اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > قضية للمناقشة:تكميم العقول

قضية للمناقشة:تكميم العقول

نشر في: 11 أكتوبر, 2017: 12:01 ص

تتوالى الإجراءات السلطوية التي تقيد الحريات العامة بدعوى الحفاظ على الاستقرار ، وبناء الدولة التي وٌصفت بأنها شبه دولة يهددها الإرهاب الأسود، ويتم ذلك كله بقبضة أمنية أشد . تصادر اللائحة الطلابية الجديدة على الحق في العمل السياسي داخل الجامعات، وكأنه

تتوالى الإجراءات السلطوية التي تقيد الحريات العامة بدعوى الحفاظ على الاستقرار ، وبناء الدولة التي وٌصفت بأنها شبه دولة يهددها الإرهاب الأسود، ويتم ذلك كله بقبضة أمنية أشد .
تصادر اللائحة الطلابية الجديدة على الحق في العمل السياسي داخل الجامعات، وكأنها تدفع الطلاب دفعاً للعمل السري إذا كانت اهتماماتهم السياسية جدية، أو إلى أحضان الجماعات الدينية التي استثمرت الفراغ السياسي والغضب العارم في أوساط الجماهير العريضة بسبب ضيق العيش والارتفاع الجنوني المتواصل في الأسعار، وأخذت هذه الجماعات تستعيد بالتدريج بعضاً من النفوذ الذي كانت قد فقدته بعد الموجة الثانية من ثورة الشعب المصري في 30 حزيران 2013، وافتضاح طبيعة الحكم الديني بدءاً بالانعدام شبه التام للكفاءة، ووصولاً إلى تقنين الاستبداد الصريح بإصدار الإعلان الدستوري الذي أصبح كالقشة التي كسرت ظهر البعير كما يقال، وكان الشباب طلاباً وعمالاً وموظفين هم الدينامو المحرك لهذه الموجة من الثورة كما الموجة التي سبقتها وأطاحت "بمبارك" وحاشيته .
ويتصور الذين يشددون من القبضة الأمنية باعتبارها الحل الأمثل للوضع المأزوم، أن تبديد طاقة القطاع المدلل من الشباب بتقريبهم من السلطة ورعاية الرئيس  "السيسي" لهم سوف يمتد ليشمل كل الشباب الآخرين الذين لم يدخلوا في الحسابات الحكومية وبينهم الطلاب وشباب العمال والفلاحون والعاطلون والعاملون العاجزون عن الزواج والمتشوقون للهجرة .
لمحاولات تفريغ طاقات الشباب بعيداً عن الاهتمام بالسياسة وبمستقبل وطنهم تاريخ طويل عرفت البلاد مرارته حين ذاقت من ويلات الجماعات الجهادية الأمرين، وتحولت الجامعات والمعاهد العليا إلى معامل لتفريخ أجيال جديدة من الشبان والطلاب بخاصة الذين خاصموا المجتمع وحملوا السلاح لا ضد العدو الصهيوني، وإنما ضد سلطات البلاد، وضد مثقفيها بدعوى الدفاع عن الدين وحقق هؤلاء ومن دربوهم استفادة قصوى أيضاً من المناخ العالمي الذي حققت فيه السياسات الليبرالية الجديدة انتصارات مهمة ضد قوى التحرر والتقدم .
وكان ذلك على العكس تماماً من وضع الجامعات حين توفر لطلابها الحد الأدنى من الحريات، فأخذت تموج بالنشاط السياسي والثقافي حين تأسست الجامعات الطلابية على أساس من الأفكار وثقافة التحرر التي كان يموج بها العالم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومن معطف هذه الحركة العارمة خرجت مدارس ثقافية ونضج شعراء وملأوا الفضاء العام إبداعاً، وتطورت حركة شعر العامية باحتضان الجماهير لها .
بل إن هذه الحركات كانت هي نفسها رافداً مهماً لتجربة التعددية الحزبية الجديدة في مصر عام 1976.
وما يحدث الآن في الساحتين الثقافية والسياسية من إفقار ومن نفوذ لأفكار اليمين الدينى هو أحد النتائج المباشرة لتجريف الحياة العامة وخنقها بفعل فاعل باسم مكافحة الإرهاب مع تحويل الحبس الاحتياطي على عقوبة مسبقة لتهمة لم تثبت، وضرب عرض الحائط بالنصوص الدستورية .
وتتواصل عمليات الخنق المتعمد على عدة جبهات، فيلاحق الأمن منظمات المجتمع المدني، ويأخذ العاطل بالباطل، ويضيف إلى ترسانة القوانين المقيدة للحريات قوانين جديدة ومن ضمنها قانون الجمعيات الذي هو الأسوأ منذ بدء إصدار القوانين المنظمة للعمل الأهلي، والمجتمع المدني في بداية القرن العشرين .
واتساقاً مع حملة تكميم العقول، قامت السلطات بإغلاق مكتبات أسسها ناشطون في ميدان العمل الأهلي وكان آخرها مكتبة "البلد" وكانت السلطات قد انزعجت من الإقبال على خدمات هذه المكتبات، ولسان حالها يقول :
كيف يفكرون ويحلمون بعيداً عن مراقبتنا ؟
أما السبب المعلن لإغلاق هذه المكتبات، فهو إنها غير مرخصة وهو سبب لا يقنع أحداً لأنه كان بوسع السلطات بدلاً من إطلاق حملتها ضد المكتبات وإغلاقها أن تمنحها التراخيص الضرورية بدلاً من أن تتطوع لا فحسب بمعاداة منشئيها بل أيضاً بمخاصمة الجمهور الذي كان يستفيد من خدماتها، وهو جمهور شاب وغاضب، فتؤجج الممارسات الحكومية غضبه وتزيد من إحباطه، وتمهد الأرض لنشاط جديد للإرهابيين، وتدور البلاد في دائرة مغلقة تختنق فيها المواهب وتتبدد الإمكانات، وتتسع الثقة بين الحكم و ملايين المصريين الذين شاركوا ببسالة في أعمال الموجات الثورية المتعاقبة ثم أصبحوا شهوداً على إجهاض نتائجها .
وتعلمنا التجارب المشابهة على الصعيد العالمي أن النتيجة المنطقية والمؤكدة لإغلاق المجال العام، والمراقبة الأمنية للإعلام ومحاصرة الشباب وتكميم العقول هي انفجار ما تشجع عليه التغيرات الاجتماعية، والاقتصادية العنيفة والتي أدت إلى المزيد من الفقر، يضاف إليه الإفقار الثقافي الذي يدفع في اتجاه سيادة الصوت الواحد الدعائي، وإحلال الأناشيد بديلا عن الأفكار، ومبدأ الطاعة بديلاً عن الجدل والحوار وتعدد الأصوات، وكلها نذر شؤم لا يبددها خطاب التفاؤل الساذج المملوء بالوعود وهو ما يكذّبه الواقع كل يوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

العراق والمطالبة بالتعويضات من الحكومة الأمريكية

د. كاظم المقدادي " 2 "في الجزء الثاني من المقال نستكمل ما يفيد الوفد العراقي الى واشنطن في مطالبته بحق العراق بالتعويضات:رابعاً- أبرز تداعيات الحربسبب إستخدام القوات الأمريكية وحليفاتها لأسلحة اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض والسموم الأخرى إنتشار الملوثات والسموم الإشعاعية والكيميائية الخطيرة في أرجاء العراق، والتي سببت بدورها أضرار بيولوجية رهيبة، حيث أُصيب أكثر من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram