المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

المصرف الزراعي في السنك: بزوغ الحداثة المعمارية العراقية

معمار وأكاديمي

في تاريخ العمارة العراقية، وتحديداً في فصل عمارة الحداثة من ذلك التاريخ، ثمة محطات اساسية ومؤثرة، قُدر لها ان تبدل مسار العمارة وتغيرها من حال الى حال. وعادة ما كان يشي حضور تلك المحطات او الفواصل ببزوغ نوع من المقاربات التصميمية لم تكن معروفة سابقاً، لكن وجودها في المشهد كان غاية في الاهمية  والتأثير على مسار تقدم العمارة اللاحق وعلى نوعية الممارسة التصميمية، وبالتالي على المنتج المعماري المبتدع. لاحظنا ذلك في العشرينات، عشية تاسيس الدولة وما بعدها عندما رافق ظهور الحداثة المعمارية، وقتها، "صدمة" بصرية ناجمة عن ظهور تصاميم بلغة جديدة محدثة قطيعة تامة مع ما كان مألوفاً من اساليب تصميمية اعتمدت، غالبا، على مألوفية المواد الانشائية وانظمتها التركيبية. لنتذكر ما اجترحه المعماريون الانكليز العاملون في حقل العمارة من مبانٍ انطوت على تكوينات غير مالوفة واستخدام حديث للمواد الانشائية التقليدية، وكل ذلك كان مصحوباً بتوظيفات حرة لانظمة إنشائية متطورة. وقد عدّ ذلك النشاط التصميمي، وقتها، بمنزلة فواصل مؤثرة وفعالة للمرحلة الاولى من ذلك النهج الحداثي.
شيء ما مماثل، جرى ايضاً ما يشبه ذلك في الاربعينات دلّ وقوعه في حينها على بدء مرحلة جديدة وثانية في المسار التطوري للحداثة المعمارية العراقية، متمثلا في ظهور مبانٍ بتصاميم جديدة ولغة معمارية طازجة استقت مرجعيتها من التطور المذهل والراديكالي اللذين حصلا في الممارسة المعمارية العالمية. من ضمن تلك المباني المؤسسة للمرحلة التالية من الحداثة المعمارية العراقية "مبنى المصرف الزراعي" في السنك بشارع الرشيد (1949) <المعمار: عبد الله إحسان كامل بالاشتراك مع جعفر علاوي>. اذ شكل ذلك المبنى حدثا لافتاً في الخطاب المعماري المحلي، أهلته ليكون احد النماذج التصميمية الهامة المؤشرة لبزوغ عمارة الحداثة في بلدنا "بنسختها" الثانية.
تنبع اهمية المبنى من الاختيارات الموفقة للمقياس المعماري المصطفى له، ولمقاسات ابعاده "الضخمة" في حينها (المتضمنة اربعة طوابق!)، وكذلك من اسلوب معالجة واجهاته المعبرة، وتوظيف وسائل الحماية المناخية في تلك المعالجات، بل والارتقاء بها لتكون العناصر التكوينية الاوضح تعبيرية وحضوراّ في اللغة المعمارية، فضلا على استخدام مفردة "النوافذ الشريطية"، والتعامل الجديد مع السطوح  الآجرية، كما لا يمكن التغاضي عن التنويه الى وجود السلم العالي في الواجهة الامامية الذي يقود الى مدخل المبنى، عازلاً المبنى عن ضجيج الشارع وزحمته. وكان كل ذلك بمثابة امور لافتة وجديدة في "المعجم"  المعماري المحلي.
ثمة توق شديد يمكن تلمسه لدى المعمار بجعل مبناه، (وعلى وجه الدقة: بجعل "مرجعية" مبناه)، تنتمي الى مقاربة "العمارة الحديثة" New Architecture، التى كانت تعتبر ايضاً مقاربة جديدة وحداثية في الخطاب المعماري العالمي. اي اننا امام محاولة تصميمية تنزع لتكون لغتها المعمارية متسقة مع سياق آخر ما توصلت اليه الممارسة المعمارية العالمية الطليعية من ابداعات. وهو حدث، يسبغ اهمية مضافة على عمارة المبنى، ويرفع من قيمتها الاسلوبية.  وكما ذكر قبل قليل، فان مصمم المبنى هو المعمار "عبد الله احسان كامل" (1919- 1985)، احد ابرز معماريي الحداثة العراقيين ورائدها الاول، هو الذي بفضله ترسخت قيم العمارة الحداثية ومبادئها في المشهد المعماري المحلي. عندما اتم عبد الله احسان كامل اعداد جميع مخططات المصرف اياه، توافق ذلك مع حصوله على بعثة دراسية لدراسة الماجستير في هارفارد في الولايات المتحدة، ما حدا به ان يكلف صديقه المعمار جعفر علاوي (1915- 2005) للاشراف على انشاء المبنى وفقا لتلك المخططات والمساهمة في حل اشكاليات التنفيذ المتوقعة.
في مسعاه لمعالجة واجهات مبنى المصرف، يتبنى عبد الله احسان كامل قيم اطروحة "العمارة الجديدة" ومبادئها، وخاصة فيما يتعلق بضرورة مراعاة معالجة تلك الواجهات، انطلاقاً من خصوصية موقعها وطبيعة اطلالاتها في الموقع. معلوم ان مبادئ  العمارة الجديدة، تنأى بعيدا عن الاكتراث الزائد لمفهوم "الواجهة الامامية"، وتستعيض عنه بإيلاء اهتمام واضح ومتساوٍ لجميع واجهات المبنى الاخرى. في مبنى المصرف الزراعي، يذهب المعمار بعيداً لجهة تأويل هذا المبدأ، مضفياً عليه أهمية زائدة، تنبع من خصوصية التوجه المكاني لتلك الواجهات، مع تطعيمها بوسائل حماية بيئية. فالواجهة الامامية، الشرقية، تمت صياغة واجهتها من خلال شبكة الأضلع الخرسانية البيضاء الممتدة  عمودياً على طول الواجهة فوق المدخل الرئيس، في حين انجزت الواجهة الجنوبية، التى ترى بصورة جيدة من الميدان المطل عليه مبنى المصرف (ازيل الميدان لاحقا، وامسى مكانه مقتربات جسر الرشيد الحالي)، بصيغة مميزة ومعبرة، من خلال توظيف خلاق لعناصر الحماية البيئية، هي التى كان مسوغ وجودها الاساسي، هنا، التقليل من سلبيات المناخ السائد. بتعبير آخر، يظل المعمار مسكوناً بالطليعي، تائقاً لان يكون مبناه حدثاً تصميمياً يشار اليه بالبنان.
من هنا، يمكن فهم اجتهاد المعمار وتماهيه مع موضوعته التصميمية. مثلما يمكن، ايضاً، إدراك القيمة العالية والمميزة المجترحة في اسلوب معالجات واجهاته، لاسيما في "الواجهة الجنوبية"، التى مثلت، كما اظن، احدى اللحظات الموفقة في منتج عمارة الحداثة المحلية. اظن انها كانت رائدة في مجالها وزمانها. اظن ان المعمار حرص ان تعبر "تشكيلات" هذه الواجهة عن نوعية مقاربته التصميمية بصورة مكثفة ومختزلة. اظن انه اصاب الفلاح في مسعاه ونجح ايما نجاح! اظن، ايضاَ، انه ارسى مفهوما جديدا، وطليعياً، ومبدعاً في معنى العملية التصميمية الحداثية وفي طريقة تمثلاتها! فالمعمار يتعامل مع تنطيق واجهته ورسمها، ليس انطلاقاً من نوعية الفضاءات الموجودة خلف "شاشة" تلك الواجهة، وإنما يتعمد ان تكون القيم الجمالية و"التشكيلية" هما المحددان لذلك التعامل. فالسطح الآجري الواسع الذي يشكل نواة الواجهة وقسمها العلوي الاساسي، محفور "بمربع"، وضعت امامه شبكة من اضلاع خرسانية تتقاطع افقياً وعمودياً، مهمتها القيام  بدور "كاسرات الشمس"  Louvers، تحمي فتحات النوافذ الموجودة خلفها، التى جاءت على شكل "نوافذ شريطية"، يذكرنا استعمالها باحدى اشتراطات مبادئ "العمارة الحديثة" الخمس، التى صاغ، يوما ما، مبادئها المعمار المعروف "لو كوربوزيه" في بدء العشرينات. جدير بالاشارة بان هذا المربع "اللوفري" والموقع على طرف من سطح الواجهة، ماثله "مربع" آخر، موقع بجواره، شغل بقية سطح الواجهة. اي، ان ثمة مربعين اساسيين يتواجدان جنباً الى جنب في تلك الواجهة. اولهما: محفور فيها وزاخر بتأثيرات الضوء والظل الناجمة عن اضلاع كاسرات الشمس، والمربع الآخر الواقع جنبه، والغارق سطحه المستوي الآجري بالضياء. يستثمر المعمار المنظومة التناسبية، ويشغلها لتكون جزءاً من القرارات التصميمية المحددة لتناسبات اقسام الواجهة. فعلى سبيل المثال، يتم من خلال هذه المنظومة تحديد ابعاد "الاطارات" الآجرية المحيطة بمربع اللوفرات، والتى تضفي تناسباتها قيمة جمالية الى الواجهة. علينا ان لا ننسى، مسعى المعمار في هذا الاتجاه ايضاً، عندما يرفع من اهمية دور البلاطات المربعة الخرسانية المثقبة، الناتئة، والحامية لفتحات النوافذ الثلاث، الظاهرة على سطح الواجهة، وجعلها تشتغل كـ "بقع" بصرية لافتة وجاذبة، تسهم في زيادة تاثيرات المنظومة الجمالية التى اجتهد المعمار في ابتداعها.
لقد ارتقت الاساليب المعتمدة في صياغة واجهات المبنى (خصوصا الواجهة الجنوبية)، مع  عمل المنظومة الجمالية المنبثقة عن تلك الاساليب، بالاضافة الى توظيف مفعول "لعبة" الضوء والظل الناجمة عن اضلاع كاسرات الشمس، درجة عالية من الحذاقة المهنية، والكفاءة التصميمية، يدهشنا كيف استطاع "عبد الله": المعمار الشاب، امتلاك مثل تلك الجدارة المعمارية بتلك السرعة المذهلة؟ كما لا يفوتنا التنويه، بجهد المعمار جعفر علاوي، وحسه العالي بانتقاء التفاصيل البارعة وعمله المتقن في "إخراج" المبنى بتلك الصيغة الماهرة من التنفيذ، التى ساهمت في ترسيخ عمارة المبنى في البيئة المبنية المحلية.  كما تنبغي الاشارة، بان فتحات النوافذ الثلاث الآخرى (العارية)، المجاورة لتلك النوافذ "المحمية"، لم تكن جزءأ من التصميم الاصلي، وانما هي من "اختراع" لاحق، اساءت الى عمارة المبنى بصورة تعسفية وظالمة، شأنها شأن "اسلاك التبريد" الممتدة على طول الواجهة بشكل مبتذل، والتى لم تراعٍ حرمة المبنى وأهميته الاستثنائية في تاريخ عمارة العراق وفي تاريخ ثقافته، لكنها استطاعت، بوضوح، ان تبين النوعية "الشعبوية" لذهنية شاغليه. واذ تحدثنا في هذا الجانب، فبمقدورنا القول بان المبنى لم "يعرف" (ولا يتذكر!)، طيلة حياته الانشائية، نوعا من محاولات الترميم والصيانة له، تتساوق مع دوره وأهميته في الخطاب المعماري المحلي، كواحد من اجمل ما انتجته عمارة الحداثة العراقية في بدء ظهور وتأسيس نماذج مرحلتها الثانية.
ولد عبد الله إحسان كامل في بغداد عام 1919. انهى دراسته المعمارية عام 1943 من مدرسة العمارة في ليفربول بالمملكة المتحدة، كما حصل على شهادة الماجستير من هارفرد بامريكا (1952). اسس، مع محمد مكية وآخرين، قسم العمارة في كلية الهندسة بجامعة بغداد عام 1959، بعد ان كان، قبلها، مدرسا في كلية الهندسة لسنين عديدة (منذ عام 1944). وشغل منصب مديرمركز التخطيطي الحضري والاقليمي (1968-72)، كما اسس مع رفعة الجادرجي وإحسان شيرزاد مكتب "الاستشاري العراقي" في 1953، لكنه تركه عام 1965. تعد غالبية المشاريع التى صممها عبد الله، بمثابة نماذج مميزة لعمارة الحداثة البغدادية (والعراقية بصورة عامة)، مثل: محطة قطار بعقوبة (بالاشتراك مع فيليب هيرست) <1945>، وبيوت السكك في الشالجية (1945)، ومبنى مصرف الرافدين بالبصرة <1948>، وقد ساهم مع شركة المانية في تصميم وتنفيذ مبنى الدفتردار ببغداد (1953)، وصمم مبنى "ادفيش عبود" بالشورجة ببغداد (بالاشتراك مع رفعة الجادرجي) <1955>، ومبنى خان الباشا الصغير في شارع السموأل وعمارة منير عباس في الباب الشرقي ببغداد (بالاشتراك مع رفعة الجادرجي)، <1956>، ومبنى مصرف الرهون عند شارع الجمهورية ببغداد "الذي شغلته سابقا وزارة المالية" (بالاشتراك مع قحطان المدفعي (1957). كما انه خطط مدينة المأمون في بغداد (1957)، وله ايضا يعود تخطيط مدينة آزادي في اربيل؛ وغيرها من المشاريع العمرانية والمعمارية المميزة. توفي في بغداد سنة 1985.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top