| (2-3) |
يبيّن ماركس في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) أن البشر يصنعون تأريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يرغبون تماماً، لأنهم لا يقومون بذلك في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل تحت ظروف معينة يجدونها، وقد انتقلت إ
| (2-3) |
يبيّن ماركس في (الثامن عشر من برومير لويس بونابرت) أن البشر يصنعون تأريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يرغبون تماماً، لأنهم لا يقومون بذلك في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل تحت ظروف معينة يجدونها، وقد انتقلت إليهم من الماضي، إن تراث كل الأجيال البائدة يجثم بثقله مثل كابوس على أدمغة الأحياء، إذ حالما يبدو على الناس أنهم قد انخرطوا في تغيير انفسهم وتغيير الأشياء من حولهم تغييراً جذرياً، وفي خلق ماهو جديد تماماً خصوصاً في فترات الاضطرابات العميقة، فإنهم يستحضرون بتلهف أرواح الماضي لخدمتهم ويستعيرون منها أسماءها، وعاداتها وشعارات المعارك خاضتها في السابق من اجل تقديم مشهد جديد لتأريخ العالم، لكنه يتقنّع هذه المرة بقداسة الماضي وبهذه اللغة المستعارة. حيث يتم التلاعب بالتأريخ الايديولوجي القومي وفي الانساق الثقافية التي تمثل الذاكرة التاريخية للمجتمع (الدين، الفن، العلم، القانون، العادات، التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي) وتشويه واقصاء السرديات الثقافية للجماعات الأخرى واحتكار سردية كلية شاملة ثقافية تاريخية.
في كتاب مذكرة دولة، سعى اريك دافيس، الى تفحص شامل لمساعي الدولة العراقية في توظيف توصيفات وتصورات معينة عن الماضي وبالذات الدولة البعثية، حيث بذلت مجهودات ضخمة في تعبئة العراقيين للهيمنة على المجال السياسي لتأسيس رؤية جديد للدولة بعد أن قمعت وفكّكت الرؤيتين المتنازعتين على المجتمع السياسي العراقي آنذاك، الرؤية القومية العروبية التي توصف بأن المجتمع العراقي جزء من الأمة العربية، هذه الرؤية عجزت عن أن تبيّن حق المكونات والاقليات الاخرى من المشاركة في الممتلكات السياسية والخطاب الثقافي، في حين كانت الرؤية الثانية والتي يمثّلها الوطنيون العراقيون الذين ينحدرون من اليسار والذين يتجاهلون الطبقات الاجتماعية الوسطى في المناطق الحضرية التي تشعر على نحو عميق بالحاجة الى الاستقرار السياسي. دافيس حدد طبيعة الذاكرة التأريخية بوصفها مجموعة التصورات الجماعية التي تشترك بها مجموعة بشرية معينة بصدد احداث وقعت في الماضي، الذي يدرك على انه قد شكّل هويتها ورؤيتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. ويعتمد دافيس آليات منهجية في التحليل الثقافي وقراءة انتربولوجية عبر مسارات تأريخية طويلة نسبياً ويعيد بناء مفهوم الهيمنة كما طرح من قبل الايطالي انطونيو غرامشي بوصفه محاولة من قبل النخب السياسية لتعميم مصالحها على الناس كافة. وهذا المفهوم لا ينطوي على مجرد سعي لاستحصال تأييد المجموعات السكانية عن طريق تشجيعها على تبني قيم النخب الحاكمة ومعاييرها، بل سعي أيضاً لتوليد مجموعة من الاساطير التأصيلية والتي تؤسس المخيال الوطني، ولا تعد الهيمنة بالنسبة الى غرامشي مرادفاً للايديولوجيا، إذ لا تحقق الهيمنة عندما تشكّل مكونات كبيرة للجماهير تصورات معينة بخصوص المجتمع السياسي والنظم الاجتماعية فحسب، بل إنها تتحقق أيضاً عندما تستقبل هذه التصورات على أنها أمر طبيعي ومعتاد، حيث تتضمن الهيمنة تقبلاً لنظرة شاملة للدولة تدخل فيها الفلسفة والمُثل وهي تشمل أيضاً الزعامة الفكرية والإخلاقية.
وفي ضوء أطروحات غرامشي السياسية، نكتشف طبيعة التنافس السياسي الذي جعل الدولة العراقية منذ العام 1963 حتى العام 2003، تعيد انتاج وتملك ماهو مشترك بين الجماعات العراقية المتعلق بالذاكرة ومسألة الهوية واحتكار الفضاء الثقافي. هذا الوضع أدى الى خلل في العلاقة التي تحكم الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في بلد متعدد الثقافات والقيم والرأسمال الرمزي (إثنياً، دينياً، طائفياً، وطبقياً، وعرقياً، وقومياً) واستمرار هذا الاحتكار في سيرورات الدولة العراقية بين حجم الكارثة التي ظهرت نتائجها مابعد العام 2003.
جماعات متخيلة للذاكرة
نتيجة للتركيبات الديمغرافية للمجتمع العراقي، تبلورت مجموعة مكونات تتمركز حول هويات (إثنية، قومية، دينية) وهي صياغات لتمثيلات (الحيز السياسي) داخل هشاشة التكوينات العراقية، حيث اعتمد (النسق المقدس) كحقل شائك ومعقد. وقد تحولت مجموعة الهويات العراقية الى تركيبات سرمدية متجوهرة وحقل صراعات دورية وصِدام بسبب انهيار المشروع الليبرالي العقلاني ونمو الاصوليات الدينية والنزاعات الطائفية، ورافق هذا الفشل انبعاث الهويات الفرعية لاسيما بين الجماعات العراقية وهو يمثل هزيمة سوسيولوجية للدولة والثقافة والمجتمع.
لذا فإن هوية الجماعات الشيعية، نتاج للقوى الثقافية والدينية والاضطهاد التاريخي والشعائري والاقصاء عن الأنظمة الفكرية الاسلامية، اضافة الى تراكم منظومة الرأسمال الرمزي والتي تبلورت عبر حقل التاريخ، فهي تمثل هوية جوهرية، تفتقد للتشكيلات الاندماجية بسبب الصراعات بشأن (المواقع والهيمنة في السوق الرمزي) هذه الهوية تقوم على مخزونات ضخمة من الاستيهامات الذاتية والجماعية والوعي الاغترابي والتمزق ويعود الى الظهور الدوري لشخصيات ورموز كارزمية في وعي الفاعلين الاجتماعيين السياسيين.
في حين لم تتشكل هوية الجماعات السنّية إلا تحت وطأة الصراعات السياسية الحديثة ما بعد العام 2003. لذا سادت الرؤية اللاعقلانية وتخلف سردياتها السياسية والايديولوجية والدينية لصالح خطاب ميتافيزيقي ذي بنية اقصائية يسعى الى تقويض التنوعات الثقافية العراقية، هذا الصدام بين الهويات داخل المكون العراقي (صِدام الهويات الأصولية) مثل صياغات سياسية مخترعة لأحداث التفكك والاضمحلال في حقل التأريخ العراقي .
أزمة تكوين البنى الاجتماعية
هذه النخب السياسية (افتراضاً) التي تهيمن على الفضاء السياسي بعد التغيير 2003 والتي تتشكل من مزيج فسيفسائي أي انتاج مجتمع يعاني أزمة تكوين البنى الاجتماعية والاقتصادية والتشظي الشديد والتمركز حول هويات ومرجعيات سياسية وفكرية تتراوح بين التعايش والنزاع ونتيجة للعنف المنظم والقهر الذي مارسته الدولة التوتاليتارية منذ ستينيات القرن الماضي داخل المجتمع العراقي، هذه الجماعات الفسيفسائية تبحث عن أسطورة مرجعية أو طقس مشترك يمثل اعادة انتاج للرأسمال الرمزي للدولة الوطنية العراقية بعد الانهيار الكلّي، إن هذا الانهيار للدولة حدد الفشل الأخير لها كما صمّمت لأكثر من ثمانين سنة خلت في اعتاب مواجهة عسكرية أخرى انتهاءً باختفاء نهائي لأحد ابطالها (الامبراطورية العثمانية قبالة الامبراطورية البريطانية).
صياغة الذاكرة المتشظية مابعد العام 2003
للوصول الى فهم المنحنى السياسي للدولة العراقية مابعد العام 2003، يتطلب كمدخل أولي لتحليل الخطوط العريضة لبنيات الخطاب السياسي للجماعات الدينية والقومية والإثنية والسياسية والتي تشكل الفضاء العام للمجتمع العراقي، فقد شكل مفهوم (الديمقراطية) حجر الزاويا في هذا الخطاب السياسي، حيث وقع منتجو هذا الخطاب في الوهم القائل بأن الديمقراطية تعني تماثل الدولة أو المؤسسة التمثيلية مع تركيبات المجتمع، لكون هذه التركيبة تمثل اصالة المجتمع العراقي (المخترع سياسياً) من قبل هذه الجماعات. هذا الخطاب السياسي يفتقد الى صيرورات التمركز حول نواة حقيقية أو هوية، حيث انه الفكر (البلقانوني) الذي تمت اعادة هيكلته عبر آليات الهويات والاصالة والتفرد في (المخيلة) الايديولوجية أدت الى تمركزات حول (طوائف، قوميات، أعراق، إثنيات) وتوترات سياسية للجماعات المقصيّة والمهمّشة عن الدورة السياسية أو الشراكة في السلطة/ الثروة.
إن اعادة انتاج هذه النخب السياسية (القرابية، الطائفية) كحامل تأريخي يشير الى مجموعة من الدلالات الملتبسة التي يمكن اكتشافها في المشهد الممسرح، حيث انها مرهونة بروح الاسلاف (شعائرهم، طقوسهم) إن ماضي العراق الكولونيالي هو حاضر العراق الكولونيالي. لا تمتلك البعد المستقبلي لعراق مابعد صدام، حيث ركود البنى الاجتماعية، الازمات المستديمة ضعف الحراك السياسي للطبقات الاجتماعية عدم تبلور جماعات الانتلجستيا.
وهنا تكمن عملية الاخفاء الايديولوجي لجماعات النخب السياسية، فهي تكرار مهيب وهزلي للنخب السياسية القديمة التي حكمت الدولة الوطنية العراقية إبان ظهورها، حيث تنطوي هذه الفكرة على المشروعية لتجاوز الظهورات المتعاقبة للدولة (انقلابات، ثورات) فكان رهان الجماعات السياسية ولغاية الآن الامساك بتأريخية الاسطورة واعادة انتاج الذاكرة من اجل توسيع المعنى/ القوة، وأضفى الشرعية على مجموعة النخب الجديدة.
وهنا نلاحظ سهولة الطرح في تناول المشكلات التي يرزح تحتها المجتمع العراقي وعدم تمكن المثقفين من كشف الأبعاد الفكرية والثقافية والسياسية والتنقيب عن الجذور التأريخية للتوترات والصراعات، اضافة الى ذلك، لم يطرح سؤال التعددية (القومية والدينية والعرقية والثقافية) وقضية علاقة الدين بالدولة ومصادر التشريع واقتسام الثروات/ السلطة.