قراءة في كتاب: 21 درساً للقرن الحادي والعشرين

قراءة في كتاب: 21 درساً للقرن الحادي والعشرين

لطفية الدليمي

أستاذ التأريخ الرؤيوي ، العلماني ، والمتأمل البوذي
نشر أستاذ التأريخ العالمي يوفال نوح هراري Yuval Noah Harari كتابه الأخير المعنون ( 21 درساً للقرن الحادي والعشرين ) في التاسع والعشرين من شهر أغسطس - آب الماضي ، ومن المتوقّع أن يحقق هذا الكتاب مبيعات عالية بعدة ملايين من النسخ بمثل ماحقق كتاباه السابقان ( البشر العاقلون : موجز تأريخ البشرية ) و ( الإنسان الفائق : موجز تأريخ الغد ) . جاء كتاب ( البشر العاقلون ) ليكون رحلة إستكشافية لإعادة قراءة التأريخ البشري وامتحان المواضعات الراسخة بشأنه ، ثم أعقبه كتاب ( الإنسان الفائق ) ليكون دراسة مستقبلية للآفاق والمخاطر المحدقة بالكائن البشري ؛ أما الكتاب المنشور حديثاً ( 21 درساً للقرن الحادي والعشرين ) فهو دراسة بحثية معمّقة للوضع البشري المعاصر وامتحان العناصر الفاعلة فيه بوجهة نظر تنطوي على قدر غير قليل من الجدّة وبما يجعل هذا الكتاب ( كسائر كتب هراري ) مساءلة فلسفية للأفكار أكثر من كونه محض دراسة تقنية كتلك التي نشهدها في الأدبيات الخاصة بالمستقبليات والتنبؤات وديناميات الصيرورة البشرية في جوانبها كافة .
يُعرَف عن هراري ( المولود عام 1976 ) ولعه الطاغي بالموضوعات المتعلقة بإعادة مساءلة الوضع البشري وبخاصة في الجوانب المعنية بالإرادة الحرة ، والوعي ، والذكاء - المعرفي والإصطناعي معاً - ، وهو يُفرِدُ تأكيداً خاصاً في كلّ كتاباته على " الثورة المعرفية " والكيفية الثورية التي نقلت حال الإنسان العاقل إلى ماهو عليه في يومنا هذا ، ولاينسى هراري بالطبع دراسة كلّ الثورات الأخرى ( الثورة الزراعية ، الثورة العلمية ،،، ) وتأثيراتها الحاسمة في تشكيل معالم الحضارة البشرية . يُعرَفُ عن هراري كذلك إنه نشأ في عائلة يهودية علمانية ذات جذور لبنانية وأوروبية شرقية ، وهو يتبع في حياته نمطاً بوذياً خاصاً ويمارس التأمل اليومي لمدة ساعتين : واحدة صباحاً والأخرى مساءً ، ويرى أنّ بوسع التأمل أن يكون أداة بحث أصيلة تفتح مغاليق مجهولة أمام العقل البشري . يعرَفُ عن هراري كذلك معارضته الراسخة للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ( والقضية الفلسطينية بعامة ) ويرى أن السلطات الإسرائيلية تمارس نوعاً من السيطرة والإستبداد تجاه الشعب الفلسطيني نابع من الشعور الطاغي بالتفرّد المعرفي والفائقية التقنية ، وهو لايفتأ يذكّرُ بأنّ هذه الغطرسة الإسرائيلية شبيهة بذلك النوع من الإستبداد والعبودية الرقمية التي سيخضع بها البشر لسطوة الآلات المفكّرة بعد بلوغ الذكاء الإصطناعي تخوماً غير مسبوقة في العقود القادمة .

هيكل الكتاب
يتوزّع الكتاب - إلى جانب مقدمته الثرية - على خمسة أقسام ، ويحتوي كلّ قسم على عدد من الفصول التي إختار لها هراري عناوين رئيسية متبوعة بعناوين فرعية ذات دلالة درامية تدعم العنوان الرئيسي : القسم الأول بعنوان ( التحدي التقني ) ويضمّ أربعة فصول هي ( التحرر من الوهم ) و ( العمل ) و ( الحرية ) و ( المساواة ) ؛ أما القسم الثاني فهو بعنوان ( التحدي السياسي ) ويضمّ الفصول التالية : ( الجماعة البشرية ) ، ( الحضارة ) ، ( القومية ) ، ( الدين ) ، الهجرة ) ، ثمّ نقرأ في القسم الثالث المعنون ( اليأس والأمل ) عناوين الفصول التالية : ( الإرهاب ) ، ( الحرب ) ، ( التواضع ) ، ( الإله ) ، ( العلمانية ) ، بعدها ينتقل هراري إلى القسم الرابع الخاص بموضوعة ( الحقيقة ) ويتناول فيه الفصول التالية : ( النكران ) ، ( العدالة ) ، ( مابعد الحقيقة ) ، ( الخيال العلمي ) ، ثمّ يختم هراري كتابه بقسم يختص بموضوعة غريبة هي ( المرونة والقدرة على التكيف في أشكال جديدة ) ونقرأ فيه عن الفصول التالية : ( التعليم ) ، ( المعنى ) ، ( التأمّل ) .

المعضلات العظمى التي تواجهنا في القرن الحادي والعشرين
ليس بمقدور أيّ كائن بشري أن يتغافل - أو حتى يصطنع الغفلة - عن القلق بشأن طائفة كبرى من الموضوعات التي باتت همّاً إنسانياً يتشاركه الجميع ، وتأتي موضوعات الإرهاب ، وفرط الإحترار المناخي ، والصعود الدراماتيكي المتوقع لتطبيقات الذكاء الإصطناعي وخوارزميات الذكاء العميق ، وتراجع التعاون العالمي في مقدمة تلك الموضوعات ؛ لكن ثمة الكثير من الموضوعات الأخرى التي قد يغفل عناها الكثيرون لأنها لاتمثّل حتى الآن - ربما - مخاطر جدية بات يستشعرها الإنسان في حياته اليومية .
يتناول هراري في كتابه ( 21 درساً للقرن الحادي والعشرين ) هذه المجموعة الكبرى من المعضلات ، و يرى أنّ التعامل الأفضل مع هذه المعضلات لايكون بنكرانها بل بالإختيار الحكيم لما يستحقّ التفكّر فيه منها أولاً ، ثمّ في تحديد كمّ القلق الواجب ازاءها ثانياً . يتساءل هراري في مقدمة كتابه : " ماهي التحديات الأعظم والتغيّرات المهمة التي تواجهنا اليوم ؟ ومالذي ينبغي أن نهتمّ بشأنه من تلك التحدّيات ؟ وماالذي ينبغي أن نعلّمه لأطفالنا ؟ " .
يختلف هراري عن غيره من دارسي المستقبليات وتأريخ الأفكار والباحثين في الوضع البشري بعامة حيث أنه لايكتفي بتعريف المواضعات السائدة ومن ثمّ كتابة الوصفات الأنيقة والمختصرة اللازمة للتعامل معها بل نراه دوماً في كلّ كتبه يمتلك ولعاً طاغياً في مساءلة الأفكار المعروضة وتعريفها ومن ثمّ تناول شتى وجهات النظر بشأنها في سياق منظور ثري بالإستبصارات الفلسفية المدعمة بالوقائع التأريخية .

التجارب الفكرية في دراسة التأريخ البشري
تعدّ التجارب الفكرية خصيصة فارقة تميّز أطروحات هراري ومقارباته الخاصة في دراسة التأريخ ، وقد نجح نجاحاً فائقاً في نقل التجارب الفكرية من حقل الفيزياء النظرية إلى ميدان دراسة التأريخ . يطرح هراري على سبيل المثال في كتابه هذا تجربة فكرية ذكية لفهم الكيفية التي صنع بها البشر حضارة عالمية وبلغوا بهذا شأواً بعيداً ، ويكتب في هذا الشأن : " تخيّلْ محاولة تنظيم ألعاب أولمبية عام 1016 . يبدو الأمر مستحيلاً بشكل واضح ؛ فالآسيويون والأفارقة والأوربيون لايعرفون بوجود الأمريكيين ، وإمبراطورية ( سونغ ) الصينية لاترى أية إمكانية لوجود كينونة سياسية في العالم يمكن أن تعادلها بأي شكل من الأشكال ؛ بل حتى ليس ثمة أحد من المشاركين يمتلك علماً يرفعه أو نشيداً وطنياً يردّده في إحتفاليات الفوز .... " .

لماذا يبدو العالم في حالة إنكفاء ؟
يتساءل هراري : بعد كلّ هذا الفتوحات العالمية في ميادين العلم والتقنية ، لماذا يبدو الأمر وكأنّ العالم في حالة تراجع وانكفاء ؟ يجيب هراري على هذا التساؤل الجوهري بأنّ السبب يكمن في أننا لم نعُد نطيق أبدا أدنى مظاهر البؤس والشقاء بالمقارنة مع ماكان سائداً قبل عقود خلت ، ومع أنّ حجم العنف السائد في العالم أصابه تراجع عظيم ( على غير مايتوقع كثيرون ) فإننا لانفتأ نوجّه أبصارنا نحو هؤلاء الذين يموتون كلّ سنة بسبب الحروب لأنّ غضبنا أزاء مشاهد اللاعدالة والظلم قد نما نمواً غير مسبوق ، وتلك مزية أخلاقياتية عظمى يتغافلها الكثيرون نتيجة سوء فهم مزمن وإدراك قاصر يعجز عن رؤية الصورة العالمية في إطارها الشمولي .

العالمي والشخصي في إطار واحد
يختصّ هراري في كتابه هذا بميزة فريدة تكمن في قدرته على جعل الموضوعات العالمية تتضافر مع المنابع الشخصية في إطار هيكل واضح لصورة العالم ، ونراه يكتب بهذا الشأن في مقدمته للكتاب :
" مع أنّ هذا الكتاب يتخذ منظوراً عالميّ الأبعاد لكني لاأطرح المستوى الشخصي جانباً ؛ بل على النقيض أنا أسعى للتأكيد على الروابط المتينة بين ثورات عصرنا والحيوات الفردية للكائنات البشرية . الإرهاب ، على سبيل المثال ، هو معضلة سياسية عالمية بمثل ماهو آلية سايكولوجية ذاتية ، ويعمل الإرهاب من خلال الضغط على زرّ الخوف الماكث عميقاً في عقولنا ومن ثمّ إختطاف الخيال البشري الخلاق لملايين الأشخاص والإستحواذ عليه وتوجيهه نحو وجهات شريرة ، والحال مشابه مع الديمقراطية الليبرالية التي تجري ممارستها لا في أروقة البرلمانات ومحطّات الإقتراع فحسب بل على نطاق العصبونات والوصلات العصبية . إنّه لمن الكلام المقطوع بصحته ( الكليشيهات ) القولُ أنّ القناعات الشخصية هي التي تحدّد شكل الهياكل السياسية ؛ ولكن في عصرٍ بات فيه العلماء والمؤسسات والحكومات يتلمّسون وسائل القدرة على تدجين العقل البشري فإنّ الحقيقة البدهية السابقة تكون أكثر مجلبة للشر ممّا سبق في عصور مضت ؛ وعلى أساس هذه الحقيقة فإنّ هذا الكتاب يوفّر للقارئ مرتسمات بشأن سلوك الأفراد وسلوك المجتمعات ككيانات كلية . "


21 Lessons for the 21st Century
Vintage Publishing Co.
368 Pages
2018

تعليقات الزوار

  • عادل عبدالله

    احتاج لنسخة من الكتاب مترجمة للعربية

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top