شاكر خصباك.. رحيل الأديب والعالم

شاكر خصباك.. رحيل الأديب والعالم

د. علي حداد

هو واحد من أعلام المعرفة والثقافة في العراق ومن الذين فقدهم العراق في مرحلة مهمة من تارخه انه : الدكتور، العالم ،الجغرافي ،الأديب العراقي الرائد (شاكر خصباك ) الذي رحل عن عالمنا امس الاول والذي ماتزال يد التبجيل تشير إليه بأصابعها كلها ، لجهوده التي لم تنقطع ، وفي مجمل المجالات المعرفية والإبداعية تلك التي نذر لها سني عمره كله .

إنه الأستاذ القدير الذي نهلت من فيض علمه الجغرافي ـ تدريساً وتأليفاً ـ أجيال من الدارسين والباحثين في جامعات العراق والسعودية واليمن ، وسواها من الجامعات التي تتناول فكره الجغرافي وتدرسه .
وهو ـ سابقاً لذلك ومتماهياً معه ـ الكاتب والقاص والروائي والمسرحي الثر العطاء الذي تمتد مسيرة منجزه منذ خمسينيات القرن الماضي ، وحتى وقت قريب ،من دون أن ينقطع مددها الذي اختط له صاحبه يقيناً خاصاً ومؤكداً من الرؤية والموقف اللذين لم يفارقهما مع طول هذه المسيرة النبيلة من العمر والانجاز .
أدرج اسم (شاكر خصباك) محاطاً بالتقدير الذي هو حفي به في أكثر من موسوعة للأعلام ومعجم لمشاهير الثقافة العالمية ، فهو في (قاموس سير الحياة العالمي) الصادر من جامعة كامبردج العام2000م : " واحد من علماء الجغرافية المعاصرين الذين أغنوا هذا العلم بمؤلفاتهم وترجماتهم الجادة " . ويكتب عنه معجم (ريهاسمنتو) الدولي في دلهي الصادر في العام 2006م مثل ذلك وأكثر ، وتختاره (المؤسسة الأمريكية لسير الحياة) واحداً من صفوة مثقفي العالم لعام 2004م ، لتميزه في ثلاثة حقول : الأدب والجغرافية والتعليم .
أرسى هذا المثقف مكانته من خلال متحقق ثقافي صنعه بدأب مكتشف وإصرار عاشق، وبفاعلية مكتملة الأدوات واليقين ، وعبر مسيرة تجاوزت العقود السبعة ، واصل خلالها عطاءه: (المعرفي) في علوم الجغرافية ، و(الأدبي) في فنون السرد المختلفة التي كيفها ـ على وفق رؤاه السياسية الناضجة ـ وفي انشغالات فكرية لم ينأى عنها فيما كتبه كله ، موائماً ـ ومنذ مراحل شبابه الأولى ـ بين الأفقين اللذين يبديان لغيره متباعدين . من دون أن يتأثر غزير إنتاجه الكتابي بين هذا وذاك ، أو تزاحمه انشغالاته الإنسانية . كما لم تثنه عن ذلك ظروف دراسته وتدريسه وإقامته في أكثر من بلد ومدينة وارتحاله المزمن عن بيته ومكتبته.
لقد ترسخت مسيرة المنجز السردي عند شاكر خصباك وعلى امتداد الستين عاماً الماضية. فقد شهد العام 1948م صدور مجموعته القصصية الأولى (صراع) وهو لما يبلغ الثامنة عشرة من العمر ، تلك المجموعة التي رحب بها كثير من الأدباء العراقيين والعرب ، وأشادوا بقدرات كاتبها (الكبير) ، إذ لم يتصور الكثير منهم أنها لشاب في مقتبل عمره ، لما فيها من تمكن من أدوات السرد القصصي ووعي فكري واجتماعي عاليين ، يتبعها في العام 1951م بمجموعته الأخرى (عهد جديد) ، ثم (حياة قاسية) في العام1959م . ليتجه ومنذ العام 1962م إلى أفق السرد الأوسع حيث المسرح الذي نشر فيه مسرحيته الأولى (بيت الزوجية) ، تترى بعدها ثماني عشرة مسرحية. وحيث الرواية التي كانت أولاها (السؤال) عام 1966، تبعتها خمس عشرة رواية . أما في الدراسات الجغرافية ـ تأليفاً وترجمة ـ ومثلها الأدبية فلخصباك عدد كبير منها ، كلها مما يعلن عن وعيه المتميز وحرصه ودقة ملاحظته ورصده العميق . ولعل كتابه عن (أنطوان تشيخوف) ـ الصادر في العام 1954م ـ كان رائداً في لفت انتباه المبدعين العرب إلى مقدرته ووعيه من جهة ، وإلى قيمة منجز (تشيخوف) وخصوصيات اشتغالاته وجماليات سرده ، من جهة أخرى .
ينتمي المشهد السردي لشاكر خصباك ـ مسرحيات وروايات وقصصاً قصيرة - إلى وجهة تنماز بخصلتين أساسيتين لم يعرف عنه أنه فارقهما أو سعى إلى غيرهما: الأولى ، وتلخصها الرؤية الواقعية الرصينة التي هي عليها،والأخرى كونها تعلن عن انتماء جيلي خمسيني خالص لم تنأى عنه على مساحة الامتداد الزمني الذي تشغله. وهي حالة تتجاوز التمثل الفكري وانهماكاته لتصبح ارتكاناً لا حياد عنه وممارسة سلوكية يتم استنطاقها في الممارسة الأدبية وبحرص شديد على كامل اشتراطاتها.
إن الكتابة عند شاكر خصباك - وبمختلف أجناسها وتنوعها التعبيري- هي تمثل لواقع إنساني تؤثر قيمه وتقول كلمتها فيه ، وتحاور متلقيها ليشاركها اليقين السلوكي والمعرفي الذي تتبناه. وفي ذلك يؤسس خصباك لفاعلية التواصل مع الآخر تلك التي يعدها من المرتكزات الأساس في توجهه الكتابي، حيث يعلن في واحد من الحوارات الأدبية معه : " أن من جملة بواعث انصرافي إلى الكتابة هي رغبتي في إيصال أفكاري إلى القراء على نحو مباشر " . لقد جعل ذلك من الواقعية ـ بسمتها المباشرـ فاعلية مهيمنة على مجمل التوجهات الثقافية التي شغلت بها الساحة العراقية ـ في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته ـ وفي جوانب وعيها المختلفة التي كان الأدب والفن السائدين من أبرز تمثلاتها الشاخصة .
ولأن شاكر خصباك ينتمي ـ بمدركه من الفكر وتمثله الأدبي له ـ إلى تلك المرحلة فقد جسدت أعماله ومواقفه وكتاباته تلك الرؤية، فتلمست طريقها نحو منجز واقعي يتمثل القيم الاجتماعية وما تتأسس عليه من أشكال متصارعة، في مواقف يقينية تعد الأدب رصداً لتفاعلات الواقع الاجتماعي والممارسات السائدة فيه على مستوى وعي الذات الفردية بها، وفي أفق حضورها الجمعي المعلن.
ذلك هو الدكتور (شاكر خصباك) الذي لا تريد هذه السطور أن تكون استعادة نقدية لجوانب السطوع النبيل في منجزه الأدبي والعلمي ، بقدر التذكير بما رسخه لذاته ووعيه في أفق الثقافة العراقية المتناهي في اتساعه من حضور وامتداد تاريخي رحيب .
شاكر خصباك ... الذي أعلن عن شخصيته الثقافية مبكراً ومنذ أربعينيات القرن الماضي، ليضعها في مآل الإعجاب والإشادة بما تنجزه من قبل كبار الأدباء العرب ـ حينذاك ـ أمثال: محمود تيمور ومحمد حسن الزيات ونجيب محفوظ وسواهم الكثير.
شاكر خصباك ... الذي لم تفتنه المكانة الشعرية المبرزة لخاله شاعر ثورة العشرين (محمد مهدي البصير)،فيماحك موهبته لتنشغل بالشعر،بل ذهب بوعي وقوة شخصية ليبحث لها عن أفق أدبي آخر،وجده في القصة القصيرة ، ومنها إلى الرواية والمسرحية.
شاكر خصباك ... الذي كنت شاهدا على عديد الدعوات التي قدمت له من قبل الجهات السياسية العراقية بعد سقوط النظام السابق ـ وتحديداً من الرئيس جلال طالباني ومكتبه ـ ليكون مستشاراً ثقافياً له ، ولكنه فضل أن يبقى في اليمن التي أقام منذ الثمانينيات ـ حتى أحداثها الدامية الأخيرة التي أجبرته على أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، ليقيم هناك متدفئاً بوقار منجزه الكتابي وماحمله معه من مودة زملائه وإعجاب طلبته وحفاوة الجهات الثقافية به أينما حل .
شاكر خصباك ... الأديب والعالم ... العراقي ، الحلي ، الأصيل ... الذي ألقت ذاكرة الثقافة العراقية سفرها الطويل بين يديه .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top