مظفّر النّواب: تأملات وذكريات - 6 -

آراء وأفكار 2019/02/25 07:05:13 م

مظفّر النّواب: تأملات وذكريات - 6 -

د .حسين الهنداوي

وعي وطني وأممي مبكر

الشاعر مظفر النواب هو الابن البكر لعائلة عراقية عرفت بنزعتها الوطنية. وعن تاريخ عائلته يخبرنا انها خرجت من الجزيرة العربية إلى العراق، وفي أيام اضطهاد العبّاسيين رحلت إلى منطقة كشمير في الهند حيث حكمت جانباً من المنطقة. الا ان مقاومتها لاحتلال البريطانيين لها دفعت السلطة الاستعمارية الى معاقبتها بنفيها فاختارت العودة الى العراق من جديد لوجود العتبات المقدّسة ولأنها قدِمت منه في الأصل. وهكذا ظل الكره للبريطانيين تقليداً يتربى عليه الأبناء منذ الصغر حيث ظلت أحداث التهجير والترحيل والنفي التي عرفتها العائلة تروى على أسماعهم الأمر الذي زرع فيهم المشاعر المناهضة لبريطانيا حتى قيل إن العائلة رفضت دعوة للمشاركة في الحكومة العراقية الأولى عند قاموا بتشكيلها.
ومظفر كان الطفل الوحيد في بيت كبير في الكرخ يطل على دجلة، مقابل سراي بغداد وساعته، وظلت صور مياه دجلة المحيطة بشرفة البيت من عدة جهات ومشاهد الالوان والشموع التي تغمر المكان وقت الفيضان ماثلة منذ الصغر في ذهنه، وخالقة مساحات واسعة للكتابة في جو مشحون جداً احياناً بسبب بعض الأحداث السياسية الطارئة كما حصل عند مصرع ياسين الهاشمي الذي قتل في السراي وسمعت صوت الطلقات في البيت الذي كان ايضا ملتقى لكثير من الناس بينهم سفراء وضيوف. كما دأب البيت على استقبال مواكب كربلاء التي كانت تأتي خلال مناسبة عاشوراء داخلة البيت بمشاعلها وخيولها مصحوبة بمشاهد وطقوس هذه المناسبة ويقومون بتمثيل واقعة كربلاء.
إلى جانب الأثر الكبير لفيض البشر الذي كان يتدفق على بيتهم هذا في كتاباته، كان هناك جو تنويري خاص يحيط به: "كان بيتنا يغص بالناس والمشاعل وماء الورد في المناسبات العامة وكان لأفراد عائلتي مواهب متعددة ضمخت سهراتنا بالشعر والعزف والغناء. لقد ورثت حنجرة صافية ودافئة وتدربت على الاستماع وحسن الالتقاط ولذلك خرجت من البيت مهيئاً للتفاعل مع الناس، ثم جاءت الأيام الصاخبة خلال وثبة تشرين. فقد كان لاحتدام حشود المتظاهرين وصوت الرصاص، فعله في تشكيل الوعي السياسي لديّ. وربما ساعد في تكوين شخصيتي المتمردة تاريخ عائلتي الذي كتب في المنفى، من الجزيرة الى العراق ومن العراق الى الهند حيث حكمت عائلتنا المقاطعات الشمالية ثم المواجهة مع الاستعمار البريطاني التي انتهت بترحيلنا الى العراق".
وفي هذه العائلة المتفتحة كان كبار افرادها يعزفون على الآلات الموسيقية ويقرؤون الشعر ويغنون: "جدي كان يعزف على القانون والبيانو، والوالدة كانت تعزف على البيانو، ووالدي على العود، وخالي على الكمان. فكل هذا لعب دوراً.. جدي لوالدي شاعر بالعربية وبالفارسية. وهناك تركيبة عاطفية حادة في العائلة. هناك الكثير من الحوادث التي تدلّل على هذه الحدّة العاطفيّة.
وفي فترة الدراسة الابتدائية ايضا تموضعت البداية الشعرية لمظفر النواب. فأثناء دراسته في الصف الثالث الابتدائي اكتشف أستاذه موهبته الناشئة في نظم الشعر: "كانت لي خربشات وكان المعلمون يصححون كتاباتنا البدائية الشعرية.. وبسبب الأعياد والأهازيج و"السبايات" أخذت إذني إيقاعا شعريا، كونت إذنا موسيقية.. ففي البيت مثلا كان والدي يطلب مني ان اقرأ الأناشيد المدرسية وهو يرافقني على العود، ولذلك اكتب الآن بلا عروض، و(ادوزن) بلا عروض.. الميزان الشعري لا يحتمل الغلط عندي.. أحس بالغلط حين يحدث.. أعود أحاكمه عروضيا.. اكتب منذ الصغر والكتابة لها علاقة بأجواء الطفولة.. بقيت اكتب الشعر في الصحيفة الجدارية المدرسية إلى أن دخلت الكلية فكنا نقيم أمسيات بنادي الكلية في قبو تحت الأرض. أول أمسية ألقيت فيها قصيدة كتبتها عن فراش الكلية اسمه "مروكي" شخصية غريبة جدا، وقد حضر هذه الأمسية بدر وكان فرحا جدا بالقصيدة، وجلس معي وتحدث. قال هذه القصيدة تبشر بكتابات جديدة، ولم أكن اعرفه.. عرفت بعد ذلك انه بدر شاكر السياب. واصلت الكتابة إلا ان اغلبها فقد نتيجة أوضاع العراق."
وعن هذه القصيدة كتبت بلقيس شرارة في "ذكريات كلية الآداب في الخمسينيات": "كانت تقام في الكلية نشاطات ثقافية، من بينها اجتماع أسبوعي يعقد كل يوم اثنين في الساعة العاشرة صباحاً. فيجتمع طلبة الكلية و الأساتذة في القاعة الكبيرة المعدة لهذا الغرض. سارت الأمور على طبيعتها في البداية، فلم يتدخل العميد فيما يتعلق في الاجتماع الأسبوعي، حتى ألقى الشاعر مظفر النواب. قصيدته الشعبية في فرّاش الكلية «مروكي» فامتلأت القاعة بالطلبة، و لم تكفي مقاعدها للحضور فاضطر جمهور الطلبة الوقوف على جانبيها. علا التصفيق بحماس لمظفر بعد أن انتهى من إلقاء القصيدة، و كان لها صدى واسعاً بين أوساط الطلبة، و أصبح الفراش «مَروكي» فجأة نجماً من نجوم الكلية. و اشتهر مظفر بشعره الشعبي في الكلية، و جرى تداول قصيدته على أوساط واسعة يحفظها و يرددها عدد من طلبة الكلية. على أثر ذلك قرر العميد عبد العزيز الدوري بشكل مفاجئ أن يلغي هذه الساعة، مما خلف في نفوس الطلبة إحساساً بعدم استعداد الإدارة تقبل أي نوع من أنواع الانفتاح، بالرغم من إن العميد كان من خريجي جامعة لندن و عاش في جو ليبرالي لبضعة أعوام في إنكلترا، لكنه كما يبدو كان أسير إملاءات من وزير المعارف خليل كنة عليه الإلتزام بها و تطبيقها.
وبعد أن أكمل مظفر النواب دراسته في بغداد حيث تخرج في كلية الآداب، وأصبح عضواً في اتحاد الأدباء عام 1959 كما اصبح عضوا في جمعية الفنانين العراقيين. ويذكر الشاعر الفريد سمعان انه عرف مظفر لأول مرة عضواً في اتحاد الادباء وسط مجموعة من الشعراء والأدباء الذين مارسوا دعائم هذا الاتحاد وانطلقوا منه ليشكلوا اساساً متينا وقفت وما زالت تقف عليه مجاميع من النمط الإبداعي المتفرد.. ما بين شاعر وروائي وناقد أدبي ومستمع عزيز يجيد فن الاستماع.. وكانت المفاجأة.. حين نشرت له قصائده مجلة المثقف التي كانت تصدر عن جمعية الخريجين وعلى رأسها علي الشوك، أمجد حسين، الدكتور غانم حمدون ومجموعة من الكتاب الشباب آنذاك.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top