اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > رؤية في ميدان القيم الاجتماعية

رؤية في ميدان القيم الاجتماعية

نشر في: 19 يناير, 2019: 07:06 م

 د. حيدر نزار السيد سلمان 

كان الشتم والسبّ وتداول الكلمات النابية، كألفاظ معبرة عن سوء أخلاقٍ وفقدان للمعايير الاجتماعية الضابطة لمجتمع مهذب منسق ضمن أطار من القيم والمحددات السلوكية والمعيشية، وكانت النظرة المشمئزة والاستنكار، هي أبرز ما يواجه به الشخص بذيء الألفاظ، ومستخدم الكلمات الشتائمية والمصطلحات ذات الإيحاءات الجنسية. وقد عُرف عن أشخاص بالتهتك والاستهتار من خلال ما أشرنا إليه آنفاً.
كان هذا يحدث في مجتمع متزمت في قيمه الاجتماعية وأخلاقياته العامة النابعة من مصادر دينية وقبلية، غير أن ما يحصل حالياً من تحول فضيع من الحالة اللفظية الى الواقعية عند البعض لا يمكن عده إلا بداية لانهيار في منظومة القيم وتراجع للأخلاقيات الكبرى التي شكلت أساس السلوكيات والتصرفات الفردية الاجتماعية .
إذا كانت الألفاظ الخادشة والقبيحة والجنسية قد استفزت النسق الاجتماعي وحرضت على النبذ والعزل لمتداوليها، فإن ما نلاحظه الآن من شيوع لسلوكيات وتصرفات شاذة ومتنافرة مع القيم العامة يدق بقوة جرس الإنذار ويوقظ في الروح الاجتماعية البحث عن الأسباب والعوامل الأساسية في ما نتوقعه من انهيارات قادمة قد تطيح تماما بالمنظومة الأخلاقية والقيمية وتعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والمثل العليا بصيغ جديدة تتناشز مع الأبعاد الجغرافية والتاريخية والدينية للمجتمع .
كان الانفتاح العظيم على العالم وصدمة هذا الانفتاح قد هزّا الأسس التي تقوم عليها المنظومة القيمية الأخلاقية وتشتّت باتجاهات مختلفة موازين السلوك الفردي والجماعي، إذ يمكن النظر إلى ما حدث كاستجابة غير واعية للانبهار الحاصل من الجديد، وعدم القدرة على التكييف والاستيعاب لهذا الجديد الداخل بعنفوان وقوة إلى مجتمع مقيد بأعراف وغارق بسرديات يشوب بعضها العفن، مستبيحاً الموجود الاجتماعي بإغراءاته المثيرة وجاذبية بريقه، وقد ساعده في مهمته التدميرية الشعور بالنقص المتراكم بطوله وعرضه أمام الرقعة الجغرافية (( أوروبا، أمريكا )) المنشأ الأساس لهذا الجديد .
يمكن الإشارة بإلحاح الى تمظهر مشاعر النقص والتصاغر التي غلفت العقليات الاجتماعية وبمستوياتها المتنوعة، فهذا الشعور يمكن رؤيته عند المتعلمين وغير المتعلمين، رجال الدين والاكاديميين، الفلاحين والعمال، الطلبة والأميين. وما يمكن التذكير به أن المتعلمين والأكاديميين ((ليسوا جميعاً)) كانوا أشد الفئات الاجتماعية انزياحاً مع الشعور بالنقص أمام الثقافة والحضارة الغربية وذوبانهم الروحي أمام كل ما يصدر عن الغرب من القسور والنفايات الناتجة عن التطور العلمي والصناعي والحضاري. إذ نجد هذا التصاغر الشنيع من خلال التمجيد والاطراء والثناء الذي يبدونه أمام كل ما هو قادم من الغربي الجيد والرديء دون تلمس قوته التدميرية للروح ودون التشبث بقيم أصيلة محلية الولادة والنشأة، وقد عّدوه مثالاً وقدوة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع والحال الاجتماعيين. فالمدرسة - المستشفى – الشارع – الحديقة – العادات- أسلوب الحياة – نمط المعيشة – الملبس – الثقافة – القيم؛ كلها وضعت في سلة واحدة كأنموذج للرقي والتحديث والحداثة، دون إدراك حقيقي للموروث الاجتماعي من القيم ودون اعتداد بالأصالة الاجتماعية المحلية والثقافة والحضارة الإسلامية التي تشكل بكل المعايير حياة وسلوك ونمط وروح. يجري هذا الاحتقار للذات الجريحة المصدومة المنسلخة من غير استلهام أسس التقدم والتحديث، غير أن ما نسجله هو ذاك الغياب للفكر الواعي بالقيمة العليا الأصيلة لحضارتنا وإلغائها، بدلاً من تنقيتها من التلوث الذي أصابها. وبالعودة إلى قدرة السحر والشعور بالنقص أمام كل ما هو أوروبي أربك الاستقرار والهدوء النفسي الجماعي والفردي وولد هماً بالانسلاخ والتقليد لكل ما هو غريب سواء كان بشعاً أو جميلاً.
كانت الألفاظ السيئة والنابية تواجه بسيل من الانتقادات والعزل الاجتماعي، بيد أن هذه الألفاظ تحولت إلى تجسيد من الفضائع والفضائح الحقيقية ذات الحيز المكاني والترسيم الزماني، ولم تعد مجرد ألفاظ منكرة صادرة عن خلجات نفسية تريد إخراج فائضها من التشوه والتمرد، بل أمست صوراً بشعة وغريبة من السلوكيات المشينة الفاقدة لعناوين الرجولة والتصرفات القبيحة المنسلخة عن الروح الإنسانية وأنماطاً من الشذوذ في المظهر الخارجي والروح. وعلى سبيل المثال فقد أصبح التخنث والتشبه بالنساء صفات لبعض الذكور دون حرج أو مواجهة بالنبذ والاحتقار، تحولت الكلمات الصادقة الى مجموعة من الأكاذيب، وغاب الاهتمام بطلب العلوم والمعارف واستحصال الثقافة والتباهي بها، لتحل محلها عملية البحث عن الفضائحيات والصغائر والاخبار الكاذبة. ساعد في ذلك الانتشار العصري لوسائل التواصل الاجتماعي لتسود حالة من الغباء وروح الاستهلاك والسهولة في كل شيء، كالتخلي عن العقيدة الدينية والقيم الاجتماعية الاصيلة والوفاء والصدق والمروءة، شاملة لعدد كبير من النساء والرجال، وبذلك تحول اللفظ المنبوذ اجتماعياً الى واقع مُجسّد بالفعل والتصرف والسلوك، واصبح التقليد لوضاعة الحداثة الغريبة ونفاياتها الناتجة عن التطورات الصناعية والحضارية من الامور المعتادة، وهو ما يمكن ملاحظته بارتداء أعداد من الشباب لملابس الشواذ الاوروبيين والاميركان واستئناسهم بالتخنث وفقدان الكرامة وسمات الرجولة، بل تفاخرهم بالانحطاط الاخلاقي والتراجع القيمي.
أصبحت القشور الحضارية الأوروبية وأوساخها العفنة هدفاً مطلوباً وأملاً عند الكثير من الشباب والشابات، وتصاعد الشعور بالنقص واحتقار الذات حتى تمظهر منهجاً عند البعض، وأصبح تداول مصطلحات كالحداثة – الحرية – العلمانية – المدنية وغيرها دون وعي إدراكي أو فهم؛ منفذاً للغرق والانحدار. فهناك من يرى العلمانية على سبيل المثال؛ فقدان للرجولة والميوعة، التخنث، الرعونة وفقدان الإحساس والتسامح أمام كل الحالات الإنسانية، حتى التي تتعلق بالشرف والعفة. وفقد الكثير من الشباب والشابات والرجال والنساء صلة الارتباط بالقيم الأصيلة التي تؤكد على المروءة والحفاظ على الأسرار واتزان الشخصية والصلابة بالمواقف وعدم الاستهانة بالحقوق والتراخي بالواجبات المناطة بهم والقبول بالإهانات والاعتداء على الذات الشخصية والمشاعر الحساسة. على سبيل المثال هناك من تراه مائعاً ضعيفاً يتحدث بنعومة وتراخٍ محركاً يديه بطريقة نسائية فاضحة، وكأن كل هذه التصرفات جزء من الحداثة والثقافة الإنسانية الجديدة التي يشيعها وينشرها بعض المخنثين من مدعي الثقافة. والغريب أن هؤلاء، وفي مجالسهم العامة والخاصة، تلمح فيهم ومن النظرة الأولى، إمارات التخنث والميوعة وضعف الشخصية، وكأن ضعف الشخصية وميوعها أصبح لازمة ثقافية، وهو ما يثير الغضب والأسى معاً.
أثار الخطاب الديني بصيغهِ اللفظية الآمرة العتيقة والبليدة هيجاناً مضاداً عنيفاً كان أساساً لمقاومة وردّ فعل لكل ما هو ديني عند الكثير من الشباب والشابات، هذا الخطاب الممجوج الساخر والمتسلط الغارق بالعالم البعيد البعيد، كان له الفعل القوي في الارتدادات الأخلاقية والقيمية. فهو خطاب غير مفحوص جيداً ويعود بأساليبه إلى مدد زمنية قديمة انبثق عنها ولم يعد صالحاً لبيئة – مجتمع – زمن – مكان- هو القرن الواحد والعشرين. وحسب وصف آرنولد توينبي فإننا نجد زيوتاً قديمة في قوارير جديدة، فالجديد ليس متوفراً إلا بالشكل الخارجي، أما المادة الأصل فهي عتيقة رطبة تفوح منها رائحة القدم. لكن هذا الخطاب قد سبّب، بالتوافق مع الشعور بالنقص واحتقار الذات، إرباكاً وصدمة أودت بحياة الكثير من القيم الاجتماعية الأصيلة. ولعل ما يحدث هو رد فعل يتساوى بالمقدار، ويعاكس بالاتجاه لهذا الخطاب ((حسب نظرية الفعل ورد الفعل لنيوتن)). وتزداد الغرابة حين ندرك أن ملحقي الضرر بالقيم الاجتماعية هم من بعض رجال الدين وهُم أكثر الناس هجوماً على الشباب الخارج عن دائرة القيم الأصيلة ونعته بأقسى الألفاظ وأشنعها وأكثرها بذاءة، وكأن دائرة العبث باللفظ وتطوره إلى واقع والتي أشرنا إليها، تعود من جديد.
القيم الأصيلة والأخلاق السامية هي الدرع الواقي والحصن الحصين من الانهدام المجتمعي والانهيار المرتقب. فهذه القيم والأخلاق هي الحامي الذي يمكن بقاؤه قوياً متيناً من خلال الاستشعار بالقوة الداخلية والتعالي الوجداني، بعيداً عن التصاغر والاحتقار الذاتي والذوبان أمام بريق أوساخ الحضارة الأوربية وفقدان إنسانيتنا وشجاعتنا وحياتنا المعززة بالتضامن والمروءة والصدق، فما نراه هو انسلاخ وضياع واغتراب ليس له معنى، وما نلحظه هو بكل الأحوال إغراق لأرواحنا بوحل الحضارة الحديثة دون إدراك لمعانيها ومفاهيمها. وكما هو معروف؛ فإن المصطلح وفهمه مفتاح العلم، فالواجب معرفة وإدراك المعنى الاصطلاحي وليس الانبهار والوقوع في براثن لا نعرف عن أصلها شيئاً.
العلوم والمعارف وترسيخ حب العمل وتمجيد الرجولة وروح الفروسية هي أملٌ حتى لو كان ذاك يتحقق بالقوة والإجبار، إذ لا يمكن أن نرى هرمنا القيمي العظيم ينهار ونحن لا نتحرك لإيقافه، حتى إن كانت الوسيلة الإكراه والقسر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل

مقالات ذات صلة

العراق والمطالبة بالتعويضات من الحكومة الأمريكية

د. كاظم المقدادي " 2 "في الجزء الثاني من المقال نستكمل ما يفيد الوفد العراقي الى واشنطن في مطالبته بحق العراق بالتعويضات:رابعاً- أبرز تداعيات الحربسبب إستخدام القوات الأمريكية وحليفاتها لأسلحة اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض والسموم الأخرى إنتشار الملوثات والسموم الإشعاعية والكيميائية الخطيرة في أرجاء العراق، والتي سببت بدورها أضرار بيولوجية رهيبة، حيث أُصيب أكثر من […]
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram