أجراس هادئة.. ثبات الهوية وأسرارها

أجراس هادئة.. ثبات الهوية وأسرارها

ناجح المعموري

ما زلت أتذكر زيارة جاك دريدا الى مصر وتقديمه محاضرة عن الوجود الطوبوغرافي لمصر ولتاريخها الحضاري وقد أثار بذلك ردود فعل قوية في الوسط الثقافي والاكاديمي ونشبت حملة مضادة حتى بعد سفره لأنه أشار الى أن مصر هي اللا توحد ومصطلحه هذا مستوعب لنظريته حول التفكيك ، لأنه يرى الأشياء الصلبة أكثر وضوحاً عند خلخلتها وتفكيكها ( تقويضها ) فيحقق بذلك تحويل الكتلة الكبرى الى أجزاء صغرى والهدف من وراء ذلك واضح ولا يحتاج الى رسائل مساعدة لتقريب المعنى بهذا الموضوع .

وإذا عدنا الى مصر المتنوعة فأنا بهدوء وعقلانية سنجد بأنها متعددة فعلاً ، إذا تعاملنا مع جغرافية مصر حيث تمظهر امتدادها هائلاً وأيضاً إذا اعتمدنا المعيار الثقافي ، فان الوجود المصري أكثر اتساعاً وعمقاً . لأن الثقافي المصري والفني لا حدود له ، وامتدّد كثيراً الى خارج الجغرافية المصرية وكان لها تواجد مهم في عديد من دول العالم المجاورة لها . وإذا ذهبنا أبعد من ذلك ، نستطيع أن نقول إن الثقافة المصرية مساهم جوهري وبالغ الأهمية في تكوين شخصية الفرد العربي ورسم ملامحه الذاتية لا بل التحقق أكثر دقة ، لأن الهويات الخاصة بالجماعات ، المتنوعة والعربية هي من نتاج الثقافة المصرية . واستطيع أن أقول بأن مصر هي أكثر من واحدة ، بمعنى تنوع وتعدد حضور . وهذا الرأي الذي ذهبت إليه ، لا أقصد منه هدفاً تقويضياً أو الإشارة الى وجود الى أكثر من مركز كما تفضي لذلك آراء التفكيكيين . بل ينطوي هذا الرأي على حماس وتمجيد لأهمية مصر وحضارتها وتنوعاتها الثقافية والفنية وقال د. عبد الوهاب المسيري : إذا كانت مصر بالفعل ذات هويات متعددة متتابعة ، ألا يعني أن مصر لا هوية لها أصلا ، أو إنها ذات هويات زائلة متتابعة ، أو إنه يمكنها أن تكتسب اية هوية فقد تقترحها علينا إسرائيل بتشجيع من البيت الأبيض وبمساندة البنتاغون " مثل هوية الشرق أوسطية على سبيل المثال " .
وكأن هوية مصر بلا مدلول أو كأنها دال يتراقص لأنه سقط في قبضة الصيرورة وشبكة الاختلاف والأرجاء ؟ ما معنى أن تكون لبلد ما هويات متعددة ومختلفة . وجوهر مفهوم الهوية هو مجموعة من السمات التي تتشكل عبر التاريخ ، وتعبر عن نفسها من خلال أنساق حضارية واخلاقية وسياسية وفلسفية واقتصادية تتسم بقدر من الثبات ، رغم كل ما يعتريها من تغير مثلما قال / د. عبدالوهاب المسيري
وما ذهبت أنا إليه من اتساع وامتداد الحضارة المصرية وثقافتها ، متأتٍ من اتساع الفضاء الذي تتمتع به ويميزها عن غيرها والسبب الأعمق في حصول ذلك هو العقل التواصلي الذي أشار له هابرماس وجعله معياراً مركزياً في تعامله مع الجماعات والشعوب وهو يمثل القاسم المماثل بين الثقافات والفنون . وهذا متأت أيضاً من التنوع والتعدد . وقال د. فتحي التريكي : إن العقل التواصلي في صبغته الكونية والاجتماعية قد لا يكفي أيضاً ليكون هناك حقيقة تحاور بين الثقافات واتصال متواصل يصل الى مستوى الكوني المهم هو الاعتراف بالكثرة والتنوع في الثقافة والافكار . وفي نمط العيش الاجتماعي للأفراد والمجتمعات . ففي هذا الاعتراف الحقيقي يكمن التحول من معقولية الغلبة الى معقولية الحوار ، ولكنه لا يكفي ، لان حق الكثرة وحق الاختلاف قد يتحولا ايضا الى نوع من الاستبداد .
وعودة مرة اخرى للهوية / الهويات المصرية ، لابد من الإشارة الى أن هذه الثقافات ذات وجود وحضور مكين ، ينطوي على عناصر مقاومة وبقوة . وهذا ما كشفت عنه عناصرها الصلبة إبان حكم الإخوان والثورة الشعبية ، لأن هذه الهوية / الهويات استطاعت عبر تاريخها الطويل الى تنشيط ثقافتها عبر التداول اليومي . وجعلت منها حضوراً متميزاً بملمح عالمي وهذا امر لا شك فيه ، لأن مصر تتمتع بأصول حضارية عميقة جداً . وبودي الاشارة لملاحظة مهمة تضيء ظاهرة الجدل والصراع بين الثقافات العديدة والمتنوعة وهو ما قاله صموئيل هانتغتون في كتابه حول صدام الحضارات وكيفية تمكن الحضارات من تنظيم وجودها ، والتشارك بالصراع ، لأن الهويات لا يمكن أن تأخذ غير هذه الصيغة التوترية وإن محرك التاريخ يكمن في صراع الهويات وتفعيلها لمزاولة العنف المادي والمعنوي ضد الآخر ، استهدافاً لثقافته وتقاليده وهذا هو أخطر ما تعيشه الهوية / الهويات عندما تذهب باتجاه العنف والقسوة التي تؤدي الى نوع من الطرد المباشر أو الاحساس بالاندحار والاحباط الذي دائماً ما يتحول الى ما يشبه الطرد للجماعات التي قاومت تعميق التباين وتحفيز الافراد والجماعات لمقاومة التجاور بين الهويات .
وأكد د. فتحي التريكي على فهمه الموضوعي لإشكالية الهويات في صراعها المتوتر وان التاريخ كان صراع هويات . لذا أشار الى التناظر والتناسق بين الهوية والعقل في صيغته المنفتحة والكونية في الآن نفسه . وهو فهم يأخذ بعين الاعتبار ثوابت الوجود ومتغيراته ويفتح الوجود على الحياة بتغيراتها ومفاجأتها ونضالها وتوتراتها . فالذات في هذا الفهم مؤسسة للعقل وللوعي المتحرك والمتواصل أي إنها تتحدد بتاريخيتها / ن . م ص 1،2//

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top