قضية للمناقشة: تلاعب الرأسمالية بالدين

آراء وأفكار 2018/10/23 06:06:25 م

قضية للمناقشة: تلاعب الرأسمالية بالدين

فريدة النقاش

" رب صدفة خير من ألف ميعاد" ، ينطبق هذا القول الشائع على التزامن الذي حدث خلال الأيام الماضية بين إطلاق سراح القس الإنجيلي الأمركي « أندرو برانسون « من السجون التركية، وبين اقتراب مرشح اليمين المتطرف والعنصري " جايير بولونارو " من مقعد الرئاسة فى البرازيل بعد حصوله على 46 % من الأصوات فى الجولة الأولى، وهو أيضاً إنجيلي متحول من الكاثوليكية.. وتساعدنا بعض الحقائق المرتبطة بالإنجيليين البروتستانت على إجلاء وضع عالمي مرتبك يجري فيه تلاعب دوائر الرأسمالية المعولمة بالدين وإدخاله في السياسة بقوة فى سعيها المستميت للخروج من أزماتها، وهي تساند فى هذا السياق كل أشكال التطرف الديني وإن إدعت أنها تحاربه.
يشكل الإنجيليون قوة تصويتية متنامية الأعداد فى الساحة الأميركية، وهو ما دفع بالرئيس «ترمب» إلى فرض عقوبات اقتصادية على «تركيا» للإفراج عن القس الإنجيلي « أندرو برانسون» سعياً لكسب أصوات الإنجيليين للحزب الجمهوري في انتخابات مجلس الشيوخ والنواب الشهر القادم.
ويرتبط الإنجيليون إرتباطاً وثيقاً بالمسيحية الصهيونية، التي يغذيها ويطورها رأس المال اليهودي في العالم أجمع، وتعتمد عليها إسرائيل إعتماداً متزايداً من أجل تجسيد مجموعة الخرافات التوراتية حول الوعد الإلهي المزعوم لليهود باعتبارهم شعب الله المختار، وفي إطار هذا الوعد تسعى الدولة الصهيونية إلى أن يتقبلها العالم كدولة يهودية، إذ ربطت مبكراً ومنذ نشأتها بين الدين والقومية وهي تبنى مشروعها القائم على اغتصاب أرض فلسطين وطرد شعبها، وصولاً إلى إصدار قانون القومية العنصري مؤخراً.
ولما كانت الكنيسة الكاثوليكية التي تنتمي لها نسبة معتبرة من مسيحيي العالم هي التي لم تتهم اليهود بصلب المسيح، حتى وإن كان أحد بابوات الفاتيكان قد برأهم، فإن الذاكرة المسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية بقيت على امتداد مئات السنين تحتفظ بهذه الذكرى الأليمة، وحتى يحرر تاريخه من هذا الإثم، وفى سياق استعداده لترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، توجه «بولسونارو» مع أولاده فى عام 2016 إلى «الأردن» برفقة كاهن إنجيلي قام بتعميدهم فى مياه نهر الأردن، ومن ثم تحول من كاثوليكي يميني متطرّف إلى أنجيلي متعصب ليضمن تأييد 28 % من مواطنيه الذين يتبعون المذهب البروتستانتي الإنجيلي كما يضع الأمر الزميل "شوقي الريس" .
وقد باتت الكنيسة الإنجيلية اليمينية تشكل قطباً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً مهماً فى البرازيل الكاثوليكية، إذ تملك أكثر من 14 ألف كنيسة موزعة على كل الولايات، ويرأسها الأسقف « أديرماسيدو» الذي يملك ثاني أهم محطة للتليفزيون فى «البرازيل» إضافة لثروة طائلة، وكرست هذه المحطة التليفزيونية معظم أنشطتها لتغطية حملة « بولسونارو « وحشد أنصار من أبناء الطائفة للتصويت له.
ولعبت هذه الكنيسة وأموالها وأتباعها وتوجهاتها الصهيونية أدواراً معتبرة فى تشويه سمعة حزب العمال البرازيلي ومؤسسه وزعيمه « لولا داسيلفا « الذي يقبع فى السجن، ونجحت إلى جانب عوامل أخرى في إزاحة رئيسة الجمهورية « ديلما روسيف» التي خلفت داسيلفا، وواصلت سياسته في انتشال ملايين البرازيليين من الفقر المدقع، وهو ما لم تغفره لهما مؤسسات الرأسمالية المتوحشة، ولا أقطاب اليمين الشعبوي الذي يجتاح العالم غالباً على أجنحة التلاعب بالدين، وإغراق البسطاء والمهمشين العاجزين عن العيش في وهم الحياة الساحرة ومباهجها في الآخرة، وحتى تتجنب تبعات نضال هذه الملايين من أجل حقوقها وكرامتها في هذه الدنيا، وتدير الرأسمالية المعولمة صراعا بين الأديان والطوائف لتحجب الصراع الأساسي بين رأس المال والعمل.
ولا ينفصل هذا التوجه العالمي عن ما يحدث فى بلداننا من النمو المتزايد والمسلح لجماعات الإرهاب التي ترفع الشعارات الدينية، والتي نجحت حتى الآن فى تعزيز مشروعية إسرائيل الدينية حين طابقت بين اليهودية كديانة والصهيونية كمشروع سياسي عنصري وأصبح الصراع يدور بين اليهودية من جهة والإسلام من جهة أخرى بعد إزاحة الطابع التحرري لنضال الفلسطينيين والعرب عامة ضد المشروع الإستعماري الإستيطاني العنصري الذي أسسته الإمبريالية على أرض فلسطين.
وكانت فلسطين في ذروة حركة التحرر الوطني العالمي فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي تحتل مكاناً مرموقاً فى قلب هذه الحركة، والتف حولها ملايين المناضلين من كل أنحاء العالم ولكن مشروع إغراق العالم ومنطقتنا على نحو خاص فى الصراع الديني كان حينذاك قيد التشكل، وأخذت الوشائج بين هذا المشروع والتراث الدامي للفاشية تتضح، حتى إن كاتبا إسرائيليا قال: إن تعيين « أفيجدور ليبرمان»، وهو مهاجر روسي كان يعمل حارساً لأحد الملاهي وزيراً للدفاع يؤكد أنه لأول مرة فى تاريخ الدولة أصبح خطر الفاشية خطراً حقيقياً، لا بل محدقاً.
كان الراحل «سمير أمين» محقاً وصادقاً حين اعتبر وحدة التحليل التي يتعامل معها منهجةه العلمي الاشتراكي هي العالم بأسره، ذلك أن الرأسمالية أدركت هذه الحقيقة في هذه المرحلة من العولمة، وخططت للتعامل معها على هذا النحو بكفاءة ومقدرة، وها هي حركة المسيحية الصهيونية اليمينية والعنصرية تلتقط الخيط والمعنى وتمد شباكها على الصعيد العالمي باعتبار أن العالم كله هو ميدانها، وتغرس جذورها في كل من أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية في سياق الستراتيجية الشاملة للرأسمالية العالمية متعددة الجنسيات والتي تنهض على التلاعب بالدين بتشجيع ودعم الجماعات الدينية في كل مكان، ولن ننسى نحن فى مصر الدعم غير المحدود الذي قدمته كل من بريطانيا وأميركا لجماعة الإخوان المسلمين سواء حين تأسيسها، أو فى غضون مساعدتها للإستيلاء على السلطة فى مصر بعد الموجة الأولى من الثورة في 25 يناير 2011.
وعلينا نحن أن نرد الاعتبار لقيم التحرر والشروع فى بناء أممية جديدة قوامها المنتجون والعاملون في كل أرجاء المعمورة الذين تتسع الأرض المشتركة بينهم ضد الرأسمالية ومن أجل عالم جديد يجري فيه فضح التلاعب بالدين، عالم ترفرف عليه رايات العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية إذ الله واحد والإنسان واحد.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top