قراءة في كتاب..الرواية:  نشأة محفوفة بالمجازفات  وتاريخ مزدهر

قراءة في كتاب..الرواية: نشأة محفوفة بالمجازفات وتاريخ مزدهر

لطفية الدليمي

عن المؤلفة والكتاب
غدت الرواية في العصور الحديثة الشكل الأدبي الأعظم تأثيراً منذ نشأتها كوسيلة الترفيه والإمتاع الرئيسة المؤثرة في الحواس خلال القرن الثامن عشر . تستكشف الأستاذة مارينا ماك كاي في عملها هذا ( مقدمة كامبردج في فن الرواية ) الأوجه الأساسية للفن الروائي وتأريخه من خلال إلقاء ضوء فاحص على طائفة واسعة من الروايات الأكثر شهرة على مستوى العالم كله ، وتتناول ماك كاي على عاتقها مهمة الإجابة على أسئلة من نوع : من أين إنبثقت الروايات ولماذا نقرؤها ؟ وكيف نفكّر إزاء الأساليب والتقنيات الروائية وشخوصها وحبكاتها وأماكنها والسياسات المعتمدة فيها ؟ . ثمة بين الفصول الرئيسية في الكتاب فصول بينية صغيرة تتناول قراءات مطوّلة لبعض الأعمال الروائية المميزة إبتداءً من دون كيخوته Don Quixote وحتى أطفال منتصف الليل Midnight’s Children ، ويحتوي الكتاب في خاتمته على مسرد تعريفي Glossary بالمصطلحات الأساسية إلى جانب دليل توجيهي لقراءات إضافية حول الموضوع وهو الأمر الذي يجعل من هذا الكتاب إضافة مثالية لأية برامج دراسية أولية في موضوعة الرواية .
تعمل الأستاذة مارينا ماك كاي Marina MacCay أستاذة مشاركة للغة الإنكليزية بجامعة واشنطن في سانت لويس ، وتضم قائمة مؤلفاتها العناوين التالية :
- الحداثة والحرب العالمية الثانية ( كامبردج ، 2007 )
- الرواية البريطانية بعد الحداثة ( بالغريف ، 2007 )
- دليل كامبردج المرجعي لأدب الحرب العالمية الثانية ( 2009 )

الكتاب : مقدمة كامبردج في فن الرواية
يضمّ الكتاب أحد عشر فصلاً رئيساً بالإضافة لمقدمة المؤلفة وقائمة القراءات الإضافية والمسرد التعريفي بالمصطلحات المتداولة في حقل الرواية ( والدراسات السردية بعامة ) . يمكن للقارئ أن يتحصّل على رؤية عامة بشأن طبيعة الكتاب من خلال تفحّص عناوين فصوله التي جاءت وفقاً للترتيب التالي : لماذا الرواية ؟ ، أصول الرواية ، سرد الرواية ، الشخصية والرواية ، تشكيل الحبكة في الرواية ، الشروع في هيكلة الرواية ، الزمان والتأريخ ، النوع الأدبي والأنواع الأدبية الثانوية ، الرواية والرواية المضادة ، الرواية - الأمة - المجتمع ، حصيلة إستنتاجية ختامية .
يضمّ كل فصل عدداً من عناوين الموضوعات البحثية المهمة في إطار الفن الروائي منذ بواكير نشأته وحتى عصرنا الحاضر ، وقد راعت المؤلفة أن يكون الكتاب مرجعية معتمدة على المستويين الأكاديمي المتخصّص والثقافي العام وتلك خصيصة تتوفّر عليها سلسلة كتب مقدّمات كامبردج ذات المستوى العلمي الرصين والمادة الفكرية الثرية .

رحلة في عالم الرواية منذ القرن الثامن عشر
يبتدئ هذا الكتاب رحلته بسرد حكاية تلك النشأة الروائية غير الإعتيادية قبل أن تمضي الرحلة في الإيغال بسرد السّمات والتوصيفات الشكلية الخاصة المميزة التي نُقرِنُها في العادة مع الرواية ؛ في حين تختصّ الفصول الأخيرة من الكتاب بأنواع الرواية : رواية النوع الأدبي ، والرواية التجريبية ، والرواية الخاصة بنشأة الأمم والمجتمعات .
يتناول كل فصلٍ في الكتاب ملمحاً شكلياً أو تأريخياً في الرواية ، ويتم هذا الأمر باستخدام أمثلة مستمدة من طائفة روايات تنتمي إلى طيف واسع من العصور والأمكنة ، وثمة بين الفصول الرئيسة قراءات أكثر تفصيلاً وتوسّعاً لبعض الأعمال الروائية المتفرّدة ، ويُقصَدُ من هذه القراءات أن توفّر القدرة على توظيف التعميمات الواردة في الفصول التلخيصية ووضعها موضع الإستخدامات التطبيقية المحدّدة . روعي في الأعمال الروائية التي دُرِست دراسة معمّقة أن تتوافق في ترتيب تأريخ نشرها وبما يجعلها قادرة على تقديم بعض أجزاء مسيرة الرواية - وإن لم يكن المسيرة كلها - إبتداءً من سيرفانتس وحتى سلمان رشدي ؛ ولكن ينبغي في كل الأحوال إعتبار هذه القراءات المعمّقة قراءات إختيارية ، وإذا ماكانت الفصول الرئيسة في الكتاب قادرة وحدها على توفير نظرة مكتفية بذاتها لمادة موضوعها ( مثلما هو مطلوب منها أن تفعل ) فإن القرّاء - من الطلبة والقراء العموميين - يمكن لهم أن يختاروا أعمالاً روائية وفق ذائقتهم الخاصة ليستعيضوا بها عن قائمة الأعمال الروائية التي إنتخبتها المؤلفة ؛ ومع أنّ الكتاب يجنح نحو إنزياحٍ تأريخي في مقاربة موضوعاته بحيث أنه يقترب رويداً رويداً بإتجاه يومنا هذا مع المضي في فصوله فإن مادته الرئيسية قد صُمّمت بعناية لتكون مكتفية ذاتياً وبحيث يمكن قراءة الفصول على نحوٍ إختياري وَ / أو خارج سياق الترتيب المحدّد لفصول الكتاب .

لغة إصطلاحية ضئيلة في مقابل ثراء الموضوعات الروائية
عندما يظهر لأول مرّة في الكتاب ماقد يبدو مصطلحاً غير مألوف لدى القارئ فقد تعمّدت المؤلفةإظهاره بلون غامق bold متى ماورد للمرة الأولى فحسب وهو مايعني أنّ في وسع القارئ أن يرى تعريفاً لذلك المصطلح في قائمة المسرد التعريفي Glossary الواردة في خاتمة الكتاب ، والحقّ ثمة القليل فحسب من التعقيدات الإصطلاحية في هذا الكتاب ولكن يبدو أن لامناص أحياناً من اللجوء إلى اللغة الإصطلاحية الدقيقة لأنها تخدم كوسيلة إيضاحية عظيمة الفائدة تتيح أمام القارئ رؤية أمور لم يكن خليقاً برؤيتها من غير اللجوء إلى اللغة الإصطلاحية الدقيقة اللازمة لوصف تلك الأمور .

الرواية والحقيقة
ثمة في الفصل الأوّل الموسوم ( لماذا الرواية ؟ ) مقاربة فلسفية رائعة لبيان العلاقة الشائكة بين الرواية والحقيقة ، وتوظّف المؤلفة في هذا الشأن مشهد الصف الدراسي الشهير الذي يفتتح به تشارلز ديكنز روايته ( أزمنة عصيبة Hard Times ) ( 1854 ) عندما يسأل السيد غرادغريند ذو الطبيعة المتحذلقة بطلة الرواية أن تُعرّف الحصان ، ومع أن بطلة الرواية ( سيسّي جوب ) كانت قد صرفت معظم حياتها قريبة من المُهور التي تُستَخدَم في إستعراضات السيرك فقد أطرقت بصرها وظلّت ساهمة لاتقوى على الجواب ، وعندذاك يندفع زميلها في الصف الدراسي المدعوّ بيتزر في تقديم الإجابة المنتظرة :
( رباعي القوائم ، يعتاش على الحشائش العائدة للفصيلة النجيلية . له أربعون سناً وبالكيفية التالية على وجه التحديد : أربعة وعشرون من الطواحن ، وأربعة من الأنياب ، وإثنا عشر من القواطع . يتساقط غطاؤه من الشعر الحامي له في الربيع ، وفي مناطق المستنقعات المائية تتآكل حوافره أيضاً . حوافره الظلفية قاسية بما يكفي لتتحمل تثبيت حَدَواتٍ حديدية عليها . يمكن للمرء معرفة عمره من علاماتٍ في الفم ....... )
تعلق المؤلفة بهذا الشأن قائلة : " يريدنا ديكنز أن نشعر بأن هذا التعريف للحصان خاطئ بقدر ماهو صائب ، وأن كل دقة الحقائق الواردة فيه لاتدفعنا في واقع الأمر للإقتراب من إستيعاب موضوعة الدراسة ( الحصان ) ..... " ، ثمّ تندفع المؤلفة في رحلة بحثية ماتعة حول تعريف الرواية والتحديثات المتتالية التي طرأت عليه بسبب مفاعيل الزمان والمكان والبيئة الثقافية والمستجدات العلمية والتقنية وارتقاء الرؤية الفلسفية للإنسان والحاجات الوجودية الجديدة .

بدايات مكتنفة بالشكوك والعدوانية
من الغريب حقاً أن نقرأ عن كل نوازع الشك والعدوانية التي قوبلت بها الرواية في سنوات بواكيرها الأولى في القرن الثامن عشر ، وإذا كانت الرواية قد نالت تلك الأهمية الفائقة في عقودها الأولى عندما كانت بالكاد تدعى " رواية " فذلك لأنّ هذا النوع الأدبي الذائع الشهرة والإنتشار بدا إنكاره وتجاهله عملاً طائشاً يتّسم بخطورة بالغة . كان الشعور السائد آنذاك بأن الروايات أولاً وقبل كل شيء تترك القارئ المدمن على الرواية وهو ( ممتلئ بالتقزز والإشمئزاز أزاء كل شيء جدّي أو ذي أهمية في الحياة ) ، وثانياً ( تزرع الرواية بذور الرذيلة والحماقة في القلب ،،، والعواطف الشغوفة توقَظُ من سُباتها ،،، ويتم رفع شأن التوقعات الخائبة الكذوب ) ، وثالث الأمور وأخيرها ( تجعل الرواية الشباب اليافعين يتوهّمون في أنفسهم القدرة والصلاحية على إدانة غيرهم من الشباب وكذا الأمر مع إدانة عاداتٍ غير عاداتهم ) . بكلمات أخرى يمكن إختصار ماورد أعلاه بالقول إنّ الروايات تغرس الرعونة الفكرية في الأذهان وتمنح الفتيات أفكاراً غير واقعية بشأن ماقد يتوقّعنه من مستقبلهنّ ( لأن المستقبل بالنسبة لهنّ كان يعني الخاطِب المُنتظر فحسب ) ، وإنّ الروايات تعمل على تضليل الشباب ودفعهم للإقتناع بأنّهم يعرفون تمام المعرفة الطريقة التي يعمل بها العالم !! .

الدكتور جونسون وأهمية الفنّ الروائي
في مقابل روح الشك والعدوانية السابقة ، وجّهت الرواية بؤرتها الكاشفة بحسب رؤية صامويل جونسون Samuel Johnson عام 1750 نحو ( الحياة في حالتها الواقعية الصادقة التي تتخللها الأزمات والحوادث مثلما يحدث يومياً في العالم ، وتؤثّر فيها العواطف والمنغّصات التي لاسبيل إلى تفاديها متى ماتفاعلنا مع الإنسانية ) ، ثمّ يمضي الدكتور جونسون في تأكيد رؤيته هذه في أطروحته التأريخية المسمّاة ( الرواية الواقعية الجديدة ) حيث نقرأ فيها رأيه الحاسم في فن الرواية :
" ... هذه الكتب ( أي الروايات ) قد كُتِبت بصورة رئيسية لمخاطبة اليافعين والجّهَلَة والضّجِرين المُتبرّمين بالحياة : هؤلاء الذين يمكن أن تكون الرواية لهم بمثابة محاضرات في السلوك المتحضّر بمثل مايمكنها أن تكون مداخل تتيح لهم ولوج مغاليق الحياة . هذه الكتب هي ترفيه ومتعة للعقول غير المُهيّأة للتعامل مع الأفكار ، وبسبب ذلك صارت هذه العقول سهلة الإستثارة من خلال الإنطباعات غير المحكومة بمبادئ مسبقة ، كما بات هؤلاء سريعي الإنغمار في تيّار الوهم لافتقادهم إلى مَدَدٍ من خبرة أو تجربة وبالنتيجة هم يتقبّلون أي إقتراحات مضلّلة ولايتردّدون في اتخاذ آراء ومواقف منحازة ..... " .

Marina MacCay
Cambridge Introduction to the Novel
Cambridge University Press , 2011
230 Pages

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top