لماذا ينبغي أن نعد المتوالية القصصية جنساً أدبياً؟

لماذا ينبغي أن نعد المتوالية القصصية جنساً أدبياً؟

د.ثائر العذاري

يضع (شكلوفسكي) في كتابه (نظرية النثر Theory of Prose) الصادر عام 1929 والذي ترجمه (تودوروف) إلى الفرنسية عام 1965 وترجمه (بنجامين شير) إلى الإنكليزية عام 1991 ولم يترجم إلى العربية إلى الآن على الرغم من أهميته، يضع فرضية مبهرة مفادها أن التوالي القصصي هو أصل الرواية، فهو يرى أن الإنسان حين اخترع السرد المكتوب بدأ بكتابة نصوص قصصية مترابطة بطريقة ما قبل أن يخترع فكرة الحبكة لكتابة نص طويل. ويضرب لذلك أمثلة منها (كليلة ودمنة) و(ألف ليلة وليلة).
وقد نبهتني هذه الفرضية إلى قضية مهمة، هي أن بإمكاننا القول أن التوالي القصصي عربي الأصل، فلدينا أمثلة لا تحصى منه غير مثالي (شكلوفسكي) السابقين. فمقامات الهمداني مثلا متوالية قصصية تامة الشرائط، فهي مجموعة قصص تشترك بالراوي والبطل والموقف. ومثلها رسالة الغفران للمعري والإمتاع والمؤانسة للتوحيدي وغيرها كثير.
في كل مقال أكتبه في هذا الموضوع أجتهد أن أضيف معلومات جديدة لأني أرغب ان تكون لدى القارئ العربي معطيات كافية للتعاطي مع هذا الجنس الأدبي الفاتن. بينما لا يفتأ (ناقد نحرير) يكرر جملا ثلاثا بائسة مكسورة الأعناق مملة في مقالاته منكرا وجود الظاهرة أو تجنيسها على الرغم من أن كل المراجع التي يشير إليها تقر بذلك، وعلى الرغم من حماسته غير المبررة لموقفه لم يستطع إلى الآن أن يأتينا بنص لناقد واحد يعترض على تجنيس المتوالية القصصية. وآخر فرية طلع بها علينا ادعاؤه أن كتابة عبارة (متوالية قصصية) هي اجتهاد شخصي من الأديب المصري (منير عتيبة) وأن هذا لا يلزم النقاد بتبنيه. وكشف الناقد النحرير بادعائه هذا جهله بالموضوع الذي لا يؤهله للخوض فيه وأنه يحتاج لقراءات كثيرة أخرى، فالجزم بهذه الطريقة بما يجهله إنما هو خداع للقارئ. فالمتوالية القصصية (مرج الكحل) لمنير عتيبة الصادرة 2005 لم تكن الأولى التي أثبت على غلافها عبارة (متوالية قصصية)، بل كانت مسبوقة بأعمال أخرى مهمة فعلت الشيء نفسه نذكر منها على سبيل التمثيل:
أمواج الليالي إدوارد/ الخراط 1991
أغمض روحي عليك/ طالب الرفاعي 1996
مسيرة عزبة الجسر/ سعد الدين حسن 1998
هيا نلعب يا جدي سويا مثل أمس/ يحيى الرخاوي 2000
متواليات باب ستة/ سعيد بكر 2001
حديث المكان/ فوزات رزق 2005
وكما يلاحظ القارئ الكريم أنها تنتمي لأكثر من بلد عربي. غير ان الأهم من هذا كله أن (ستيلا ماكنيكول) المتخصصة في أدب (فرجينيا وولف) اكتشفت بينما كانت تجري دراسة على مسودات رواية (مدام دالاوي) أن (وولف) كتبت سبع قصص قصيرة مترابطة في أثناء كتابتها للرواية في عشرينيات القرن الماضي تتحدث عن تحضيرات السيدة دالاوي لحفلها عنونتها (حفلة السيدة دالاوي Mrs. Dalloway's Party) ونشرتها (ماكنيكول) عام 1979، وكما يلاحظ القارئ الكريم في الصورة فقد وضع تحت العنوان عبارة (متوالية قصصية A short story sequence)، والحقيقة أن هذه المتوالية لم تكن الأولى التي تجنس بهذه العبارة ولا الأخيرة، فهناك مئات الأعمال غيرها لأعلام القصة الغربيين لكني سقت هذا المثال لطرافته وجدته.
والآن ما أهمية عد المتوالية القصصية جنسا أدبيا؟
إن لكل جنس أدبي أصوله وقواعده التي تهيء القارئ لتقبله، فنحن مثلا حين نقرأ قصيدة عمودية نهيئ أنفسنا لتلقي كلام موزون بشطرين وقافية موحدة وشكل محدد من اللغة قائم على ثنائيات التشبيه، وهذا يجعلنا قادرين على الاستدلال على مواضع الخلل مثل كسر الوزن والإيطاء والإقواء وغيرها، بينما لا يهمنا هذا كله حين نقرأ قصيدة نثر.
إن أي قارئ يطور خبراته القرائية بما يجعله قادرا على الدخول في مجال محدد من التوقعات وهو مقبل على قراءة عمل أدبي محدد بعد أن يعرف تجنيسه. وقراءة متوالية قصصية تستلزم أفقا للتوقع يختلف عن ذاك الذي تستلزمه قراءة مجموعة قصصية تقليدية، لأن القارئ سيهتم في المتوالية بالبحث عن شكل الترابط بين القصص وما ستضيفه كل قصة إلى سابقاتها وأخيرا بناء انطباع كلي عن القصص مجتمعة يقترب من ذاك الذي تولده الرواية.
لنأخذ مثلا كتاب (أمواج الليالي/ إدوارد الخراط/ 1991)، يتألف الكتاب الذي وضعت على حافة غلافه العليا عبارة (متتالية قصصية) من تسع قصص قصيرة تروى بضمير المتكلم أولها قصة (سحب ملتبسة) وآخرها (شجرة مضطربة الثمر)، ويمكن قراءة كل قصة منها منفصلة او قراءتها بتسلسل غير الذي وردت فيه، لكن تجنيسها من الناشر بأنها متتالية قصصية سيجعل القارئ متنبها إلى أنها عمل واحد، فالقصص كلها تتبع أسلوبا واحدا (التداعي الحر)، وكل قصة تقدم مرحلة من تجربة الراوي في الحب وتقلباته، وهكذا تصبح هذه المتوالية عملية متابعة لتطور شخصية واحدة تظهر في القصص التسعة كلها، وهي بهذا لا يمكن ان تعد مجموعة قصصية لأن وجود البطل الواحد يجعلها شبيهة بالرواية، ولا نستطيع عدها رواية لأنها تتألف من قصص مستقلة يمكن قراءة كل واحدة منها على حدة، فنحن بحاجة إلى تجنيس آخر بين الاثنين هو (المتوالية القصصية) لنستطيع وصف العمل وبناء أفق توقع القارئ.

تعليقات الزوار

  • حامد لعيبي

    حسب فهمي القاصر أن المتوالية القصصية هي توالي الأشخاص والأزمنة والمكان والاحداث في الأعمال السردية سواء كانت رواية أم قصة للروائي نفسه هل وتوجد مصادر أجنبية مترجمة لفهم هذا المصطلح بشكل اوضح

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top