الأسئلة الثلاثة الكبرى..الكون  والحياة و الوعي

الأسئلة الثلاثة الكبرى..الكون والحياة و الوعي

حوار مع البروفسور ( بول ديفيز )

ترجمة لطفية الدليمي

هذه ترجمة للحواريّة التي عقدها (ستيفن بينكوك Stephen Pincock) مع البروفسور (بول ديفيز) ، ونُشِرت في صحيفة الفايننشيال تايمز بتأريخ 15 نوفمبر ( تشرين الثاني ) 2013 .

المترجمة

على الأرض الفسيحة المحيطة بمرصد سيدني ، التي لاتبعد كثيراً عن ميناء المدينة الشهير ، يلتمس الفيزيائي والكاتب ( بول ديفيز ) ظلّ شجرة ليجلس تحته وهو يتفكّر عميقاً في المعضلات العظمى الثلاث الخاصة بموضوعة " الأصول " التي تجابه العلم الحديث . " هناك أصل الكون ، وأصل الحياة ، وأصل الوعي " ، هذا مايقوله البروفسور ديفيز بلهجته التي تحاكي لهجة أهل شمال لندن ، وقد حافظ الرجل على تلك اللهجة على مدى عقود قضاها في العيش والعمل في كلّ من أستراليا والولايات المتحدة .
بين هذه المعضلات الكبرى الثلاث ، يقول ديفيز ، ظلّت معضلة أصل الكون هي الأكثر يسراً على الإستكشاف وفكّ مغاليق أحجياتها . " حقّقنا الكثير من التقدّم في هذا المضمار . أعتقد أننا عرفنا كلّ تفاصيل الأحجية الخاصة بأصل الكون " ، نظرية الإنفجار العظيم التي بموجبها توسّع الكون من حالة هائلة الحرارة والكثافة عبر 13.8 بليوناً من سنوات خلت هي النظرية التي تلقى دعماً واسعاً من جانب كلّ العلماء والكوسمولوجيين .
يبدو فهم أصل العقل بالنسبة لديفيز مسألة تستعصي على بلوغ العناصر المسبّبة لها . " لن نبلغ أيّ حلّ باتجاه معرفة ذلك الأصل : كيف نحصل على أفكارنا ، ومشاعرنا ، وإحساساتنا من خلال فعل ذرات وجزيئات وعصبونات ( خلايا عصبية ) ودوائر كهربائية ؟ نحن حتى لانعرف كيف نبدأ بتناول تلك الأحجية " .
لكنّ المعضلة الثالثة ( الخاصة بأصل الحياة ، المترجمة ) مناسبة للدراسة البحثية والإستكشاف الدقيق ، وهي تقع في منطقة وسطى بين الإستعصاء البحثي والحلّ الناجز . " تبدو موضوعة أصل الحياة بالنسبة لي متموضعة في منتصف الطريق بين سهولة إستكشاف أصل الكون ومشقّة بحث أصل الوعي ، وأظنّ أنّ أصل الحياة هو الموضوعة البحثية الراهنة التي يمكننا تحقيق تقدّم ملموس فيها حقاً وبما يقود إلى تحقيق تقدّم في مجالات بحثية أخرى مرتبطة بها " .
بول ديفيز Paul Davies ، ذو السبعة والستين عاماً ( وقت إجراء الحوار عام 2013 ، المترجمة ) هو واحدٌ من أكثر الكُتّاب العلميين شهرة في وقتنا الحاضر ، وهو يرأس مركز Beyond للمفاهيم الأساسية في العلم بجامعة ولاية أريزونا - ذلك المركز الذي يسعى لتوسيع التخوم البحثية إلى أبعد من التصنيفات الموضوعاتية التقليدية المعروفة ، كما يعمل ( مثلما نقرأ في موقعه الألكتروني ) على " تقديم العلم إلى عامّة الناس باعتباره عنصراً مفصلياً وجوهرياً في ثقافتنا الراهنة فضلاً عن كونه ذا أهمية حاسمة في حياة الإنسانية كلّها " . قضى البروفسور ديفيز معظم حياته المهنية العريضة وهو يكتب ويتناول بالفحص والمساءلة تلك الأسئلة الكبرى The Big Questions الواقعة على التخوم التي لطالما شكّلت منطقة تنازع محموم بين العلم والدين والفلسفة ، وتشي الكتب التسعة والعشرون التي دأب على نشرها منذ عام 1974 بالطيف الواسع لاهتماماته العميقة والمتشعبة إبتداءً من طبيعة الزمان وحتى البحث عن ذكاء غير أرضي أو عن السبب الكامن وراء جعل الكون يبدو مُنغّماً تنغيماً دقيقاً وكاملاً لدعم ظهور الحياة واستدامتها .
تبدو موضوعة أصل الحياة في وقتنا هذا هي الموضوعة الجوهرية الأكثر قدرة على تحفيز إهتمام ديفيز وشغفه البحثي ، وهو يقول في هذا الشأن " التحدّي الأعظم الذي يواجهنا والذي مانزال عالقين في أولياته فحسب ولم نغادرها لطور أبعد هو : ماهو هذا الشيء الذي يدعى الحياة ؟ " ؛ وهو إذ يفعل هذا يظلّ دوماً فيزيائياً يتبع شغف قلبه الذي لم يكفّ يوماً عن التساؤل اللحوح بشأن فهم مكانة الوجود البشري في الكون ، وقد حصل شغفه هذا على دفعة طازجة من خلال عمله المشترك مع زميلته ( سارة إماري ووكر ) البروفسورة المشاركة في معهد Beyond الذي يرأسه ديفيز . بقدر مايختصّ الأمر بديفيز وزميلته ووكر فإنّ التمييز بين الحياة واللاحياة ليس - ببساطة - مسألة كيمياء وحسب بل هو موضوعة معقّدة تخصّ الكيفية التي يمكن بها لكلّ الكينونات الحيّة تخزين المعلومات ومعالجتها ، وإذا ماأمكن للمرء أن يتصوّر الحياة من الوجهة المفاهيمية على أساس كيفية تخزين المعلومات ومعالجتها فإنّ فهم المعمارية الفيزيائية للحياة يصبح شأناً ثانوياً حينذاك .
لكي نفهم هذه المسألة ، تخيّلْ كيفية فهم عمل نظام التشغيل الحاسوبي ( ويندوز ) : لو تعمّقنا في دراسة ترتيب كلّ من النحاس والسليكون والمواد البلاستيكية اللدنة الحاوية لقرص التشغيل الخاص بنظام ويندوز فلن يقودنا هذا الأمر إلى مانرتجيه ؛ لكنما دراسة الشفرة الحاسوبية ( شفرة الماكنة ) مع البرامجيات ( السوفتوير ) الخاصة بها سيقرّبنا كثيراً من الإجابة المرتجاة . بطريقة مشابهة يكون الإكتفاء بدراسة الجزيئات في أنابيب الإختبار " نوعاً من فقدان بوصلة الدلالة في الطريق " كما يقول ديفيز ، ثمّ يستطرد قائلاً " تلك هي الطبقة الأساسية الدنيا في الحياة ، وأنت في مسيس الحاجة بكلّ تأكيد لمعرفتها بذات الطريقة التي لايمكنك فيها حيازة نظام التشغيل ويندوز من غير إمتلاك أجزاء السليكون والنحاس والأغلفة البلاستيكية وكلّ الملحقات الضرورية الأخرى ؛ لكن تلك الأجزاء لن تجعلك تفهم كيف يعمل نظام التشغيل . نحن نسعى لبحث جانب ( السوفتوير ) الخاص بالحياة ، وهذا هو جوهر مشروعنا ، ونحن سعداء إذ نجعل الناس المهتمين بالمكوّنات الصلبة ( الهاردوير ) منها يعملون بعيداً حيث يشاؤون " .
لطالما تفكّر ديفيز عميقاً منذ بواكير يفاعته في الأسئلة الكونية الكبرى من الوجهة النظرية ، وعندما نما عوده في لندن بعد الحرب ( العالمية الثانية ) كان يقضي الليالي الطوال مستلقياً في فراشه ساهماً متفكّراً هل للفضاء نهاية ؟ وكيف يمكن وجود إرادة حرّة إذا كان الدماغ ذاته مكوّناً من ذرّات . " منذ وقت مبكّر للغاية من طفولتي تملّكتني واستولت عليّ حدّ النشوة فكرةُ أن ليست كلّ الأشياء في الكون مكشوفة أمام أعيننا ( ومتاحة للتعامل المباشر البسيط ) " .
شعر ديفيز منذ وقت مبكّر أنّ مبحث الفيزياء النظرية Theoretical Physics ، ذلك الفرع من الفيزياء الذي يستكشف القواعد الناظمة للعالم الطبيعي ، يوفّر له المسار الأسرع الذي يمكّنه من التعامل مع أمثال تلك الموضوعات الكبرى التي راودت طفولته . " رغبتُ بكلّ جهدي في تسريع مساري الفكري من خلال الفيزياء النظرية التي يمكن للمرء تحسّس مكامن البهجة الكامنة فيها عندما يندفع في بحث إستقصائي للمجاهيل ثم يرى خلال إستقصائه هذا أنماطاً غير معهودة من النماذج المتماسكة التي تشي يوجود مخطّط عقلاني أنيق يحكم الطبيعة " ، وتأسيساً على هذه الرؤية تناولت رسالة ديفيز في الدكتوراه PhD الكيفية التي تعمل بها النظرية الكمومية Quantum Theory عندما ينحني الفضاء والزمان بتأثير الثقالة ، وقد ظلّ هذا المنحى البحثي الشغل الشاغل لديفيز لفترة زمنية ليست باليسيرة .
" كان بول أحد أوائل البحّاثة المميزين في هذا الجانب البحثي من الفيزياء النظرية ومنذ بواكيره الأولى " - هذا مايقوله ( جيمس هارتل ) البروفسور المميّز Professor Emeritus للفيزياء في جامعة كاليفورنيا والذي تناولت أبحاثه تطبيق نظرية آينشتاين في النسبية العامة على الكوسمولوجيا ، ثمّ يضيف قائلاً " أسهم البروفسور ديفيز في الكثير من الإضافات المميزة في عمله البحثي " ، ويمكن إيراد مثال على هذا وهو الحالة الموصوفة ( حالة بنك - ديفيز Bunch - Davies State ) التي تستخدَمُ لبيان التقلبات الحاصلة في إشعاع الخلفية الكونية والذي يعدُّ بعض الآثار الباقية من الإنفجار العظيم .
لكن برغم كلّ هذا الشغف بالمباحث الخاصة بالفيزياء النظرية لم يكن ديفيز يتطلّع أبداً للحفاظ على إهتمام ضيّق في نطاق موضوعات بحثية محدودة ، وعليه شرع منذ سبعينيات وثمانينيات القرن ( العشرين ) ، وبالتوازي مع عمله المهني ، في مزاولة الكتابة العلمية لعامة الناس - تلك المهمّة التي خطفته لتخوم فاتنة ومدهشة ماكان له تصوّرها أو حتى تخيّل شيء بسيط منها .
كتب ديفيز كتباً كثيرة كان بين بعض عناوينها الكتب التالية : الإله والفيزياء الجديدة God and the New Physics ، البصمة الكونية The Cosmic Blueprint ، عقل الإله The Mind of God ، وتكشف عناوين هذه الكتب الميل الطاغي لدى ديفيز في إستكشاف أصل الكون وكيفية تشكّله وتطوّره ؛ لكنّ شغفه في مقاربة هذه الموضوعات دفع أحياناً البعض للتعجّب وإشهار المخالفة لآراء ديفيز . حصل على سبيل المثال عام 2007 أن إنتقدت مجموعة من العلماء - وبقوة - رأياً كان ديفيز قد طرحه بصيغة مقالة كتبها في صحيفة النيويورك تايمز وأعلن فيها أنّ العلم له ( نسقه الإعتقادي المؤسس على إيمان faith - based belief system ) ، وهو يقصد بهذا المفهوم أنّ العلماء يفترضون ( بصورة مسبقة ، المترجمة ) أنّ الطبيعة منظّمة بطريقة عقلانية محسوسة يمكن معرفتها والتعامل معها ، وقد أخبرني البروفسور ديفيز أنّ رأيه هذا غالباً مايُساءُ فهمه ، وأنّ ناقديه العتيدين في هذه الموضوعة بالتحديد " لم يقرأوا مقالته كما يبدو الأمر بكلّ وضوح ..... وإذا كان هؤلاء الناقدون يرون في مقالتي تأكيداً ( مُضمراً ، المترجمة ) لإله لاينفكّ يتدخّل في كلّ لحظة بتسيير آلية الكون فسأقول لهؤلاء : إنّ إلهاً مثل هذا يبدو فقيراً في مزاياه ولايستحقّ سوى أن يقبع في زوايا النسيان . إنّ السؤال الذي ينطوي على تحدّ واضح والذي أضعه أمام العلماء واللاهوتيين معاً هو : هل عسانا سنتوقّف أمام قوانين الفيزياء وسنقبلها كحقيقة مطلقة بعد أن نستكين ونقنع بحقيقة أننا لن نعرف أبداً لِم هذه القوانين على الشاكلة التي هي عليها فعلاً ؟ أم أننا سنمتلك الشجاعة الكافية لتوسيع تخوم نطاقنا البحثي في محاولة فهم هذه القوانين والكيفية التي جعلتها على الشاكلة التي إنتهت إليها ؟ "
لكن حتى لو كان ديفيز يعترف بشكل صريح بأنه في الوقت الذي يعتقد فيه بوجود مبدأ متجذّر عميقاً في الطبيعة يدفع المادة غير الحية لكي ترتقي إلى مادة حية ؛ فإنّه يعقّب بهذا الشأن قائلاً " ليس ثمة شيء ممّا إكتشفناه في الفيزياء أو الكيمياء يفيد بأنّ الإنتقال السريع من المادة غير الحية إلى المادة الحية هو أمر خاضع لحتمية صارمة " ، وطبقاً لقناعته هذه يرى ديفيز أنّ الخطوات اللازمة لإنبثاق الحياة من المادة غير الحية ربما هو أمر حصل مرّة واحدة وحسب ، ويضيف بهذا الشأن " عندما يسأل المرء كم هو عدد الأماكن في الكون التي حصلت فيها الخطوات ذاتها من الوقائع المتعاقبة التي قادت لنشوء الحياة فسيكون أمراً يسيراً للغاية إذا ماجادلنا بوجود مكان واحد فحسب ( إشارة إلى كوكب الأرض ، المترجمة ) . أظنّ بأننا - ربما - وحيدون في هذا الكون ، وسيكون هذا الظنّ أمراً مؤلماً . ألا تعتقدون بأنّه مؤلمٌ حقاً ؟ " .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top