الحداثة وما بعد الحداثة مفهومان ظهرا في الغرب نتيجة للتطور الحاصل في مجتمعاته بكافة المفاصل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادبية والفنية والاخلاقية والنفسية ، انهما ثورتان صنعهما الانسان حين طوّر وسائل الانتاج منذ الثورة الصناعية في القرن الراب
الحداثة وما بعد الحداثة مفهومان ظهرا في الغرب نتيجة للتطور الحاصل في مجتمعاته بكافة المفاصل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادبية والفنية والاخلاقية والنفسية ، انهما ثورتان صنعهما الانسان حين طوّر وسائل الانتاج منذ الثورة الصناعية في القرن الرابع عشر وحتى الثورة العلمية التكنولوجية التي نعيش في كنفها لحد الآن.. لقد هشم الانسان كل انماط حياته القديمة وابتكر اساليب عيش، ذاتية وموضوعية ،تنسجم مع واقعه الجديد..
لقد كانت حركة التغيير هائلة بحيث ان مفهوما واحدا لم يعد قادرا على استيعابها فمن الحداثة انتقلت المجتمعات الى مابعد الحداثة ومنها الى مفاهيم اخرى مازال بعض ملامحها لم يكتمل بعد وهذه كلها مراحل تاريخية اشرت على قدرة الانسان على صنع المستحيل وان وجوده في الحياة لم يكن عبثا بل من اجل تغيير واقعه على الدوام..في الحداثة وما بعدها لم تتطور العلوم لوحدها بل ارتقت الانساق الحياتية كلها من انماط تفكير الى مراجعة كل المعتقدات الدينية والثوابت الاصولية الى نمو بذرة الشك واهتزاز اليقين ورجحت كفة النسبية على المطلق وتصاعد نبرة التأويل امام جمود الحقائق، كما تلوّنت الذائقة البشرية وتعاظمت المشاعر الانسانية من حب وكراهية وتضخم الخيال الانساني بحيث اقترب من الفنتازيا واللامعقول وقد انسحبت هذه الامور على شكل عيش الانسان فلم تعد المدن القديمة بتصاميمها وابنيتها ومعمارها قادرة على استيعاب جنون الانسان وسعة احلامه فانشأت المدن الحديثة بصرعاتها المعمارية وخطوطها وفضاءاتها المستلة من اخر اكتشافات العلوم وشطحات الخيال وتسابقت مدن العالم بان يكون لكل مدينة بصمة خاصة تميزها عن المدن الاخرى تتماشى مع روح العصر الجديد بحداثته وما بعدها دون اغفال للتاريخ او الحاضر المحتدم او المستقبل الممسكين بقوة بخيوطه.. من يفارق أي بلد في اية قارة سيجد عند زيارته بعد سنين معدودات ان هناك تطورا هائلا قد حصل في هذا البلد سواء في تصميم الابنية الحديثة والفضاءات الجمالية والتي تؤرخ شكل الحداثة في المجتمع ونمط العيش الاجتماعي الى السلوك والذائقة وحتى طبيعة الافكار المتداولة وهذا كله يُحدد بطبيعة الانظمة السياسية في تلك البلدان والقائمة على المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدستورية وحيث الانسان وكرامته قيمة عليا في المجتمع.. والسؤال هنا اين يقف العراق من الحداثة وما بعدها وهل يمكن استنساخهما علما بان البلد لا يمتلك الركائز التي تقومان عليها..؟
والجواب هنا ان الواقع العراقي بكل تجلياته بعيد كل البعد عن الحياة الحديثة ، صحيح ان العراق يمتلك الطاقات البشرية والمادية التي بامكانهما ان تحدثان نقلة نوعية في الحياة العراقية لكن المشكلة الرئيسية هي في طبيعة الانظمة السياسية التي حكمت البلد منذ عقود ..
لقد عانى العراق في مرحلة النظام السابق من تهديم لكل البنى الاقتصادية والاجتماعية من جراء الحروب ومن سياسة النظام الدكتاتوري الاحمق فلم يخلف هذا النظام بعد سقوطه عام 2003 سواء الخراب والدمار فكان العراق في ذلك الزمن مثالا للتخلف والجهل والظلام وما بني منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 اقتصاديا وعمرانيا وثقافيا وحضاريا وابداعيا قد تم انهاؤه بالكامل خلال فترة النظام الدكتاتوري والذي استمر في الحكم خمسة وثلاثين عاما..من يراقب الحياة العراقية بعد التغيير في 2003 ولغاية الآن أي بعد مضي قرابة العشر سنوات سيجد بان هذه الحياة لم تقترب من الحداثة ولا بسنتمر واحد، اما ما بعد الحداثة فانه يبتعد عنها بسنين ضوئية ،ورغم التحسن في الوضع الاقتصادي للعراقيين وحصول قفزات من ناحية المأكل والملبس وتطوير للسكن إلا ان هذه لم ترفع من مستوى ذائقته ولم تنضج مشاعره الى حد يصل بان يرفض القبح وكل الظواهر الشاذة في المجتمع ولم يرتق نمط تفكيره بحيث لا يستقبل الاوهام والخرافات والشعوذة والتي غزت كل زاوية ومفصل في الحياة العراقية.. لم ترمم البنى المخربة ولم تصمم المدن والقصبات العراقية من جديد لتواكب الموضة العالمية وحتى ان حصل اعمار هنا او هناك فانه يأتي في اكثر الاحيان انفعاليا وبدون تخطيط بحيث يربك الواقع ويشوشه فيصبح القديم وذكراه اكثرا اشراقا من الجديد الهجين ولم يعمد القائمون على الحياة السياسية على اقامة المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية الرصينة وكل ما عمدت اليه الكتل السياسية الجديدة اشاعة المحاصصة والتوافقات والتوازنات في بناء الدولة فكان المنطق اللاعقلي في التفكير هو السائد واسقط العلم ومناهجه من حسابات الدرس كونهما يتعارضان في احيان كثيرة مع الثوابت الفقهية ومع ما تكلس في الوجدان والاحاسيس من صور دينية وطقوس وقناعات وبقي الواقع فارغا إلا من ثقافة الاموات ومن خزعبلات تثير القرف والاشمئزاز وهذا ما مهد على دخول داعش المجرمة واحتلالها للمدن وتدميرها لماضي وحاضر البلد ..نحتاج كي ندخل في دائرة الحداثة الى مراجعة النظام السياسي الهش منذ عام 2003 ان كان هناك نظام والتوجه نحو بناء الدولة المدنية بشروطها الذاتية والموضوعية وتفعيل البنى الصناعية والزراعية واشاعة البحث العلمي والى اشواط طويلة من التربية الوطنية ومن حب العمل وبناء الذات الانسانية كي نستطيع الاقتراب من جديد من الدائرة الانسانية واعادة صياغة المجتمع وفق المقاييس الحضارية..العراقيون هم من ابتكر المعرفة والحداثة للعالم قبل سبعة الاف عام وهم قادرون على الامساك بزمام المبادرة كما حصل في منتصف القرن الماضي حين تحدثت علومه وادابه وفنونه واساليب عيشه وكل ما يحتاجونه اليوم ان يحكّموا عقولهم فيما جرى ويجري امامهم من ارهاب دموي مهازل سياسية وسرقة للمال العام وضحك على الذقون ورهان جماعي من كل الكتل السياسية التي حكمت العراق على تخريب هذا البلد..