إصلاح الدولة العراقية | (1) |

آراء وأفكار 2017/07/30 12:01:00 ص

إصلاح الدولة العراقية |  (1)  |

فرصة العراق الذهبية .. الأخيرة
اهتمّ عدد من الكتّاب في الصحف العربية الاجنبية مؤخراً بموضوع حظوظ رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي في انتخابات العام المقبل بعد تحرير الموصل. حيث ركزت سردياتها على تشكيلة التوافقات السياسية الضامنة لتجديد ولاية ثانية للعبادي بهدف اسعافه في تحقيق حزمة اصلاحات كان قد قدّمها عام ٢٠١٥ ، وعطلتها الفئات السياسية رغم "القبول" بها بالتصويت الصوري في مجلس النواب.
لن أتحدث عن حجم التحديات التي ستواجه العبادي في انتخابات عام ٢٠١٨ أو من سيكون القائد العام للقوات المسلحة المقبل، حيث غالباً ما تفاجئُنا أحداث الدولة العراقية بمرشح تسوية، ابتداءً منذ "الاتفاق" على شخص الملك فيصل الاول وليس انتهاءً برئاسة العبادي لمجلس الوزراء عام ٢٠١٤ يوم قُلِبَت الطاولة على المتقدمين في الخط الاول.
ما سأتطرق اليه في هذا المقال، وهو باكورة لسلسلة حلقات تسلط الضوء على اصلاح الدولة العراقية، سيكون حول الفرصة الذهبية "الاخيرة" لعراق إتحادي ديمقراطي ومزدهر، بغضّ النظر عن من سيتسنم منصب رئيس مجلس الوزراء القادم. على الشعب العراقي أن يعي بأن صاحب هذا المنصب التكليفي عبارة عن موظف عمومي، واجبه الاجتهاد في العمل دون فضل أو منّةٍ، ومصيره المحاسبة إذا أخلّ في عمله. أما مكافأته فهو الراتب الشهري الذي يتقاضاه بمستوى لا يزيد عن مرتب أستاذ جامعي أو أكثر بقليل. هذا هو المتعارف عليه عالمياً وأخلاقياً. وإذا ما تسنم المنصب التكليفي، عليه بعمل إصلاحات حقيقية وجريئة من خلال اعتماد فريق قيادي مهني متجانس، ستكون هي الضمانة الوحيدة لعراق مزدهر، وفي حال عدم استطاعته انجاز اي اصلاحات (لسبب أو ما) عليه الاستقالة وان يفسح المجال للأفضل ويفضح الجهات المعرقلة دون ان يبقى شاهد زور لعملية سياسية فاشلة. اما الحديث عن "من سيربح المليون" في السباق الى كرسي رئاسة الحكومة لانتخابات ٢٠١٨ فمسألة مؤسفة جداً ومثيرة للشفقة، لأن جميع معادلات السياسة العراقية ستؤدي الى نفس التركيبة الفاشلة التي عهدناها منذ عام ٢٠٠٣ والتي اسست لعملية تخدير قادت وتقود الى انهيار ما تبقى من الدولة العراقية الحديثة. لكن يبقى الخيار للشعب في إحداث التغيير الجذري اذا ما قرر الخروج بزخم تعبوي وعمل مدروس، مطالباً بدولة عراقية مزدهرة.
لا أوجه النقد الى جميع من شارك في العملية السياسية كما لا أنفي مواطن التقدم المحدودة نسبة لمئات مليارات الدولارات التي صُرِفت منذ عام ٢٠٠٣، فلو خليت قلبت، وقد انخرطت في العمل أسماء لامعة، وما زالت بعض الشخصيات المهمة في التركيبة الحكومية وخارجها (دون ذكر للاسماء والمراتب) مضحية بكل ما تملك، لكن يبقى عدد هذه الشخصيات محدودا جداً وهي مغلوبة على أمرها بسبب تسلط النظام العام وآلية صناعة القرار الصادرة من تركيبة المحاصصة السياسية. لذا، لا نجد أثراً ملموساً يستحق الاشادة اذا ما أردنا الحديث عن اصلاح الدولة العراقية، بسبب تضامنية القرار السياسي الحاكم.
صحيح ان عمليات تحرير العراق من براثن الارهاب تكللت بالنجاح، وما زالت مستمرة، وهذا يعود لفتوى المرجعية الرشيدة التي نظمت المجاميع المسلحة الرئيسية تحت سيادة الدولة ومؤسساتها ليكون الحشد الشعبي نواةً لعقيدة عسكرية افتقدتها القوات المسلحة منذ حل تشكيلاتها عام ٢٠٠٣ بقرار رئيس سلطة التحالف بول بريمر واعادة تأسيسها على قاعدة المحاصصة العرقية والطائفية سيئة الصيت. لكن الوضع الراهن غير مشجع بتاتاً، فغياب التشريعات الادارية الاتحادية ركزت السلطة بيد الفاسدين وزادت الادارة سوءاً، ومديونية الحكومة تجاوزت ١٠٠ مليار دولار وهي في تصاعد، والاحتياطي هبط الى ٣٥ مليار دولار وهو في تناقص، و قيمة العملة متدهورة، والمِلاك العام غير منتج ورواتب البطالة المُقَنّعة ما زالت تحلب موازنة الدولة لتزيد العجز عجزاً يصل الى ٣٠٪‏. اما اسعار النفط، فهي في تراجع وتذبذب مقلق وبعيدة كل البعد عن الارتفاعات التي شهدتها سني الحكومات السابقة، لأن اساسيات السوق قد أخَلَّت بموازين العرض والطلب، علماً ان سياسات الطاقة المُتَبَعة في البلاد كانت متعثرة مما عَطّل الصناعة والزراعة والتجارة في تنويع مصادر الدخل الوطني ورسخ أحادية الدخل للدولة الريعية أكثر من قبل. هذا فضلاً عن تحديات انعدام الخدمات والتهديدات الأمنية التي بات مصدرها بعض العشائر غير المنضبطة والجرائم المنظمة والمجاميع المسلحة التي تسرح وتمرح خارج إطار الدولة، بالاضافة الى انهيار المستوى التعليمي والصحي في البلد (الصحة والتعليم من اساسيات نهضة المجتمعات). كل هذا يحتاج الى حلول ذكية وجذرية وإصلاحات أحلاها مُر.
لقد اصبح مثل العراق كمثل جريح يصارع الموت حيث كل دقيقة من عمره محسوبة، ولا منقذ له إلا أن يقتحم صالة العمليات افضل فريق طبي في العالم (بالسرعة الممكنة) متكون من أمهر الجراحين لإنقاذه قبل فوات الاوان. لكن ما شهدناه هو ان فريقاً غير متمرس بالمهارة، بل لا يعرف في ابجديات المهنة ولا يملك اي تأريخ مهني، قد تقمص دور أمهر الجراحين والخبراء زوراً، بارتدائهم بدلات طبية جاء بها ذوو دماء الشهداء عن جهل الى صالة العمليات (تشريفاً وليس تكليفاً) لإدعائهم المعرفة في كل شيء، مستنزفين أوقاتاً ذهبية وآلات نفيسة، حيث تناول كل واحد منهم طرفاً من أطراف الجريح المسجى، يقطّعونه بالمُدي دون رحمة ومعرفة بالعواقب، ويستأنسون بآلامه كما تستأنس الاطفال باللُعَب وقد استخدموه حقل تجارب دون اي رادع أو مسؤولية، والآن نفد الوقت ولم يتبق إلا ساعات قليلة على حياة هذا الجريح المظلوم ليواجه الموت المحتم. حينها، سيهرب فريق القتلة بعد ان يتركوه صريعاً مقطع الاوصال وجثة هامدة، سارقين معهم كلفة العملية الجراحية الفاشلة من العائلة المفجوعة بصريعهم، وخبرة شيطانية يقايضونها بتجارة رخيصة بعيداً عن جحيم العراق، لهم ولأبنائهم.
لا أدعو (الآن) الى تجريم هذا الفريق الجاهل والأمّي الذي تقمّص دور الجراح الماهر حين تَنَكّر واخفى هويته الحقيقية ببدلة داكنة وربطة عنق انيقة أو زي ديني، فهذا من المستحيلات تحقيقه في الوقت الراهن لأسباب معروفة، وان كانت هي أُمنيَة ملايين العراقيين، لكنني ادعو ما تبقى من العقلاء في "مستشفى العراق العام" الى ان يطردوا فريق الدجالين وان يتعاملوا مع بلدهم بمسؤولية ويتعلموا من أخطاء الماضي ويجتهدوا باختيار أمهر الكفاءات لإنقاذ البلاد والعباد، وإلا، بعد سنين معدودة، لن يكون الحديث عمّن سيكون رئيس مجلس الوزراء في "انتخابات" عام ٢٠٢٢، بل اين هربت الرئاسات ومستشاروها وجيوش المتملقين لها التي شاركت في وأد العراق والتسبب بانهياره سياسياً وامنياً واقتصادياً واجتماعياً.
العالم مُقدِم على تحديات اقتصادية وتكنولوجية ستغير الخارطة الجيوسياسية والامنية للكثير من البلدان والمجتمعات، سلباً أو إيجاباً، وأول المتأثرين (سلباً) بهذه التغيرات هي البلدان الريعية التي تفتقد الى الحد الادنى من الحياة الكريمة لشعوبها - العراق مثالاً.لا أقول هذا من باب التهويل والتشاؤم، بل كلي أمل وتفاؤل بأن الشعب العراقي وكفاءاته الحقيقية أعقل من أن تستهويهم شعارات ووعود كاذبة لثلة من الدجالين يَدّعون كذباً معرفة الله وبناء الاوطان.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top