مظفّر النّواب: تأملات وذكريات - 7 -

آراء وأفكار 2019/02/27 06:25:15 م

مظفّر النّواب: تأملات وذكريات - 7 -

في البدء كان "للريل وحمد"!

د. حسين الهنداوي

قد تكون قصيدة مظفر النواب "القدس عروس عروبتكم" هي أشهر قصيدة على المستوى الشعبي في العالم العربي حالياً رغم مرور أكثر من خمسين عاماً على نشرها لأول مرة في أوائل سبعينيات القرن الماضي. بيد أن قصيدته "للريل وحمد" هي بلا ريب الأشهر على المستوى الشعبي في العراق إذ نجدها على كل لسان تقريباً في بلاد الرافدين، حيث يتناغى بها العشاق وتزدان بها الافراح ويتنافس على غنائها كبار الفنانين. والحال، يندر أن حقق نص شعري أو أدبي كل ذلك النجاح وجلب كل تلك الشهرة لكاتبه كما فعلت قصيدة "للريل وحمد" برغم إنها كانت أول قصيدة تنشر له وبمبادرة فردية من الكاتب الراحل علي الشوك الذي أخذها من دفتره ونشرها من دون علمه كما قال مظفر نفسه مراراً. وهي مبادرة دالة بذاتها من ذلك البغدادي الروح وعالم الرياضيات آنئذ لكن المفكر والروائي والباحث في الموسيقى والميثولوجيا لاحقاً والذي غدا أحد أبرز أعلام الثقافة العربية في القرن العشرين بفضل مؤلفات مثيرة لعل أشهرها "الأطروحة الفنطازية" و"الدادائية" و"كيمياء الكلمات" و"أسرار الموسيقى"، و"الكتابة والحياة". ولا ريب فان اللقطات الفنيّة المبتكرة والدقة التعبيرية وجمالية حبكة لغة رافديني الأصل والهواجس هي ما تدفع مثقفاً متفرداً كعلي الشوك لاهتمام بنشر قصيدة كهذه لشاعر مسكون بحب شعبه ووطنه فضلاً عن الحب ذاته بأرفع معانيه:
"مرّينه بيكم حَمد، وإحنه بقطار اللّيل
وإسمعنه، دك إكهوه.. وشمينه ريحة هيل
يا ريل صيح بقهر.. صيحة عشـك يا ريل
هودر هواهم ولك.. حدر السنابل كطه
***
يا بو محابس شذر.. يلشاد خزامات
يا ريل بللّه .. ابغنج.. من تجزي بأُم شامات
ولا تمشي .. مشية هجر.. كلبي بعد ما مات
هودر هواهم ولك.. حدر السنابل كطه

ومن المدهش، في الواقع، إن هذه القصيدة الأولى للشاعر النواب تمتلك أغلب شروط الحداثة ومفهومة من قبل كل العراقيين على تقاطع مشاربهم الثقافية وانحداراتهم حيث كل بطريقته يجد في "للريل وحمد" متعة أو بهجة فيما تتابع الصور الشعرية الرائعة والمبتكرة تماما بغزارة وجمالية لم يعرفها الشعر الشعبي العراقي من قبل.
وعن الاجواء الخاصة التي شهدت ولادة «للريل وحَمَد» يخبرنا مظفر النواب: "كتبت هذه القصيدة، ولم يكن يدور في ذهني أني سأطبعها في يوم ما، أو أنها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لأنني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناءً وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام، كتبت هذه القصيدة في عام 1956 وأكملتها عام 1958.. لقد فتحت (للريل وحمد) بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العاميّة، ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى - كان والدي يعزف على العود ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية - كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في (للريل وحمد) عن غيره في القصائد العامية الأخرى.
وكما أكد الشاعر العراقي الكبير الفريد سمعان مواكب الانطلاقة الشعرية لمظفر النواب ورفيقه في النضال السجن، "كان للريل وحمد صدى عميق وأكاد أقول كان لها دوي هائل آنذاك وتناولتها الأقلام بالثناء والاعتزاز فقد حلقت بالشعر الشعبي وانتزعته من الأطر القديمة المألوفة الى واقع معاصر، الى لغة غير مألوفة من القصائد القديمة لغة شعبية مهذبة تجردت من الشوائب والعبارات المتكررة… إضافة الى الصور الجميلة التي تخللها… إنها صور تتراكم فوق بعضها إنها تلملم أنفاسها بصعوبة لتصبح لوحة لعاشق ينتظر قطار الليل ويغني له ويرسم حركاته ويتابع خطواته على القضبان الحديدية… من يقرأ وصف مظفر للقطار لا يصدق أن قطاراً من الحديد اليابس.. يسير على قضبان يابسة وتعطي مثل هذه التراتيل الجميلة.. المتلاحقة."
وإذ يذكر سمعان توقع الشاعر الرائد بلند الحيدري أن يكون لمحاولات النواب تلك "الشأن الكبير في خلق شعر شعبي جيد لما تمتاز به من شكل فني ناجح ومن صور غنية وموسيقى خلابة وصدق وبساطة… إن مظفراً شاعر حقاً وشاعر كبير رغم هذا المجال الصغير الذي يقول فيه شعره"، يرى أن "ما تنبأ به بلند الشاعر قد تحقق فعلاً وكانت نبوءة صادقة تدلل على تفهم عميق لبوادر جديدة في مجال معين، نحو ازدهار في واحة نائية بعيدة عن الأنظار… وها هو الشاعر الكبير يحتل مكانة على الساحة ويمتد عطاؤه ولا يشمل العراق وحسب بل كافة أرجاء العالم ويتغنى بشعره الذين استمعوا إليه في كندا وانكلترا وبلدان أخرى عديدة في كرتنا الارضية وهو فخر لا لمظفر بل للوطن الذي انجب وغنى له ومنحه عصارة شبابه وبالتالي أفضل هدية لأجيال حاضرة وأخرى قادمة". ويرى الفريد سمعان إن مظفر اعتمد "مفاصل عديدة في الحركة الشعرية والفنية فهو ليس شاعراً فقط بل هو متعدد المواهب، شاعر، ورسام تشكيلي، ومغن أيضاً يتمتع بصوت يشوبه بعض الغموض مع حلاوة مكتومة ومسحة من السمات الرجولية، واعتمد في شعره قواعد فنية حديثة مستفيداً من دراسته الجامعية أولاً وتجويده للقرآن الكريم واطلاعه على معطيات الفكر التراثي بدءا بالشعر الجاهلي وانتهاء بالشعر الحر والانطلاقات الحديثة والتمرد الشبابي على الابواب المغلقة والافكار المتحجرة.. يضاف الى ذلك جديته في تعزيز معارفه والتجول في ميادين بعيدة المدى وجديدة الأطر، وأكاد أقول مغامراته، فقد قصد الأهوار أكثر من مرة وتجول في ارجائها وتفقد معالمها وزار محافظات الجنوب والتقى بالعديد من الشعراء والمطربين كما تضوع أنفاس الاساتذة الكبار كالمخزومي، علي جواد الطاهر، صلاح خالص وإبراهيم السامرائي وتتلمذ على أياديهم وتعرف من خلالهم على خزانتهم وتوجهاتهم التي تنم على المسارب الحقيقية للمتابعة الفكرية واتساع الجوانب العديدة من الحياة".

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top