ستراتيجية الطاقة في رؤية العراق 2030
تناولت في الحلقة السابقة أولويات وأساسيات الاصلاح المؤسساتي في قطاع الطاقة، وفي هذه الحلقة سيكون الحديث عن ستراتيجية الطاقة المتكاملة في رؤية العراق ٢٠٣٠ كون العراق دولة ريعية يعتمد على صادرات النفط الخام بشكل رئيس لتوفير أكثر من ٩٥٪ من سيولة الموازنة الاتحادية.
تسابقت حكومات الشرق الاوسط وشمالي افريقيا في وضع رؤيتها لعام ٢٠٣٠ بهدف تنمية إقتصاديات بلدانها وتنويع مصادر دخلها القومي. لعل أبرز هذه الرؤى هي ما نشرته الدول المنتجة للنفط والغاز لأهمية وارداتها البترولية وأثرها في رفد الموازنات العامة، حيث ما زال إقتصاد أغلب هذه البلدان ريعياً يعتمد على البترودولار في مدخولاتها وتتحكم بمستقبلها أسواق العرض والطلب العالمي في ظل تنامي مصادر الطاقة المتعددة حيث المنافسة بين المنتجين التقليديين وغيرهم.
في بداية العام ٢٠١٧، بادرت الحكومة العراقية بعقد سلسلة من الاجتماعات مع البنك الدولي لمناقشة الخطوط العامة في "رؤية العراق ٢٠٣٠" على أمل انجاز هذه الرؤية في خريف هذه السنة. حسب التصريحات الرسمية، تهدف الرؤية إلى تحويل اقتصاد العراق من انفاقي يعتمد كلياً على واردات النفط إلى انتاجي يدعم الموازنة المالية بنسبة كبيرة جداً من خلال دور فاعل للقطاع الخاص في جميع المجالات يُسهم في مكونات الناتج المحلي الاجمالي لترتفع من معدلاتها التي تبلغ حالياً بنحو 37٪ لتصبح في العام 2030 نحو 54-57٪. كما تهدف الرؤية الى تحقيق الاكتفاء الذاتي في القطاعين الزراعي والصناعي واعتماد اقتصاد السوق في التنمية. لكن انجاز هذه الاهداف مشروط بإصلاح جذري للنظام الضريبي وتشريع القوانين الخاصة وتهيئة الارضية الجاذبة للإستثمار واستقطاب رؤوس الأموال الاجنبية والمحلية دون هجرتها، لتنمية قطاع الطاقة بكل مفاصلة بعد وضع ستراتيجية وطنية تلتزم بها الحكومات المتعاقبة.
بعد إطلاق جولات تراخيص النفط والغاز (٢٠٠٩ - ٢٠١٢) بهدف الوصول الى انتاج نفطي يتجاوز ١٢ مليون برميل يومياً في العام ٢٠١٧، وإنهاء حرق الغاز المصاحب في العام ٢٠١٥ لاستثماره في انتاج الطاقة الكهربائية ورفد الصناعات المحلية وصولاً الى الاكتفاء الذاتي، وهي اهداف طموحة لم تر النور بسبب غياب الدور المهني آنذاك والتفرد بصناعة القرار، قامت حينها هيئة المستشارين في رئاسة مجلس الوزراء بالتعاون مع البنك الدولي لوضع دراسة ورؤية بعنوان "الستراتيجية الوطنية للطاقة في العراق"، وبسبب تضارب الرؤى بين الوزارات المعنية، خصوصاً النفط والكهرباء والصناعة من جهة، و هيئة المستشارين والبنك الدولي من جهة أخرى، تقرر وضع ثلاثة سيناريوهات تواكب مسيرة التطوير في قطاعات البترول والكهرباء والصناعة بين الاعوام ٢٠١٢ - ٢٠٣٠. لكن المحاصصة السياسية التي كانت تحكم وزارات قطاع الطاقة أعاقت تنفيذ الستراتيجية وحَجّم دور الاستشاريين. كل هذا قاد الى تعثر جولات التراخيص التي وصلت الى ثلث أهدافها المنشودة والمتعاقد عليها في انتاج النفط بعد مراجعة العقود ومضاعفة الكلف التشغيلية للمشاريع النفطية التي تجاوزت سبعين مليار دولار مع استمرار حرق الغاز الذي وصلت كميات هدره الى الضِعف (أي ما يساوي امدادات الطاقة لأكثر من أربعة ملايين منزل) في ظل تفاقم أزمة الكهرباء التي أجبرت الحكومة العراقية على التعاقد مع إيران لإستيراد الغاز فضلاً عن استيراد الكهرباء من المحطات التركية العائمة. كل ذلك أثقل الموازنة الاتحادية بفاتورة سنوية بمليارات الدولارات مع استمرار استيراد المشتقات النفطية المُكلفة وتراجع الطاقة التكريرية للنفط الخام.
لذا، نجد لزاماً على الجهات المعنية وضع رؤية واقعية لعراق ٢٠٣٠، خصوصاً في أبواب ملف الطاقة الذي بنجاحه تنجح الرؤية وبفشله تنعدم الرؤية ويتهدد مستقبل الاجيال. كما يجب ان تكون الرؤية مقترنة بخطوات اصلاحية جريئة وحلول قد يكون أحلاها مُر والاخذ بنظر الاعتبار عوامل النمو السكاني في العراق والذي سيتجاوز الـ ٥٥ مليون نسمة في العام ٢٠٣٠ ومعالجة آفة البطالة التي وصلت الى ٦٠٪ بين أوساط الشباب التي لا يُمكن حلها بتوفير الوظائف الحكومية إلا بتنمية القطاع الخاص وجذب الاستثمارات.
فيما يلي بعض الحلول المقترحة لتطوير استراتيجية الطاقة على نحو الايجاز:
أولاً: تحديث ستراتيجية الطاقة المتكاملة التي أطلقتها هيئة المستشارين بالتعاون مع البنك الدولي عام ٢٠١٢، مع الأخذ بالعوامل والمتغيرات التي قادت الى تغيير جذري في اساسيات اسواق الطاقة والعرض والطلب، خصوصاً بعد تنامي انتاج النفط والغاز غير التقليدي في الولايات المتحدة والتطور التكنولوجي في مجالات الطاقة المتجددة، آخذين بعين الاعتبار الخطط الانتاجية والرؤى الستراتيجية لبقية المنتجين من داخل وخارج منظمة أوبك في التعامل مع حصص الاسواق والتوسع الاستثماري داخل وخارج بلدانهم في مجال تسويق النفط الخام والمشتقات البترولية.
ثانياً: يمتلك العراق إحتياطيات نفطية هائلة ترفد الانتاج لمئة عام بمستويات الانتاج الحالية وقد تصل الى ٣٠٠ عام، لكن ما يهمنا هو العقود الثلاثة القادمة قبل ان يتضاءل الطلب على النفط الخام بسبب تعدد مصادر الطاقة التي ساعد في ظهورها التقدم التكنولوجي وانخفاض الكُلف الاستثمارية. لذا، من مصلحة العراق تشجيع زيادة الطلب على النفط للحد من دخول مراكز الانتاج الاكثر كلفة وكذلك منافسة مصادر الطاقة المتجددة وتأخير عملية انتقال المستهلك الى المصادر غير النفطية، ولذلك يحتاج العراق إلى تبني سياسة الاسراع في زيادة الإنتاج ورسم خطة تسويقية تعتمد تعدد مسارات التصدير وعمل شراكات ستراتيجية مع الدول الاسيوية خصوصاً الصين، مبنية على تبادل المصالح واستثمارات عملاقة في انشاء شراكة مع المصافي العالمية والتوزيع والخزن.
ثالثاً: إطلاق حملة استكشافات واسعة بدعوة شركات أجنبية رصينة للعمل مع شركة الاستكشافات العراقية لإعداد البيانات اللازمة لجولات التراخيص. كما يجب الشروع بإطلاق بجولات تراخيص لتطوير كافة الحقول المكتشفة من خلال شراكة ستراتيجية بين شركات النفط الوطنية والشركات العالمية بشرط ان يُخصص ٥٠٪ من واردات الانتاج النفطي من الحقول الجديدة لتمويل مشاريع صناعية عملاقة وانشاء مدن للطاقة خصوصاً في البصرة على غرار مدينة جبيل الصناعية في السعودية، أما الـ ٥٠٪ المتبقية من واردات نفظ الحقول الجديدة فتُخَصَص لتمويل صندوق الثروة السيادية وإدارته من قبل هيئة محترفة في مجال الاستثمار العالمي.
رابعاً: مراجعة قوانين الاستثمار في مجال التصفية وعدم ادراج اي نسب تجارية في نصوصها تحد من حرية الحكومة خلال التفاوض مع المستثمرين، مع إعتماد مواد قانونية تتوافق مع دور الاسواق العالمية لجذب الاستثمارات العملاقة وجعل العراق منافساً في مجال الصناعات التحويلية. كما يجب تسعير النفط الخام عند بئر الانتاج بالسعر العالمي لكل المستهلكين مع خصم مجزٍ للمستثمر المحلي لا يتجاوز ٢٠٪ لتشجيع الاستثمارات والصناعة داخل العراق، ودعم المشتقات بكوبونات مدعومة من الموازنة العامة للعوائل ذات الدخل المحدود والمسجلة بدائرة الضمان الاجتماعي وكذلك لمؤسسات القوات المسلحة والنقل العام.
خامساً: وضع خطة سريعة بالتعاون مع الشركات العالمية للقضاء على حرق الغاز المصاحب خلال مدة لا تتجاوز ٢٤ شهراً، لتجميع الغاز واستخدامه كوقود لمحطات الكهرباء، الأمر الذي سيوقف استخدام النفط الخام والمشتقات للمحطات وتوفير وقود كان يُكلف ميزانية الدولة مليارات الدولارات.سادساً: إلغاء التخصيصات الاستثمارية والتشغيلية لوزارة الكهرباء ليكون تمويلها ذاتياً مع خصخصة ٥٠٪ من الطاقة الكهربائية وتحويلها للإستثمار. كما يجب فصل الهيئات الادارية لقطاع الكهرباء وجعلها جهة مشرفة ومخطِطة ومنظِمة للكهرباء في عموم البلاد تحت ادارة وزارة الطاقة الاتحادية دون أن تكون منفذة لأي من النشاطات التنفيذية كـ الانتاج والنقل والتوزيع والجباية ليتم إناطة هذه المهام التنفيذية الى الحكومات المحلية من خلال شركات خاصة أو عامة أو مختلطة.سابعاً: وضع أهداف تخدم النمو السكاني للعراق وسد الطلب المحلي ومنافسة الدول الاقليمية في الاسواق العالمية في العام ٢٠٣٠، وهذه تحتاج الى تطوير الانتاج البترولي ليصل الى ١٠ مليون برميل نفط يومياً وانتاج ١٠ مليار قدم مكعب من الغاز يومياً، ورفع الطاقة الكهربائية الى ٥٠ غيغا واط، مع تطوير الطاقة التكريرية الى مليوني برميل يومياً بكفاءة عالية. أما في البتروكيماويات فيجب ان لا تقل الطاقة الانتاجية عن مليوني طن في السنة للمنافسة في الاسواق العالمية.
ثامناً: فتح باب الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة ودعم مشاريعها لرفد شبكات الطاقة الكهربائية بـ ٥٠٪ من حاجتها مع اعتماد اللقيم الغازي لسد الطلب المتبقي دون اعتماد النفط أو الديزل في الطاقة الكهربائية.
* أكاديمي وزميل في جامعة كولومبيا، نيويورك
اترك تعليقك