المجمع العلمي العراقي.. إلى أين؟

المجمع العلمي العراقي.. إلى أين؟

د. نادية هناوي

(أنقذوا المجمع العلمي) هي استغاثة عجلى لواقع متداعٍ يعيشه أهم صرح علمي نوعي، أوجده علماء ومفكرون عراقيون في القرن العشرين، يريدون به للغتهم الازدهار، ولتاريخهم البروز ولأدبهم الارتقاء ولمعرفياتهم وآثارهم الظهور والإشهار، وليكون شاهداً على حياة علمية زاخرة بالنماء والذكاء والتميز.
وكان لمؤسسي المجمع العلمي العراقي الحق أن يتفاخروا بهذا الانجاز الذي تم في مرحلة شاعت فيها حرب كونية وأزمات وثورات وانتفاضات، ولو أنهم كانوا عارفين أن ما أقاموه زمناً وتفاخروا به كثيرا سيذوي على حين غفلة، لصفقوا جباههم وهم يرونه يصل إلى مستوى متهالك، اختفت فيه روحية العلم وغادرته جذوة البحث.
ليس فيما أقوله مبالغة أو ادعاء، فالمجمع لم يعد له أي حضور نوعي ولا حتى اعتباري مع أن حياتنا الزاخرة بالمتناقضات والارتدادات، تحتاج علماء يشخصون الخلل وآخرون يحللون واضعين ومقترحين لنا الأحسن والأنجع.
فأين هم علماؤنا، هل خلت حياتنا الراهنة من أناس يوصفون بأنهم علامات معرفة ومنارات بحث تستدعي الاهتمام اقتداء واستثمارا ؟ أم أن شحة الإيجاب في حياتنا جعلتنا نغض الطرف عن النماذج الراقية التي ضاعت وتضيع في خضم هذا السيئ الكثير؟
منذ ما يقرب من عقدين والمجمع العلمي العراقي بلا وجود علمي يحافظ على اللغة العربية، واضعا وسائل تحسين تعليمها أو مهيئا اختبارات لتقويمها أو عادا قوانين تسهم في إشاعة فصاحتها وتعرف الأجيال برونقها، كما لم نعد نشهد أعمالاً موسوعية كبرى وإسهامات بحثية يؤشر عليها بالبنان عربياً وعالمياً.
لقد غدا المجمع مجرد هيكل دال على زمان مضى، كانت فيه للعلم روح تقوده وللبحث معلم يدل عليه. وقبل أيام أسرَّ إليَّ أحد العاملين في هذا المجمع وهو استاذ اكاديمي أن جل ما يصدر عن المجمع في السنة لا يتعدى احتفالية متواضعة بيوم اللغة العربية أو ندوة لا تتم فعالياتها إلا إذا أسهم في التهيئة لها ماديا أكثر من منظمة راعية.
واذا لم يسهم في الفعالية أحد ـ طبعاً على قلة هذه الفعاليات وندرتها ـ صرف منتسبو المجمع عليها من جيوبهم للايفاء بمتطلبات لافتة هنا أو أقداح ماء هناك.
فأي حال مزر وصلت إليه هذه المؤسسة العلمية العراقية التي هي الرقم واحد في تعداد المؤسسات الاكاديمية التي صار بعضها يغدق بامكانيات مذهلة على مركز أو تشكيل إغداقاً يجعله قادراً على إقامة مؤتمرات دولية يُستقدم اليها باحثون من مختلف الجنسيات، كما يملك هذا المركز مطبوعاته الخاصة ومطبعته وله مشاريع موسوعية وبرامج ميدانية ودورات تدريبية وخطط مستقبلية، كل هذا وهو مجرد مركز ليس له تشريع يضمن له النفاذ ولا ارتباط قانونيا يهيء له كل المتطلبات. فمن المعلوم مثلاً إن مركزاً جامعياً مثل مركز اليونسكو في إحدى الجامعات العراقية، تفوق على مؤسسة مثل المجمع العلمي بالامكانيات المادية والمعدات الفنية.
لقد غزا التهالك هذا الصرح وها هو يتداعى أمام أنظارنا ونحن لا نحرك ساكناً، فهل هذا قبول بواقع حال أصابه التبلد وتداعت فيه قيم العلم ومبادئه ؟ أم هو سكوت على غيض مكبوت بأنين وحسرة مكظومة بسبب قوى تحتشد فلا تعطي أي سبيل لإنعاش المجمع ؟
أيا كانت الأسباب فإن استغاثة عجلى لا بد من إطلاقها لعلها ترد الروح إلى جسد يراد له أن يتوارى من الوجود. وما من سبيل لإنعاش الحياة في هذا الجسد الذاوي، إلا بتحرك مجتمعي يكون فيه للدولة الباع الأول والمجمع مرتبط مباشرة بأعلى كيان فيها قانونيا واداريا.
وإلا فان التلاشي هو المصير الذي ينتظر المجمع العلمي العراقي، الذي معه ستتلاشى عشرات الاسماء وعشرات الابداعات التي انجزت خلال عشرات السنين.
وإذا تحركنا وأحيينا المجمع، فسيحيا معه علماء وأدباء ولغويون أرادوا للحياة أن تكون علمية. وليس مثل العلم أداة بها نرفع قاماتنا مطاولين الأمم والبلدان في تقدمها وتطورها.
وما نراه اليوم ونحن نمر مطالعين هذا الصرح وقد صار أثرا بعد عين، هو أقسى مما نراه من مشاهد الحياة الاخرى ، فنقف حائرين متسائلين ما الذي يمكننا أن نفعله وهذا الحال صار أمراً واقعاً نؤشر عليه بامتعاض ونكاشف بعضنا بعضا بالاسباب غير قادرين على تغييره. ؟!
وتساؤلنا مع استغاثتنا يجعلان ممثلي المجمع الحاليين مطالبين بتبرير الكيفية التي بها تهاوى دور هذا الصرح وما عاد يؤتي أكله المنتظرة منه.
ولم لا يقومون بدورهم المطلوب بوصفهم عاملين في مؤسسة مرتبطة بأعلى هيئة تنفيذية في البلد ؟ ثم لماذا لا يعاد النظر في صيغة التشريع أهدافاً ووسائل ومقتضيات لكي يصحح المعوج ويصوب الغلط ويؤشر على الشائن؟
أعود من جديد لأسأل هل حقاً نفضت الدولة العراقية يديها من هذا المجمع مخلة بقانون انشائه وما ينبغي أن توفره له من دعم مالي وحكومي ؟ هل استغنت عن خدماته ولم تعد بحاجة إليه؟
واذا كانت قد استغنت عنه فعلاً، فما الكيان الذي ستعتمده بديلاً عنه ؟ أم إنها ستطلب دعم اليونسكو ليكون له منصة كما للأدب منصة مع اقتناعنا أن العلم لا منصة له؟
إن المؤسسة التي مهد لها شاعران كبيران هما الرصافي والزهاوي وشيّدها الأعلام الافذاذ محمد رضا الشبيبي ومنير القاضي وعبد الرزاق محيي الدين وصالح أحمد العلي ومحمد بهجت الأثري منذ عقود، كانت قد ضاهت ما يناظرها من مجامع في البلدان العربية، وحريٌ بمجمع علمي عراقي، كان متصدراً المشهد العربي أن يتقدم المجامع الأخرى، التي لا تملك ما نملكه من الناحية المادية ومن ناحية الطاقات البحثية، لا أن يكون هو نفسه أمثولة على ضعة الانجاز وقصر الأدوار ثقافة وعلماً. ..وإلى الله المشتكى وعليه المؤمل والمرتجى.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top