دراسة في طبيعة الشخصية العراقية 2

آراء وأفكار 2019/03/04 12:00:00 ص

دراسة في طبيعة الشخصية العراقية 2

ثقافة وضع العصا في العجلة

د. رعـد سامي التميمي

الحلقة الثانية

بعد أن حاولنا في مقالنا السابق تحت عنوان ( الفهم الخاطئ للحضارة) والذي اندرج ضمن سلسلة حلقات على شكل مقالات، مؤكدين فيه على الصفات الحميدة للشخصية العراقية، المتمثلة بالكرم والشجاعة والإيثار وغيرها من الصفات، مع التركيز على بعض المشاكل التي تعتريها ومحاولة تشخيصها والوقوف على العلل المسببة لها.
نحاول هنا تسليط الضوء على موضوع ذي أهمية كبيرة ممكن وصفه بثقافة وضع العصا في العجلة.
ففي نهاية عقد التسعينيات كنت مسافراً من بغداد الى البصرة بواسطة القطار، وقد التقيت بالصدفة مهندسين يعملون على القطار، وقد دار حديث بيننا عن التطور الكبير الذي شهده العالم في سكك الحديد والقطارات، حتى ذكرنا أن اليابان قد دشّنت قطاراً سرعته بحدود 400 كم بالساعة، فعندها سألتهم كونهم أصحاب اختصاص، لماذا لا نستورد مثل هكذا قطارات أو على الاقل قطارات أكثر تطوراً من تلك المستخدمة في ذلك الحين؟
أجابني أحدهم إن التضاريس الجغرافية في بعض مناطق العراق لا تسمح لتثبيت مثل هكذا سكك تتحمل مثل هكذا قطارات، وحينما استفسرت أكثر قال لي إن نوعية التربة في العراق تختلف عن تلك الموجودة في بقية دول العالم، فتربة العراق لا تتحمل هكذا قطارات، في حين أن اليابان ودول أخرى تربتها تتحمل الضغط الذي تولده القطارات السريعة.
حينها تساءلت بيني وبين نفسي هل يعقل هذا الكلام؟ هل صحيح إن تربة العراق تختلف عن جميع أنواع الترب في دول العالم؟ وبعد التفكير الطويل الذي رافقه الصمت سألت نفسي هل هناك أيدٍ خفية (Invisible Hands) تحاول تعطيل حتى مجرد التفكير بمثل هكذا مشروعات؟ أم أن هناك ثقافة خلق الأعذار والتعكز على الأوهام؟ أم أن كلامهم صحيح؟
وقد رافقتني تلك التساؤلات على مدى عقدين من الزمن تقريباً وهي تدور في ذهني ولم تفارقني لحظة، الأمر الذي زاد من تمحيصي في الأشياء ومحاولة معرفة العلل التي تعطل العقل وأي إنجاز مستقبلي أو حتى مجرد التفكير به وتضع (العصا في العجلة).
وأذكر لكم موقفاً آخر وقصة مؤلمة أخرى كشفت لي الحقائق بشكلٍ جلي، وهي إنه قبل حوالي خمس سنوات في بغداد وحينما كنت أتجول وجدت أن هناك شوارع مقطوعة، لوجود عملية بناء لمجّسر، فسألت أحد العمال الذين يعملون في هذا المشروع أين المهندسون المسؤولون عن هذا العمل؟ فأشار لي بيده على أحدهم، فمشيت والقيت التحية عليه وباركت له الجهود المبذولة لبناء هذا المجّسر، فسألته لماذا لم تبنوا نفقاً بدلاً عن هذا المجّسر، خاصة ان هذا المجّسر هو في مركز المدينة وانه يساهم في تشويه المنظر، كما أن اغلب الدول تحافظ على مراكز مدنها من التغييرات التي تؤثر على الشكل التاريخي لها؟.
فأجابني باللغة العامية ( مو احنة بالعراق أرضنة ما تصلح لبناء انفاق) فسألته ولماذا لا تصلح؟ قال ( مو تربتنة تختلف عن غيرها من الدول)، اجبته هذه المرّة بطريقة التساؤل وهل تعتقد إن الأرض في بغداد لا تصلح لبناء نفق في حين أن في مدينة اوسلو قد بنوا فيها نفقاً تحت البحر، وإن مدينة اسطنبول قد أقامت نفقاً للمترو يمر من تحت مضيق البسفور! فأجابني نعم إن أراضيهم وتربتهم تختلف عن التربة في العراق.
فشكرته على الحديث، وذهبت وأنا في حيرة وألم، لأني توصلت وبشكل قاطع الى أن الثقافة التي تحكمنا هي (ثقافة وضع العصا في العجلة) وإن هذه الثقافة يمكن أن نطلق عليها (ثقافة المو) بلهجتنا العامية.
وللأسف الشديد هناك الكثير منا من يضع العصا في العجلة في محاولة لإيجاد ذرائع وأسباب واهية أمام التطور والتقدم، بل حتى أمام التفكير به.
وهذه القيم الثقافية أخذت تنتقل من جيل الى آخر، كالمرض المعدي، وهي معطِلة لكل شيء، الأمر الذي بات ملحاً لإيجاد حلول لطريقة التفكير هذه.
لذا أوصي دارسي علمي الاجتماع والنفس الوقوف عند تلك الحالات ودراستها بطريقة التمحيص والبحث وباستخدام أساليب احصائية من خلال أخذ عينات اجتماعية، للوصول الى تلك الاسباب المعطلة ومحاولة ايجاد الحلول المنطقية لها عسى أن نستطيع مغادرتها في السنوات القادمة.
ويبقى التساؤل بحاجة الى إجابة أوضح سأتركها لتحليل القارئ، هل أن هذه القيم الاجتماعية قد زرعها الاستعمار في داخلنا حسب ما تستند إليه نظرية المؤامرة؟ أم إنها قيم اجتماعية موروثة بين الأجيال تعود في أغلبها الى طبيعة شخصية الفرد العراقي!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top