المحتمل جداً، ان ذاك العمل، تم باشراف مهندسين (ربما مدنيين، وعلى الارجح غير عراقيين). في عمارة "الدارة"، تحضر جميع "التجديدات" الحاصلة في اسلوب التصميم الخاص بالبيت السكني البغدادي الثلاثيني: الحديقة الواسعة الامامية مع عناصر تأثيثها، ورفع المبنى كله بنصف طابق، توخياً لعمل "سرداب" تحت المساحة البنائية للبيت، والشرفة نصف الدائرية الممتدة امام المدخل الرئيس، والمحمولة باعمدة ذات تيجان كلاسيكية (دورية Doric، في مثال بيت لاوي)، فضلا على توق التأكيد لاهمية المدخل الرئيس، من خلال اكسابه شكلاً معبراً ومميزاً، ناهيك عن دقة العمل وبراعته، التى اتسمت بها جدران المنزل، بالاضافة ، طبعاً، الى جودة الاعمال الحديدية، وحسن استخدام واختيار العناصر التزيينية، التى تحدد بطرز واساليب منظوماتها البنائية الخاصة نهايات وبدايات الجدران وفتحاتها، العاكسة لذوق رفيع، ومعرفة تامة بأهمية ودور تلك العناصر وقدرتها في اضفاء قيمة جمالية عالية على المبنى المصمم.
يولي المصمم (اياً تكن مهنته: معماراً ام حرفياً) أهمية خاصة لمعالجة واجهات مبناه الاربع، التى نشأت جراء "توقيع" الدارة بصيغة حرة، فهو، هنا، يعزف عن ممارسة تطبيقات "لصق" الجدران مع حوائط بيوت الجيران، الشائعة جدا في الممارسات البنائية المحلية، مانحاً معالجة خاصة لجميع تلك الواجهات، انطلاقاً من قيمتها التصميمية، وليس بدافع خصوصية موقعها. بمعنى آخر، لا يعير المصمم كثير انتباه لمنظومة "تراتبية" ما يسمى بالواجهات الامامية اوالواجهات الخلفية و الجانبية. بالنسبة اليه جميعها تمتلك قيمتها التكوينية، ما جعلنا ان نكون شهوداً على مهاراته التصميمية، وحسن اختياراته لجهة تنطيق تلك الواجهات معمارياً.
تبقى "التفاصيل"؛ التفاصيل العاجة بها سطوح الدارة من ارقى الممارسات البنائية التى انبهرت في مشاهدتها، وانا ازور المبنى في الفترة الاخيرة. انها لمتعة حقيقة، ان يصادف المرء كل تلك "اللوحات" الآجرية المتقنة، ذات التشكيلات الفاتنة في بيت واحد؛ في بيت ثلاثيني واحد، وهي تغطي برسوماتها وزخرفتها الآسرة جميع سطوح السقوف وفي امكنة منتقاة على الجداران! كل ذلك يجعل من "دارة بيت لاوي"، احدى النماذج المبدعة والباهرة لمفهوم "الدارة" السكنية الثلاثينية البغدادية وتمثيلا صادقا لها. وعليّ الان، الاشارة، بان حظوظ بقاء الدارة، بالصيفة التى تشاهد بها، وبفضل اعمال الصيانة المستمرة الجارية عليها من قبل شاغليها الحاليين، اكسبها حضورا لافتا ومبهجاً، على خلاف كثر من روائع "العمارات" الثلاثينية، التى لم تقدر قيمتها المعمارية، من قبل مالكيها "الجدد"، ولم تحظ برعاية واهتمام كبيرين من قبل المؤسسات العامة والخاصة (وخصوصاً الخاصة! وهي منظمات المجتمع المدني)، المعنية بالحفاظ على تراث ومورث البلد الذي عشنا ونعيش في ربوعه.
لكن الاهم، في كل ذلك، هو ان عمارة الدارة عكست، بصدق، تلك الآمال الواعدة التى "خلقها" العراق الثلاثيني لنفسه ولسكانه، والتى في تحقيقها، كان يمكن ان يكون مصير بلدنا مصيراً آخراً، يختلف كثيراً عن ما "جاهد" كثر من <سياسيي الصدفة> الذين قدر لهم ان يحكموا هذا البلد، في ايصاله للحالة الراهنة، التى امست فيها "دارة بيت لاوي" ومثيلاتها من المباني الفاخرة، مجال تساؤل، فيما اذا كان، حقاً، "حدث" مثل هذا كله، سابقاً، في عراق الثلاثينات؟!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. محمد عقيقي

    المقاله بهذا الاسلوب الرائع لاستاذنا الكبير د.خالد تترك انطباعا حقيقيا ياخذنا زيارة لفترة الثلاثينيات كاننا نعاصر عملية البناء لتلك الابنيه الراقيه ... تحياتي وتقديري

  2. محمد البندر

    سفاكو دماء العمارة التقليدية في بغداد وفي مدن العراق الأخرى من ملاكي العقارات يقومون بجرائمهم ضد معالم تراث العمارة العراقي والبغدادية في وضح النهار وبدون أي وازع من ضمير أو اخلاق، أو حتى خوف ولو بسيط من سلطات الأمانة أو المحافظة المعينة... هذا الجيل الجد

  3. محمد عقيقي

    المقاله بهذا الاسلوب الرائع لاستاذنا الكبير د.خالد تترك انطباعا حقيقيا ياخذنا زيارة لفترة الثلاثينيات كاننا نعاصر عملية البناء لتلك الابنيه الراقيه ... تحياتي وتقديري

  4. محمد البندر

    سفاكو دماء العمارة التقليدية في بغداد وفي مدن العراق الأخرى من ملاكي العقارات يقومون بجرائمهم ضد معالم تراث العمارة العراقي والبغدادية في وضح النهار وبدون أي وازع من ضمير أو اخلاق، أو حتى خوف ولو بسيط من سلطات الأمانة أو المحافظة المعينة... هذا الجيل الجد

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram