جيسي ماتز: تطور الرواية الحديثة من حواضن التنوير الفكري إلى البحث عن حيوية الكتابة في ظل العولمة

جيسي ماتز: تطور الرواية الحديثة من حواضن التنوير الفكري إلى البحث عن حيوية الكتابة في ظل العولمة

أمين غانم

تظل الرواية كتاب الحضارة ( بدءاً من الاوروبية ) الأثير ،وحاجة الإنسان للإرتقاء للأعلى كفعل إنساني خالص ،حيث جاءت كتفتق للأمل بين الحدود الفاصلة لموت حضارة وولادة أخرى ،وكل ماينبت في الأنقاض سيغدو بلاريب علامات بليغة تعكس طوراً حيوياً ووجودياً يختلف تماماً عما قبله.
هكذا سايرت الرواية الحضارة الاوروبية تحديداً من النشء والشباب وحتى الشيخوخة إن جاز لنا التعبير ،ولهذا نجدها تتلون بلون التقلبات التاريخية سلباً وإيجاباً ،حروباً وسلماً ،فهذا الفن السردي قد تجاوز فضاءاته الأوروبية إلى اللاتينية والافريقية وغيرها من الأصقاع ،ولم يعد مصيره مرتبطاً بحضارة ما ،كما أن الرواية ليست غاية او هدف بعينه بقدر ماتشكل حالة إلتقاء بين ثلاث أضلاع ،الإنسان والزمان والمكان ،ولن تكون شكلاً مطلقاً لحالة التلاقي تلك ،حتماً سيداهمها التطور ،ومن يدري إلى ماذا ستؤول ؟ .

كان للحرب العالمية الأولى تأثير صادم على الكتاب والمثقفين حينها مما حدا بهنري جيمس ،للقول :
سقوط الحضارة في هذه الهاوية من الدم والظلمة،أطاح بذلك الشيء الذي لطالما أفترضناه (كوة الامل ) التي ستمكننا من رؤية ماسيؤول إليه العالم ....الذي يرتقي بشكل تدريجي ،أو كما لاحظ مودريس إيكشتاين بأن نزاهة العالم الواقعي وعدالته ،العالم المحكم التنظيم ..قد تقوضت تماماً .
إذن وضع كل شيء محل المساءلة والمراجعة كما يقول جيسي ماتز ( المؤلف ) لا الحرب وحدها بل كل القيم والمثل وحتى الواقع ذاته وبدا الأمر كما لو ان الحرب جعلت كل هذه القيم تبدو مثل ( كذبة كبيرة ) ،الحضارة عدت وهما كاذبا ،والحداثة باتت خطراً داهماً وغدت الحقيقة في حاجة ماسة إلى طريقة جديدة في النظر إلى العالم وفهمه ..
الحرب تسببت بخيبة امل كبيرة غير مسبوقة دفعة الإنسانية الى التحرر من الوهم الذي مكثت فيه من قبل ،وكتب بول فوسيل ( عكست الحرب فكرة الإرتقاء والتقدم) .
نشأت الرواية الحديثة مع إنبثاق الحداثة ويميل البعض لجعل توقيت نشوء الرواية الحديثة يتزامن مع العام ١٨٥٧ الذي شهد نشر عملين أساسين باتا معلم الحداثة الفرنسية ، ( أزاهير الشر ) لبودلير و( مدام بوفاري ) لغوستاف فلوبير ،بينما يذهب البعض الآخر إلى إعتبار 1914 عاماً لإنبثاق الحداثة الروائية معتبرين أن الحرب العالمية الاولى كانت بمثابة فتق كارثي -مثل جائحة مرضية - شكل فاصلة زمنية بين ماض متحضر مستقبل مكتنف بفوضى مطبقة .
استمدت الرواية صيروتها من الحداثة مهما بدت متلكئة في السير بركبها،حيث يدعى العام 1922 بذروة الحداثة ، في ديالكتيك غير متجانس الأدوات والقيم ،أو بالأحرى تعتبر الحداثة طورا ماديا وتقنيا من الحضارة نفسها ،وتغدو الرواية قيمة منطوية ضمن تداخل يتضافر في تشكيل نسيجها الهائل ( الحضارة ) ،ولهذا تنمو الرواية بدءا في سياق جانبي لإنزياحات ذلك النسيج حتى تكتسب معان متجددة وخلاقة تمكنها من مواجهة ذاتها اولاً ومساءلة كل ماحولها ثانيا،لتصل في رحلة الكينونة إلى الجوهر حتى تعيدها الأحداث والحروب للبدايات مرة أخرى ،حيث تتشكل كما ينبغي للبقاء أن يتشرب وجوده من متطلبات القوة والإيديولوجيا كطور أولي ووقتي ، أشبه بدأب إنساني خالص في إختلاس نفسه بالسير بمحاذاة غير مرئية للقوة حتى يكتسب شيئاً من عواملها ،ويظل هذا المحنى كتلازم طفيلي ( ربما غير مؤثر في أغلب الأحيان ) للحفاظ على الحد الأدنى من قيم وإشراقات الإنسانية عبر تراكمات قيمية وجمالية النشوء والتحلل والتبدل لقيم الحضارة نفسها ..
كان الروائيون الشباب في العام 1910 يسعون لأن تتخلى رواياتهم عن تماسكها المصطنع الكذوب ،وعن نزعتها التصالحية مع الذات التقليدية والنظرة غير الحديثة الى العالم - بالإبتعاد عن النهايات السعيدة او المأساوية -إذا ماأريد لها أن تستعيد المعنى والصلة مع الحياة ،ثم اتجه الروائيين الى مجابهة الحداثة او حتى تحقيق البديل الخلاصي لها عبر امتلاك شكل من ( الأمل الخلاصي التعويضي ) بعدما شغف بعض الروائيين بإستعادة المعنى والجمال والكمال في العالم الحديث ،ودعا ستيفن سبندر هذا الميل ( نمط الامل ) ومضى الى القول :إن الفكرة القائلة بان الفن الحديث يمكن أن يحدث تحولاً في الحياة المعاصرة يجعل الأفراد أكثر هدوءاً نبلاً وجنوحاً للسلام لهي فكرة خليقة بتنوير العالم .
فكلما تكتسب الرواية سمة ما سرعان ماتتجه للتخفيف منها أو بالأحرى للتخلي عنها ،والإتجاه إلى زاوية أخرى وهكذا ،عملية تنقل لايهدأ لها بالاً ، توقاً للحيوية بدينامية لاترتئي غير الإمتلاء رويداً بروح الحياة ،معركة لايهمد أوارها ضد السكون ،وضد فكرة الموت نفسه الذي يتهددها بسطوته الهائلة كمحرك للمتطلبات المادية للحداثة ،فمن الإعراض عن موجة الحداثة إلى مجاراتها والإعتراف بواقعها وصولاً لمناهضة نسقها الآلي و المتوحش ،ومن تمثيل الواقع إلى محاولة كشف وعيه الذاتي عبر السايكلوجيا ،والذي انتقدها جورج لوكاش واعتبرها تملصاً من المسؤولية المجتمعية حين حولت الإنسان لكائن مقيد ،سكن وغير قادر على الحركة ،وتحول العزوف عن السياسة والإخلاص للجمال إلى العودة بعيدا عن الوقوع بمبدأ الفن للفن ،لتجد طريقها للموازنة بين المطلبين كما فعل جورج أورويل في روايته ( العالم السفلي) الذي مكنته من مقت (السيوسولوجيا القاحلة ) ،ونزلت اللغة الموجهة للطبقة الراقية إلى اللغة اليومية المبسطة كالأنماط الكتابية لهمنغواي وغيره ،ومالبثت أن صعدت سلم التعقيد والغموض مرة أخرى على يد وليم فوكنر كما في ( الصخب والعنف ) .
أما التساؤلات المرتبطة بإجتراح التجارب ( الذهنية ) غالباً ما نشهد مثيلاً له في الروايات الحديثة ،فتساؤل مثل ، كيف يمكن لسطوح الأشياء أن تكشف - أو تخفي - مايقبع تحتها ؟ ويمكن أن تقودهم تلك التساؤلات إما الي اليأس آذا مابدت تلك المظاهر ذات تأثير كبير في الواقع وإما الى البهجة إذا انتهت بومضات نادرة تفضي لكشوفات ثرية .
برأيي أن تلك التساؤلات خصوصاً تلك التي وردت في رواية (الجندي الطيب ) ياروسلاف هاشيك الساخرة عن الحياة ، هي بث لروح الظاهراتية لإيدموند هوسرل ،فلسفة الفينومنولوجيا التي تعني بظواهر الأشياء وتغفل ماهيتها التي كانت رائجة وقتها ،بحيث عكستها كلمات جون دويل بطل الرواية ،وباتت الرواية متغير ضمن دالة المعارف الإنسانية ومكنها هذا التداخل من حمل بذور الفكر بشكل إستباقي او عكسها ضمن الشخوص ولو بالحدود الدنيا ،فشخوص الاعمال الروائية ربما لاتبتعد كثيرا عن روح الفلسفة السائدة ،وإن لم تدعي تلك الروايات بروايات الافكار الإ أنها تعكس ومن زوايا بعيدة بعضاً من السمات الفكرية لعصرها ..
مع قدوم الحرب العالمية الثانية ( الكلام للمؤلف ) بدا أن أسوأ مافي الحداثة هو الذي بات يحقق الإنتصارات الحاسمة تاركا للرواية ملاذا صغيرا للغاية تحتمي فيه ،وعلى أساس هذه النظرة يدعي البعض أن ماكان يدعى ( نقطة ذروة ) لم يمض في الإستمرار طويلا بعد ذلك ،إن (نمط الامل ) العتيد ،وبرغم إيمانه بالتجريب الفني وقناعته بأن الرواية يمكن أن تكون عرضة للمراجعة الأدبية ،فإنه لم يكن قادرا على تجاوز أهوال الحرب العالمية الثانية والرعب الذي صاحبها كما يقول البعض ،إذ من ذا الذي سيحافظ على ثقته بسلطة الفن وعظمته بعد أن إختبر الناس ماعلمتهم الحرب بشان سطوة الفوضى الجامحة ؟ ،وحتى لو لم تقتل الحرب تلك الدفقة الحداثية ،ألم تكن الموجة الحداثية ستلقى خاتمتها على يد ثقافة مابعد الحرب المشبعة بالتهديدات النووية ،والنزعةالتجاريةالمتفشية،والإنقسامات المربكة ؟ تلك بعض ثمار الحداثة التي برهنت أن الرواية عاجزة عن الوقوف بوجه مدها العارم ..إن هذا المشهد يؤرخ لنهاية الرواية الحديثة بطريقة كيفية وتقريبية عام 1939 او عام 1965 وصارت الرواية بعدئذ توصف بتوصيفات أخرى .
إذن باتت الرواية وكأنها في معزل عن رجال التنوير والمفكرين بحيث بات عليها أن تؤسس لنفسها سياقات معرفية وتبدأ في حمل نفسها في حقبة نووية ،مما دفع جون بارث لكتابة مقالة عن ( أدب النضوب ) 1967 ،وبعد عقد من الزمان عاد ليكتب مقالة مختلفة كليا عن ( ادب التجديد ) ،وكأنه أستشعر بأن الركون إفرازات الحرب الكونية الثانية كحتمية فاقت كل الخيالات ، لن تكن مناسبة تماما لإعلان نضوب مواضيع الرواية ،ذلك الفن الذي لايحتاج لإزدهاره الإ إبداع صادق وذلك هو مايحتاجه من سلاح ،وجاءت رواية مابعد الحداثة بصيغة ميتافكشن او الميتاسرد ،وصارت الغاية كلها تنصب في تفكيك كيفية الرؤية ،وتحولت الواقعيات متن خيالي ملتبس ،وجاءت الفانتازيا الإيروتيكية أكثر حيوية من البحث عن الغرائبيات وأكلة لحوم البشر ،وربما تكن رواية لوليتا ١٩٥٥ للروائي فلاديمير نابكوف هي المثال الافضل للتوجه الروائي القائم على اساس ان موضوعة الجنسانية الصادمة يمكن ان تعزز حيوية وقدرة الرواية الحديثة على النمو والإرتقاء والإستدامة بحسب قول جيسي ماتز ,وباتت الرواية مابعد الحداثية أكثر تجريبية،حيث أستعادة روايات الافكار ،وحولت التاريخ لدراما سردية بإخضاعها للتخييل مجدداً ..

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top