في كتاب أمبرتو ايكو (اختراع العدو)، يوضح أنّ الكثير من الجماعات تبدأ ببناء هوياتها بالتأكيد على وجود آخر مختلف، خطر يجب مواجهته. وهو ينطلق من تعريف رينان للأمة بوصفها جماعة توحدها كراهية الجيران، حيث أن تحتاج الكائنات البشري إلى جماعة متخيلة أمة، جماعة قومية، طائفية توفر له المعنى وتجيب على اسئلته الوجودية ومصالحه الذاتية ومجال التواصل، يصبح العدو جزءاً من تعريف الذات (Getty)، حيث أن دينامية تشكل الجماعات، ووظيفتها ذاتها تكمن في صناعة العدو، لماذا العدو الطائفي أو العدو السياسي؟ ما الدور الاجتماعي والسياسي الذي يؤديه في المجتمعات المعاصرة؟ هل يجب على الهوية أن تبنى بالضرورة ضد الآخر؟ يعتبر كارل شميت أنّ هذه هي وظيفة السياسي بذاتها، فالعدو إذاً هو الآخر، الشر، التهديد، ولا يمكن فصله عن الحياة كما المرض.
وهو يقدم خدمات كثيرة، ويعمل مهدئاً، خصوصاً عبر المسؤولية التي يمثلها الحقيقية أو المتخيلة في قلقنا الجماعي، ويمكن لصناعة العدو أن ترسخ الأواصر الجمعية، ويمكنها أن تكون مخرجاً بالنسبة إلى سلطة تواجه مصاعب على الصعيد الداخلي، ويغيب العدو في الكتب التعليمية الاساسية للستراتيجية العسكرية. وتشغل الحرب، التي تقدم منذ البداية بوصفها معطى، التحليلات والأفكار، ويدرس المؤرخون استدلالياً العوامل الموضوعية التي سبّبت الحروب، والتي لم يكن الناس واعين لها بالضرورة. لكن يجب أيضاً العمل على فهم كيف تنشأ تخيلات العدوان وتحديد العناصر الاجتماعية التي يتشكل منها الرأي العام.
صناعة العدو
يفترض صنع العدو مراحل شتى أيديولوجياً وستراتيجية محددة، خطاباً، صنّاع رأي ندعوهم المحدَّدين (marqueurs) وأخيراَ آليات صعود نحو العنف، ونلاحظ أن محددي العدو) الذين يجب إضافتهم الى فئة محددي الهوية لعلماء المجتمع، هم متعددون ومختلفون بحسب نوع النزاعات، وهم ليسوا المحللين الأكثر دقة للوضع، لكنهم الأكثر تأثيراً.
بيان العتمة
يقول عبد الله إبراهيم، من المعلوم أنّ الأمم إنما هي جماعات تنتظم في أيديولوجيات عرقية أو دينية، أي أنها محكومة بمرويات كبرى تؤمن بها، وتراها أفضل من غيرها، وتعدها من مكونات هويتها الخاصة، وكل مساس بهذه الهوية المتخيلة سيؤدي إلى تغذية تلك الجماعات بالعنف المفرط، وهو عنف يتفجر عند أول اختبار أو مواجهة. يضاف إلى أن التفسيرات الضيّقة للدين تشحن المؤمنين بفكرة رفض الآخر المختلف عقائدياً، ولا ننسى النزعات التربوية الضيقة قومية أو مذهبية التي توهم أتباعها بالتفوق وتتهم الآخرين بالدونية. وحتى على مستوى الأفراد، فالنظام الأبوي القائم على التراتب والهرمية يخلق أفراداً مشوّهين ثقافياً ومجهزين بفكرة العنف، ولكن لو توسعنا في تقصّي فكرة العنف بشكل كامل، نرى أنها ترتبط بوهم الهوية (L'Illusion identitaire) حيث نكتشف أنّ الوقائع السياسية ليست موجودة كما هي، لكنها موجودة كمواضيع تفسير وفق محددات معرفية، وعاطفية، ورمزية،) خاصة بكل مجتمع، ويشكل المجال السياسي (مسرحاً، نرى، ليس أهمية أفعال الناس فحسب، بل صداها وطريقة فهمها، وإدراكها وتفسيرها، وتدخل عملية صناعة العدو تماماً ضمن هذه الآلية).
مكونات العنف العراقي
إن الجماعات المتنازعة (الشيعية والسنيّة المسلحة ) تكشف عن عدّة معطيات، أولها، اصطفاء الله لها ثانيها، احتكارها الرؤية الدينية وإدخالها الرب المحارب أو إله العنف في إطار أهدافها السياسية، وهي عموماً لا ترى في الغريب الطائفي إلاَّ مجموعة من النجاسة والهرطقة والكفر.
فالهويات الطائفية العراقية، تمت إعادة انتاجها وضبط حدودها عبر سلسلة من المقولات والمفاهيم والممارسات والتصورات، في إنتاج الآخر (الضد الطائفي) حيث نرى أن هوية الطائفية السنيّة والشيعية، تعيد أولاً قومنة الهوية الطائفية وترسيخ الاعتقاد بالتفوق الأرضي والآخروي، فضلاً عن ايجاد أيديولوجية (الكره للآخر) لتوحيد المجموعات الطائفية وطهرها من نجاسات الآخر ودنسه الديني المحافظة على سلالتها الطائفية من انحراف الآخر، ومن ثم التأكيد على بكارتها الأيديولوجية وقوتها واستمراريتها ومصدرها إلما فوق – طبيعي، والنظر إلى العالم ضمن ثنائية (الخير المطلق والشر المطلق وتكريس عالم المجتمع العضوي، أحد المعالم الجوهرانية المتعالية في تكريس المركزية الطائفية الهوية الجوهرانية سواء كانت الهوية الشيعية أم الهوية السنيّة، كانت دائماً مجموعة من الأوهام والأيديولوجيات العتيقة والحرتقات الميتافيزيقية، تفتقد للمنحى الديناميكي المتغير داخل رحم التاريخ، صعود هذه الهويات الدينية – الطائفية في العراق المستمدة من المقدس، يؤدي الى تقاسم النفوذ الديني، حيث تتخذ هذه الهويات طابعاً رسالياً، تدور سردياتها حول امتلاك الحقيقة المطلقة الخلاصية متماهياً مع الهوية السلفية الجهادية سواء كانت الجهادية الشيعية أو الجهادية السنيّة، فهي تقدم تعبيراً مطلقاً مستمداً من الحقيقة التي أودعها الله في كتبه ورسوله ، الحقيقة هنا مطلقة ايديولوجياً، داخل هذه المعادلة تم إنتاج هويات قاتلة، هويات أحادية مركبة، تميل إلى الواحدية والتمثيلات الذهنية المطلقة، لا تتعلق باشكالية الإسلام و إنما بنسق الطائفية فقط أو بالتراث الثقافي التأريخي، بل بالتأسيس المؤسساتي الذي يحتله الإسلام في إطار هياكل الدولة القومية، فقد قامت تلك الدولة القومية، ونشر نسخته من الإسلام الطائفي، والشخصيات الكارزمية الطائفية، والتواريخ المخيالية، والتشريعات القانونية، والقيم الدينية الطائفية عبر النظام التعليمي، والممارسات التأريخية.
مجتمعات وعنف وأيديولوجيات
المجتمع السنّي العراقي، نتاج الإخلاط بين الدين الأصولي الجهادي والقومانية البعثية، والتي تعد نسخة متفسخة، ومحنطة معرفياً وقيمياً ودينياً، لم يسهم في إنتاج ثقافة تداولية عقلانية إلا ما ندر، وحتى تلك الثقافة فهي مخترقة طائفياً، أما سلوك المجتمع السنّي السياسي العراقي فهو معقّد، يعكس تعقد مخيالهم الممتزج بالنزاعات العشائرية، والقومية، والدينية، فمن خلال تحليل ديناميكية هذا المخيال، نجد أن هناك مجموعة من المعتقدات الأساسية، والصور الثابتة النمطية عن الاحتلال، وخرافات أسطورة مخترعة، وانماط وافكار مجزأة عن الطائفة الشيعية، تكرسها الأدبيات الدينية، فضلاً عن الشعور العالي بالمظلومية والاقصاء والتهميش، وصور عن بطولة ما يسمّى المقاومة، حيث سيطرت سرديّة الضحية الطائفية على تصوّر السُنَّة للعراق الجديد. وقد تعمّق هذا التصوّر عبر السياسات التمييزية التي سنَّتها الحكومة ما بعد العام 2003. أما المجتمع الشيعي، فقد اعتمد على تثوير الدين الطائفي أو ردكلة النزاعات الطائفية وتحويلها إلى أيديولوجية ذات أبعاد سياسية، تتجاوز دين الطائفة القائم على العبادات والطقوس، فضلاً عن ذلك اصبحت الرمزية الثقافية والسرديات الجماعية الطائفية، تمثل الجزء الحيوي من الصراع الطائفي داخل الجهادية الشيعية .
القاتل السلفي المجاهد
انحطاط الحقل الثقافي والديني العراقي انتج ظاهرة بمستوى القاتل السلفي وهي ظاهرة مجتمعية منفلتة أخلاقياً، وجزء من آليات التربية الدكتاتورية العراقية، ومؤشر على بلوغ الانحطاط المادي والمعنوي درجاته القصوى، ما يعطي دليلاً على تمزق الشخصية العراقية نتيجة تقاليد الاستبداد السياسي الكلّي والانحطاطات المعرفية وثقافة التجهيل الايديولوجي وتدني الوعي الجمعي، وتمثل اقصى صيغ الرذيلة في العراق، نقيض للإنساني والواقعي والعقلاني. يقول السوسيولوجي فالح عبد الجبار، تعرض المجتمع العراقي إلى جرعات مستديمة من عنف الدولة تجاه المجتمع، وهذا العنف يتشربه المجتمع، يستبطنه ثم يطلقه، فهو لا يتسرب بل يكمن في المجتمع ويحاول أن يجد له منافذ أو قنوات للخروج. نعلم أن هناك جيلين من العراقيين أو ثلاثة أجيال إنتاج سلسلة الحروب. حيث أنّ الحكومة خاضت عدداً من الحروب منذ السبعينيات في كردستان مروراً بالحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات وحرب احتلال الكويت في التسعينيات والحرب الأخيرة التي احتل فيها العراق العام 2003 مئات الآلاف من الضحايا والمعوقين والأسرى والأرامل والأيتام هم نتائج هذه الحروب. وهذه الحروب شلّت المجتمع المدني وليس المقاتلين فحسب. لذلك هنالك جيلان أو ربما ثلاثة تشربت هذا العنف في النفوس والعقول لتصبح اللغة الوحيدة التي تعرفها الأجيال الحالية هي لغة السلاح، فضلاً عن انهيار الدولة ومنظومة التحكم والإدارة فيعود المجتمع القهقرى إلى حال بدائية.
حيث نجد أنّ المجتمع الشيعي والمجتمع السنّي يقدمون رواية تنازعية ومركبة لعراق غامض والقتل بوصفه فعلاً مقدساً إلهياً، وتجري عملية شيطنة الآخر المقتول وابلستهم في ثقافة مجتمعات الميليشيات المتنازعة على الممتلكات والسلطة والثروات، أن هذه اللحظة التأريخية المضطربة مصابة بالغفلة التأريخية والصمّاء، وهي تحولت رويداً رويداً الى مجتمعات بيولوجية، فهي مجتمعات بدائية التركيب تسودها الجهالة والعماء السياسي وتجرد كامل من القيم، فقد حشد منظرو الميليشيات الشيعية والسنيّة، جميع المفردات الايديولوجية في الفقه والتأريخ والمتخيل، وجعلوها جزءاً من المكونات الداخلية للنزاع، حيث نجد أن تلك الجماعتين تروّجان قصصاً وحكايات وفتاوى، تحض على القتل الهوياتي للمجموعات الأخرى، وتضفي عليها صبغة دينية مقدّسة. في تلك المنطقة الرمادية تتشكل العدمية الفاشية الدينية الطائفية، حيث يجري الانطلاق من الآخر لتصميم هويتنا أو بناء ذاتنا، فـالشيعي يجسد ذاته وهويته تشكل أمام اقصاء أو إبادة الآخر السنّي، وفي الوقت نفسه، السنّي يرى أن هويته تتشكل أيضاً في إبادة الشيعي أو ابادة القوميات والأثنيات الكافرة النصارى، الايزيدية، الكاكائيين، البهائي، الصابئة.
احتفالية بنات آوى
فصول القتل الهوياتي الذبح والاختطاف والقتل التوثيقي يمكن اكتشاف سرّه عندما تذهب الى الوقائع والبينات التحتية لتلك الوحشية، اي المجتمع وروافده السياسية وأدبياته وقيمه، حيث يقدم الاقتصاد الريعي والسلوك الديني المتبادل المفاتيح الانتربولوجية للوحشية العراقية.
فنحن نرى أنّ الإله الطائفي مسكون بالكراهية ومشبّع بالروح القتالية وعنصري وإقصائي وهمجي، فهو ليس إلهاً سماوياً، وإنما يتكون من المكونات الثقافية والتاريخية وحكايات الإبادات التي تعج بها مدونات التراث، فضلا عن ذلك هو إله قومي، الإله الطائفي يقوم على الوعد بتمليك السلطة والثروة حكراً للطائفة المنصورة في التاريخ وبشكل أبدي حتّى قيام الساعة، وهذا يتطلب التطهير المستمر والإبادة وذبح الأغيار سواء كانوا شيعة أم كرداً أم مسيحيين أم ايزيديين أم سنّة.
المجموعات التي تمارس الذبح والقتل المتبادل تعرف نفسها غالباً على انها جهادية، وعلى الرغم من وجود اختلافات كبيرة بين المجموعات الجهادية التي تتنازع أرض العراق، أنها تتشاطر بعض المبادئ الايديولوجية مثل القتال من اجل العودة الى مجتمع يسود فيه شكل أنقى من الاسلام، البعض يرى أن هذه التنظيمات والجماعات والميليشيات المسلحة، هي قراءة ايديولوجية ضالة وهزيمة اخلاقية وموت الإله الإنسانوي وانتصار الإله الهمجي الكامن في الأديان والطوائف، حيث تحمل تلك الجماعات رايته ونظامه الرمزي المشفر لإله القتل والفوضى والعدمية الأخلاقية وليمة يومية. لعبت الايديولوجية الدينية الطائفية بوصفها ستراتيجية تعبئة للجماعات من اجل إدامة العنف والعنف المضاد، فضلاً عن ذلك تم نشر ذهنية الخوف، والعودة الى المدونات التراثية لتبرير القتل المتبادل. حيث يتم تزويد الميليشيات السنيّة أو الشيعية بمنظومة من المفاهيم والمقولات الاجتماعية – السياسية والتصورات الاختزالية لتحويل الصراعات السياسية والفكرية الى منظومة لاهوتية الشر المطلق / الخير المطلق، فضلاً عن ذلك يتم تحويل النصوص المقدّسة الى نصوص ايديولوجية لتهميش الجماعات المختلفة وتصنيفها وقتلها.
تعليقات الزوار
بغداد
استاذ يوسف محسن من الضروري جداً من تجمع جميع ما كتبته من مقالات بخصوص هذا الموضوع الخطير ماذا فعل جنود الله في العراق في كتاب وتطبعه وان يكون أفضل كتاب يقرأه جميع الشباب في العراق وفِي بقية البلدان العربية لأنه سوف يكون من أفضل ما كتب بعد كتاب وعاظ