مفارقُ الجماعة

عواد ناصر 2012/11/05 08:00:00 م

مفارقُ الجماعة

مفارق الجماعة هو (هي) من "شذَّ" عنهم لأسباب تخصّه، يراها من ضرورات تحقيق ذاته، سلوكاً أو إبداعاً أو كلاماً أو إيماء.
هو (هي) من يُنظر إليه النظرة الشزراء، المستنكرة، الميّالة إلى القاعدة لا الاستثناء.
ينشأ (تنشأ) ضمن الجماعة وتقلّب وجوههم وأقوالهم وأفعالهم فيستعجب ويستنكر و "يطوي الكشح" عن ذكورة المكان وساكنيه ويختار التراجيديا ويترك الكوميديا للمهرجين، وينتمي إلى الزمان الذي هو غير الزمان، فله زمانه التصادمي والمستنكر.
قد يكون (تكون) مفارقهم بينهم، ومعهم، لكنه غريب عنهم وبعيد عن مسالكهم، وله لغته التي لا يدركون مراميها ولا يفكون مستغلقاتها، فهي العصية عليهم، البسيطة عنده، وأمثاله، فهم يعجزون أمام حُجُبٍ غير موجودة ويزدرون ما يجهلون ويعادونه.
المفارق (المفارقة) للجماعة يستنير بمصباح زيته ذكاء العقل وفتيله نبض القلب، يصدر عن المحبة والكراهية معاً، ولكل منهما ضرورات تشكل موقفاً من الجميل والقبيح، فالمحبة انتماء للجمال والكراهية انتماء للجمال عندما يصبح القبح مصدر كل ما يعادي الإنسان ويذهب به إلى غير مكانه وزمانه ونفسه.
هو (هي) من يرفع الصوت عالياً بلا حساب الفضيلة والرذيلة، قيمتين أخلاقيتين نسبيتين، عندما يتواجهان في الملعب المليء بالقطيع المؤمن، المدجن، الخنوع،  
المسرنم.
المفارق (المفارقة) للجماعة يطرح أسئلة كما الأطفال فيثير ضحك الكبار (أو حنقهم):
كم عمر الهضبة؟
أين يقف الثور الذي يحمل الأرض على قرنه؟
كيف تخرج تينة العسل من تراب الفلاح الذي يمتلئ جسده، كله، بالمرارة؟
لمَ تسير النيازك إلى حتفها؟
هل كان يعرف أبو جعفر المنصور أن بغداد ستفتك بأجمل أبنائها؟
من علّم أبا نواس أن "الكأس تشكو فكرة الحاسي"؟
لم لا يتوقف العمال المهرة عن صناعة الكاميرات التي تراقبهم؟
إلى مَ يخوض الغواصّون حروبهم لاصطياد كنز غير موجود أصلاً؟
لماذا لا يتوقف الله عن لعبته غير المسلية لصناعة البشر ثم يرمي بهم إلى التراب؟
لماذا ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يصر على الزواج والثاني يصر على الطلاق؟
المفارق (المفارقة) للجماعة مصنع لإنتاج الأسئلة ولا يعرف جواباً واحداً.
هو (هي) مخلوق للدهشة التي لا تدهش أحداً، فما زال يفغر فاه، مثل بقية أطفال السيرك، وهو يرى إلى الحمامات تطير من كُمّ الساحر.
هو (هي) يفضل طرح الأسئلة، ثانية:
لم كان طفل أندرسون الذي صاح في وجه الملك: "أنت عارٍ" نرويجياً ولم يكن عربياً؟
.. وإذ يتعب من طرح الأسئلة يحاول أن يصمت فيحكّه لسانه ليعود إلى عدم رشده فيتذكر:
كنا أحراراً في كردستان الثمانينات، ونحن نقاتل طواحين الهواء، لأننا لم نتوقف عن صعود الجبال جبلاً بعد جبل.
.. وحين بلغ الشاعر قرية "يه ك مالا" – زاخو - احتفوا به بحماس منقطع النظير: جندياً لا شاعراًَ!
المفارقة للجماعة امرأة هتكت ستارين: الأول غلفها كامرأة (جندر)، والثاني كإنسان (نوع)، فهي في اضطهادين، أو أكثر، ولم تستسلم، ففي بيئة ساكنة، مطمئة، راضية، مرضية، انبثقت فاطمة زرين تاج قرة العين الطاهرة لتعلن ولادة امرأة/ إنسان تجيد قولة "لا" في بلاد "نعم".
نساء كثيرات فارقن الجماعة وخرجن من مخدع الحريم ومطبخ العشيرة الدسم إلى قرطاس الروح وحبر العقل والوقوف بوجه مشيئة الآلهة الذين بهيئة بشر.
من يتذكر مديحة سعيد أول امرأة عراقية صعدت خشبة المسرح عام 1929!
لم تصعد مديحة تلك الخشبة إلا بعد أن فارقت الجماعة.
مفارقة الجماعة تبدأ من مفارقة النفس: "يبدأ الإنسان في الحياة عندما يستطيع الحياة خارج نفسه" – إلبرت آينشتاين.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top