آنسةٌ عراقية في أوراق محمد الفيتوري..رسائل الشّاعر محمد الفيتوري  إلى آسيا الطريحي

آنسةٌ عراقية في أوراق محمد الفيتوري..رسائل الشّاعر محمد الفيتوري إلى آسيا الطريحي

صادق الطريحي


ما زال الحبّ، هذا الانفعال الغامض البهيج يخترقُ قلوب الكثير من الشّعراء، فيفضي إلى الزّواج مرة، ومرّة إلى الجنون، وربما أدّى إلى اعتزال الحياة العامة أو الانتحار!! إن كان هذا الحبّ لا يفضي إلى ما يريد العاشق؛ لاختلاف دين الحبيبة أو عرقها أو جنسيتها، أو لأنّها متزوجة بالأصل؛ فيتحول هذا الحبّ إلى قصائد تبوح باسم الحبيبة مباشرة، أو تستعير لها اسماً جديدًا (لنتذكر الشّاعر العباس بن الأحنف، وهو يستبدل اسم حبيبته علية أخت الرشيد باسم آخر) أو تلمّح إليها من خلال مدينتها أو حروف اسمها، أو غير ذلك من وسائل الشعر، وربما يبقى هذا الحب طيّ أوراق ورسائل متبادلة بين الحبيبين، أو على ورقة الكتاب الأولى، إذ يهدي الشّاعر نسخة من ديوانه إلى من يحب!! فتبقى هذه الأوراق حبيسة حتى تنشر بعد وفاة الشّاعر، ولنا أن نتذكر الرسائل التي بعث بها الشّاعر أنسي الحاج إلى الروائية غادة السّمان!!

وقد عاش الشّاعر السودانيّ الليبيّ محمد مفتاح الفيتوري (1936ـ 2015) تجربة الحبّ هذه، عندما حضر للمرة الأولى إلى العراق للمشاركة في مهرجان المربد في البصرة (1971) فترك مجموعة من الرسائل والكتب المهداة إلى الآنسة آسيا الطريحي (1937ـ ) المترجمة في وزارة الإعلام، ثم في وكالة الأنباء العراقية، إذ كانت ضمن اللجنة التنظيمية لمعظم المهرجانات التي أقامتها وزارة الإعلام العراقية، حتى تقاعدها!! ولموهبتها الصحفية، وإجادتها اللغتين الإنكليزية والفرنسية، فضلًا عن روحها السمحة الطيبة؛ أقامت شبكة واسعة من الصداقة مع معظم الضيوف المدعوين للمهرجانات، وغالباً ما كانوا يتناولون الغداء أو العشاء أو الشّاي في بيتهم في حي الخارجية ببغداد، حيث يستقبلهم العميد المتقاعد محمد حسن الطريحي، والد آسيا، وشقيقها الدكتور هيثم الطريحي، وشقيقتها الدبلوماسية سهى الطريحي، وقد استمرت بعض هذه الصداقة حتى بعد انتهاء المهرجانات!!
وقد نشرت آسيا الطريحي هذه الرسائل بخط الشّاعر محمد الفيتوري في كتاب خاص، إذ كان يراسلها من القاهرة وبيروت وروما وطرابلس والبحرين، وإحدى الرسائل كانت من بيتهم في بغداد، وكانت هي في ليبيا!! أما الرسائل التي كانت ترسلها له، فلا شكّ في أنّها اليوم ضمن أوراق الفيتوري، وربما تسمح الأقدار بنشرها ذات يوم!!
في مقدمتها للكتاب تقول الآنسة آسيا الطريحي " التقيت بالمرحوم الشّاعر محمد الفيتوري في مهرجان المربد الأول وكنا نجلس على ضفاف شط العرب وقت الغروب ... وبقينا على اتصال حتى وفاته، وعندما كان يتصل بي هاتفيًا، يبادرني بالقول (أرغب بسماع الصوت الفردوسي) "
وأول محاولة للتعبير عن الحبّ مؤرخة في 1/4/1971، إذ كتب في إهدائه لمجموعته الشعرية (أحزان أفريقيا، دار العودة،1970) " الرائعة آسيا الطريحي، محاولة للتعبير عن التقدير والإعجاب وتحية " وتلحظ هذه الصيغة للحبّ، التقدير والإعجاب!! فربما مازال الشّاعر يختبر هذه التجربة، وربما لم يستطع أن يبوح بحبه مباشرة!! لكنه بعد أربعة أيام فقط يغير من لغته فيكتب في 5/4/1971 معترفًا في إهدائه لمجموعته الشعرية (معزوفة لدرويش متجول، دار العودة،1969) "هذا الدرويش المعذب هو أنا.. هل تقبلينه بكل عذاباته .. أنتِ أيتها الإنسانة العظيمة التي اكتشّف فيها كل حين ما يجذبني إليها .. الرفعة، والعمق، والجمال "
ومن المعروف أن والد الفيتوري شيخ الطريقة الشاذلية، لذك ينحو شعره منحى صوفيًا، وأن الدرويش يبحث عن الرفعة أولًا، فلا يكون الجميل جميلًا بلا رفعة وبلا عمق! لذلك يقول في إحدى قصائد المجموعة :
" في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواقُ
حدقتُ بلا وجهٍ ورقصتُ بلا ساقِ
وزحمت براياتي وطبولي الآفاقُ
عشقي يفني عشقي وفنائي استغراقُ
مملوككَ، لكنّي سلطانُ العشّاقِ"
ولا يلبث أن يعترف لها بحبه، باللغة الصوفية نفسها، في رسالة من فندق دلمون في البحرين في 26/12/1972 " الرقيقة الشاعرية، ذات البهاء القدسي، ذات الحزن الإلهي العميق، آسيا ، هل لابد لي من أن أملأ بضع صفحات من الورق حتى أؤكد لك مشاعري الصادقة تجاهك، ألا تكفي كلمة أحبك ... " ولأنه على موعد مع أمسيته الشّعرية الأولى في البحرين، يكمل رسالته " أرجو أن تكون مشاعرك معي، وقلبك معي، وأنتِ معي، كما أنا الآن معكِ ... " ويلحظ هنا إصرار الشاعر على أنّ أثر الحبيبة يمكن أن ينتقل عبر المسافات البعيدة لإلهامه القدرة على إنشاد الشعر! وبعد أكثر من عشر سنوات يبوح بحبه أيضاً، ولكن على طريقة المتصوفة الذين يقولون دون أن يتكلموا، فيكتب في 29/11/1988 إهداء على الطبعة الأولى من مجموعته الشعرية (شرق الشمس غرب القمر، ) إلى آسيا .. ذات الوهج الأعمق في ذاتي .. وعذراً إذا تجرأت وإذا لم أستطع،. أن أتكلم .." أما في الطبعة الثانية من المجموعة نفسها (القاهرة،1992) فإنه يعترف لها بتسرب هذا الحبّ إلى قصائد الديوان، فيكتب في إهدائها من بغداد في التاريخ السابق نفسه " يا مضيئة الروح.. يا آسيا الطريحي.. ربما وجدت شيئا منك .. في هذه الكتابات الشعرية.. بلى ستجدين! "
وتتصاعد النغمة الصوفية فيتغزل الشّاعر ببغداد؛ لأنّ رسائل آسيا تصل إليه منها، فيكتب من روما في 27/7/1979 " العزيزة جداً آسيا .. أية ريح طيبة تنبعث الآن من تجاهك ـ أعني بغداد ـ من حيث يبتدئ كلّ شيء، وينتهي كلّ شيء ..." وفي التسعينيات، تتوحد آسيا مع العراق الذي أحبه الشّاعر من خلالها، فيكتب من بغداد في 24/5/1995 إهداء على مجموعته الشعرية (يأتي العاشقون إليك، 1991) " إليك أنت يا آسيا الطريحي وأنت تعلمين مكانتك عندي .. أنتِ وحدك تعلمين .. أنتِ والعراق الذي أحببته.. بل أحببته فيك "
وعندما ذهبت آسيا إلى ليبيا للعمل مدرسةً للغة الإنكليزية هناك، قدم الفيتوري المساعدة لها عن طريق أحد أقارب القذافي، فكتب لها من القاهرة في 13/6/1999 " إلى آسيا: الطريحي، كيف أتحدث إليك .. بالتحية الصادقة أولًا.. أم بالاكتفاء، بالنظر إليك.. من بعيد.. ثقي إنني دائماً أوصي الآخرين بك .."
بلغ عدد الرسائل المنشورة في الكتاب سبعاً وعشرين رسالة، من العام 1971 إلى العام 1999، موزعة بين إهداءات على الكتب أو رسائل توصية، أو رسائل خاصة، وربما هناك رسائل أخرى لم تنشر!! ويلحظ على هذه الرسائل قصرها، ولغتها الصوفية المشعّة، فتقتصر على الوصف الروحي للأنسة آسيا الطريحي، فهي الأميرة، والنبيلة، والمضيئة ... والإشارة إلى حزنها (والفيتوري شاعر حزين أيضاً) والحنين للقائها، ثم السؤال عن الأسرة، لكنه في إحدى الرسائل يكتب لها بسخرية عن مؤتمر المفكرين العرب الذي انعقد في بنغازي!! " آسيا، مرحباً يا آسيا .. اغفري لي يا آسيا ... من بنغازي أكتب إليك أنا هنا للاشتراك في مؤتمر المفكرين العرب ... أول مرة أدعى الى مثل هذا المؤتمر (المفكرون العرب) كأن لدينا مفكرين .. كأنني مفكر ..."
فهل نستطيع القول إن ثمة نقد لنظام القذافي كامن في لاوعي الفيتوري، وقد خرج من مكمنه مع رسالة الحبّ هذه؟؟!!!
لكن علاقة الحب الروحي هذه لم تنته إلى الزواج!! لقد بقيت أسيرة الورق، وطيّ القلوب، وعندما استفسرتُ من الآنسة آسيا الطريحي عن سبب ذلك، أجابتني متأسفة بالجواب الذي أعرفه، ولا شكّ في أنّ القراء يعرفون الجواب أيضاً.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top