سؤال التنوير..تعلّموا ان العقل يعلو مع الحرية

سؤال التنوير..تعلّموا ان العقل يعلو مع الحرية

|   الحلقة 18   |

 علــي حســـين

" ماذا كان ليسنج إذن ، لو لم يكن شاعراً، هل كان أكثـر من شاعر ، إنه بلغة العالم الحديث كاتب ، وهو يمثل للمرة الأولى في المانيا ، الطابع الأوروبي للكاتب العظيم الذي صار معلماً ومربياً لأمته .. لقد أحب النور ، لذلك أسموه مؤسس عصر التنوير ، حارب الغباء والكذب ، ومقت العبودية وجمود الفكر وخموله ، ودافع عن حرية الفكر بمنتهى الجدية والتقديس "
توماس مان

قبل وفاته بعام قرر أن يضع كتاباً يعيد الى الأذهان كتاب الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو " إميل أو التربية " الذي صدر عام 1762، وفيه قدم لنا روسو مفاهيمه عن التربية على شكل رواية بطلها الطفل " إميل " ، ومن خلال أحداث الرواية ، تقدم لنا رؤية تربوية قائمة على فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع ، فالفرد يولد بفطرة طيبة نقية وطاهرة، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها، فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه. .كان جوتهلد ابراهام ليسنج المولود عام 22 كانون الأول من عام 1728 في إحدى قرى الجنوب الألماني ، لأسرة متدينة ، والده قسيس ، يهوى جمع الكتب ، فنشأ الصبي في بيت يضم مكتبة كبيرة جداً ، أما جدّه لأبيه فقد أصدر في شبابه بحثاً حول التسامح الديني ، أولته أمّه المريضة عناية خاصة ، كان مقرر له أن يدرس علوم الدين في جامعة لايبزغ ، لكنه استمع هناك الى محاضرات في الرياضيات والفلسفة ، قال عنه أحد أساتذته وهو يرى شغفه بالقراءة :" إنه مثل حصان ينبغي له حصة مضاعفة من الشعير " وقد استمر ليسنج بالتهام كل ما يقع بين يديه من كتب ، جذبته أضواء المسرح ، فقرر أن يعيش حياة حرة ، ووصل الخبر الى أبيه فقد كان الابن يشاهد في كواليس المسرح أكثر من قاعات المحاضرات ، فيقرر أن يمنع عن ابنه المصروف ، في الخامسة والعشرين من عمره يسافر الى برلين ، هناك سيطلع على مؤلفات فولتير الذي كان معلماً وصديقاً للملك فريدرش الثاني ، وتشاء الأقدار أن يرشحه سكرتير فولتير ليقوم بمهمة ترجمة أعمال الفيلسوف الفرنسي الى الألمانية ، ونجده يكتب بعد إطلاعه على مخطوط فولتير " عصر لويس الرابع عشر " :" لكي يترجم المرء السيد فولتير ، ينبغي أن يسلم نفسه للشيطان .في برلين سيعمل محرراً أدبياً في إحدى الصحف وسيشرف على ملحق شهري بعنوان " الجديد في دنيا الفكر " وسيعاوده الحنين الى المسرح فيكتب عدداً من المسرحيات التي لاقت نجاحاً ومن أبرزها " العالم الشاب " و عدو المرأة " وهي أعمال انتقد فيها غرور العلماء ، وظاهرة العداء للمرأة " ، وسترتبط مكانة ليسنج في تاريخ الأدب العالمي بالدراما المسرحية التي تسلط الضوء على المأساة الانسانية ، ونجده يكتب في كتابه لاؤوكون :" قد تضفي اسماء الأمراء الأبطال على المسرحية شيئاً من المظهر والعظمة ، ولكنها لاتصلح لاستدرار العطف أو تحريك المشاعر ، ومن الطبيعي أن يؤثر فينا بعمق تكبر مصير أولئك التعساء الذين يشبهوننا في أحوالهم ومعيشتهم ، حيث نشعر بالعطف على الملوك ، فإننا لانتعاطف معهم كملوك وإنما كبشر ، قد تكون لمصائرهم ما يتقلدون من مناصب أهمية أكبر ، لكنهم كأفراد ليسوا أكثر إثارة من غيرهم ، فمشاعرنا وعواطفنا تتطلب شيئاً محدوداً ملموساً ، في حين أن الدولة شيء شديد التجريد " . تعبر هذه الكلمات عن منهاج كامل ، وتبدأ صفحة جديدة من تاريخ المسرح الألماني ، فبهذا التصور ينتهي مسرح الزخارف والبطولات الوهمية ، كان ليسنج يرى أن الهدف الأساس للمسرح هو تصعيد القدرة على الإحساس بمشاكل الإنسان ، ويكتب في إحدى رسائله :" الإنسان العطوف هو أفضل إنسان ، هو أكثر الناس ميلاً الى جميع الفضائل الاجتماعية والى الأعمال الكريمة ، فمن يثير فينا الرحمة والتعاطف ، يُصلح من أنفسنا ويرفعنا في مدارج الفضيلة ، وعلى هذا المنوال تسير الدراما " . كان ليسنج يرى أن المعرفة العقلية والأثر الجمالي والموقف الاخلاقي يربطها رباط واحد من خلال علاقة تدخل في تكوين العمل الفني ، فالتعاطف مع مصير البطل المسرحي هو وسيلة لتعميق الأثر التربوي ، والرحمة ليست غاية في ذاتها ، وإنما وسيلة مسرحية تربوية لتعميق المعرفة ، ويؤكد ليسنج أن موضوعات التعاطف تنبع دائماً من المعارف والأفكار العقلانية ، وقد تأثر التراث التنويري الألماني بوجهة نظر ليسنج هذه التي يبرز فيها الإنسان كممثل لفئة اجتماعية ، وبيئة اجتماعية واضحة في إطار التكوين الاجتماعي الشامل ، وتعبر ذهنيته ووجهته العقلية والنفسية عن مكانته في السلم الطبقي والوظيفة التي يؤديها ، ولا يعود الشر والخير ، مجرد قضايا اجتماعية أو نفسية وإنما يبرزان في إطار العلاقات والمصالح الاجتماعية ، ونجد ليسنج يؤكد أن الوضع الاجتماعي يحدد قدر الإنسان ، ويبرز في مسرحياته الأخلاقيات الطبقية باعتبارها محرك للحدث الدرامي ، وهو في معظم أعماله المسرحية يوجه وبشدة سهام النقد الاجتماعي للطبقة الارستقراطية ويتهمها بالعمل على إعاقة مسار الطبقة الوسطى وتهمل على عرقلة فاعليتها في المجتمع ، الأمر الذي دفع يوهان غوته ليكتب أن :" ليسنج فتح بمسرحياته الباب على مصراعيه لهذا التطور الاجتماعي والفكري الذي عبر عن روح عصر التنوير " . في عام 1779 يقدم ليسنج الى المسرح آخر اعماله المسرحية بعنوان " ناتان الحكيم " والتي أرادها أشبه بدعوى الى حق كل إنسان في التفكير الحر ، وسخر فيها من التعصب الديني ، وعبر عن إيمانه بالعقل ومستقبل الإنسانية ، وبقدرة العقل على نشر التسامح ، وفيها يقدم مفهومه الفلسفي عن المساواة بين جميع الأديان .
في واحدة من رسائله يكتب ليسنج الى والده إن الكتب ستصنع له عالماً حسناً ، لكنها وحدها لن تساعده على اكتشاف العالم ، بعد سنتين سيجد نفسه يعمل سكرتيراً للحكومة البروسية ، ويذهب في رحلة مع القائد العسكري توينزين ، لكنه سرعان ما يترك هذا العمل ، ليعود الى المسرح وهذه المرّة مستشاراً لمسرح هامبورغ ، يكتب بول هازرا في موسوعته الفكر الأوروبي إن ليسنج وهو ينتقل من مكان الى مكان ومن عمل الى عمل إنما كان يسعى الى حماية حريته :" لأن الضعفاء يدعون أنفسهم يُسْجنون في إذعان وسرور بوساطة المهنة أو العادات ، بينما الأقوياء عندما يشعرون إنهم مهددون ، فإنهم يفرون ، وكأن ليسنج يقول : لنحطم الأغلال ، ولننفض غبار أقدامنا " . في الاربعين من عمره تقع بيده ترجمة ألمانية لكتاب روسو " إميل أو التربية " ، فيقرر أن يكتب كتاباً مشابهاً ، يواصل العمل فيه اثني عشر عاماً ليصدر عام 1780 بعنوان " تربية الجنس البشري " – ترجمه الى العربية حسن حنفي " ، في هذا الكتاب سيؤكد ليسنج إن التربية بالنسبة لفرد أشبه بالوحي بالنسبة للجنس البشري ، فالتربية هي وحي مصنوع للإنسان الفرد ، بينما الوحي هو التربية المستمرة للجنس البشري ، وفي مقالته عن ليسنج في تراث الانسانية يؤكد عبد الحمن بدوي أن ليسنج يؤمن إن :" الإنسانية، تمر بثلاث مراحل للتربية: مرحلة العهد القديم وفيه التطور التدريجي من عبادة ألوهية محلية وأبوية الى عبادة الله الواحد، والانتقال من الأخلاق القائمة على الثواب والعقاب في الحياة الدنيا الى عقيدة خلود الروح، والمرحلة الثانية هي التي علمت فيها المسيحية مذهب الثواب الأبدي للصلاح، بدلاً من الثواب المباشر، أما المرحلة الثالثة فهي تلك التي يجدر أن تتحول فيها الحقائق المنزلة الى حقائق عقلية. وفي هذه المرحلة الثالثة يجب أن تنتفي كل العناصر الدوغمائية الجامدة، فاتحة الطريق أمام تأمل ديني - أخلاقي يتم التوصل إليه من طريق مواصلة التربية الجماعية " كان ليسنج إضافة الى إعجابه بروسو قد قرأ ليبنتز وهام عشقاً باسبينوزا ونجده يكتب :" إن لدينا أسباباً وجيهة لأن نؤمن بأن هذا الكون الضخم أنشيء لكي يكون فيه كائنات عاقلة يستطيعون أن يرتفعوا درجة بعد درجة ، وأن يرتقوا شيئاً فشيئاً في الكمال ، وأن يجدوا في هذا النمو سعادتهم " ..ويشير ليسنج الى أن سوء استعمال السلطة ، والامتيازات المستمرة ، وكذلك تعارض الأغنياء والفقراء ، يحتم وجود حكماء مجردين من أوهام الذين سبقوهم وعصورهم ، ورغم أن تقدمهم سيكون بطيئاً حتماً ، وسيمتد من قرن الى قرن ، فإنهم سيعملون للسلام والعدالة والحب ، الى أن يأتي ذلك الزمن الذي تنتهي فيه الأفعال الخيرة بأن تكون تلقائية ، والتي يعمل فيها الناس الخير من دون أمل في الحصول على مقابل ، وبلاخوف ..يكتب توماس مان إن ليسنج كان رسول العقل في ذلك العصر ، عقل يستعين بعمله بمحبة الناس .
في أواخر حياته ستتراكم عليه الديون ، وتباع مكتبته الشخصية في المزاد العلني عام 1769 ، وسيضطر تحت ضغوط الظروف المالية الصعبة الى قبول وظيقة أمين مكتبة ، ويظل في هذا المنصب حتى وفاته في الخامس من شباط عام 1781 ، وقد وجد أصدقاءه بين كتبه مخطوطة لم تنشر وضع لها عنوان " دفاع عن عباد الإله المتعقلين " ، حيث أراد من خلاله أن يمد المجتمع المدني بسلاح يحارب به الخرافات وأفكار العصور المظلمة التي لاتؤمن بسلطة العقل .

****
كلا ، سيأتي بالقطع زمن الكمال ، حيث نرى الإنسان في اقتناعه بمستقبل أفضل لايستعير دوافعه من هذا المستقبل ، وإنما سيعمل العمل الطيب لأنه طيب ، وليس من أجل المكافأة الموعودة التي تُغشي بصره
ليسنج

يكتب أرنولد هاوز في كتابه الفن والمجتمع عبر التاريخ ؟ :" من المستطاع أن نصف التنوير بأنه المدرسة الابتدائية التي لايمكن أن يفهم بدونها الدور الذي قامت به في التاريخ الثقافي للقرنيين الماضيين ، لقد كانت نكبة المانيا إنها لم تحضر هذه المدرسة في الوقت المناسب .. وعندما أصبح التنوير هو الحركة الثقافية الرئيسية في أوروبا ، لم تكن الطبقة المثقفة الألمانية قد بلغت بعد النضج مما يتيح لها الاسهام فيه ، وفيما بعد لم يعد من السهل إغفال حدود الحركة وتحيزاتها ".

في الثالث من تشرين الأول عام 1797 سيكتب إيمانويل كانط الى ناشره :"لا أريدك أن تبدأ في تجميع أي شيء ، مما كتبته قبل عام 1770 " ، ويعترف كانط بأن روسو غيّر مفاهيمه الفلسفية يكتب في يومياته العبارة التالية :" إن روسو وضع أموري في نصابها " ، كانت كتابات روسو ترتبط ارتباطا أساسياً بمشكلات المسؤولية الذاتية والجماعية . والواجب الإنساني ، وبعد أن وجد كانط في جان جاك روسو ضالته بدأ فتره من البحث لمدة عشر سنوات لم ينشر خلالها شيئاً ، وفي واحدة من رسائله الى أحد تلامذته مؤرخة في عام 1772 يكتب كانط :" أنا في طريقي الى إصدار كتاب " نقد العقل الخالص " ، غير أن الكتاب لم يصدر إلا عام 1781، خلال هذه الفترة انتهى كانط من مراجعة معظم أعمال روسو ، وقرأ كتاب ديفيد هيوم " رسالة في الطبيعة البشرية " الذي سيكون له تأثير كبير وحاسم على أفكار كانط .
ولد إيمانويل كانط في 22 نيسان ،عام 1724في مدينة كونيجسبرغ الألمانية لعائلة فقيرة ، الأب كان صانعاً لسروج الخيل ، يعيل عائلة كبيرة من تسعة أفراد توفي أربعة منهم بسبب الأمراض ، كان الأب يطمح أن يتعلم ابنه مهنة السراجة ليواصل الحفاظ على إرث العائلة التي امتهنت هذه المهنة من مئات السنين ، إلا أن قريباً لهم يعمل قساً ، اكتشف في هذا الطفل نبوغاً كبيراً ، فقرر أن يتكفل بمصاريف تعليمه، فأدخله مدرسة ابتدائية ثم التحق بالثانوية ، توفيت أمه وهو في سن الثالثة عشرة ، فتركت أثراً حزيناً في حياته . وقبل أن يدخل الجامعة توفيّ الأب ، وبعده بأشهر مات القس ، فاضطر أن يتوقف عن الدراسة ليعمل في مهن كثيرة : بائع كتب ، عامل سراجة ، مدرس خصوصي، ليساعد أسرته المكونة من أخ وثلاث شقيقات . بعدها استطاع أن يتابع دراسته في أوقات الفراغ ، لاسيما بعد أن وجد مهنة عند إحدى الأُسر الغنية . في السنوات العشرين الأخيرة من حياته عاش حياة مريحة ، فقد جعلت منه شهرته واحداً من أعلى الأساتذة دخلاً ، وخلال هذه الفترة اشترى كانط منزلاً خاصاً به ، وسط مدينة كونيجسبرغ التي لم يفارقها طوال حياته ، التي قاربت الثمانين سنة ، كرّس معظمها للتأمل والكتابة . في هذا البيت، لم يسمح بوجود قطعة ديكور واحدة سوى صورة كبيرة لجان جاك روسو. في المطبخ الصغير كان كانط يتناول وجبته الحقيقية الوحيدة طوال اليوم ، وهي وجبة العشاء ، والتي اعتاد أن يدعو اليها عدداً من أصدقائه المقربين . لم يغامر قط بالسفر خارج مدينته ، كان يطبق نظاماً صارماً على حياته ، يستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً حيث يتناول قدحاً من الشاي ، ثم يقوم بإعداد محاضراته التي كان يلقيها ستة أيام في الأسبوع ، وكان يبدؤها في الثامنة صباحاً ، وبعد أن ينتهي منها يتفرغ للدراسة والكتابة ، بعدها يخلد لغفوة من النوم متمدداً على كرسي في حجرة المكتب ، وعندما تحين الساعة الخامسة عصراً ، يبدأ ممارسة نزهته الرياضية التي كان توقيتها بالغ الدقة ، ولا يتغير أبداً ، حتى أن ربات البيوت كنّ يضبطن ساعاتهن بالدقيقة على اللحظة التي يمر بها تحت نوافذهن . لم تُربك حياته علاقات نسائية ، في شبابه كان يصر ،بعد الانتهاء من إلقاء محاضراته، على الذهاب الى المقهى للعب البليارد ، لأنه كان يعتقد أن في ذلك تنشيطاً للذهن . كان يحب الهدوء ، ويقال إنه في إيام فقره غَيّر في عام واحد ستة بيوت ،. ولعلّ أكثر ما يسترعي الانتباه في شخصية كانط ، إنه كان يولي جسمه الكثير من العناية الشديدة ، فقد كان يعتقد إن من المهم أن يطول عمر الإنسان ، وقال لأحد أصدقائه :" إنني ضئيل قليل الأهمية إلى حد أن الرياح تمر فوق رأسي فلا تقتلعني كما تفعل بالنباتات التي تعلوني طولاً ، وفي وصف يقدمه كتاب بعنوان " كانط إنساناً " وضعه بعض أصحاب كانط وتلامذته ،- ترجم فصول منه الى العربية الدكتور حمادة ابراهيم – نقرأ هذا الوصف :" كان كانط شخصاً ضئيلا يبلغ طوله نحو خمسة أقدام ، كانت عيناه زرقاوتين جميلتين ، إلا أن اليسرى كانت لاتؤدي وظيفتها على الإطلاق " وظل طوال حياته يحتفظ بقائمة لأطول السكان عمراً في المدينة التي يسكن فيها . ويقدم لنا الشاعر الألماني "هانيريش هاينه" حسب ما جاء في كتاب هنري إيكن " عصر الأيديولوجيا " ، وصفاً طريفاً لحياة كانط ، فهو يقول : من العسير كتابة تاريخ حياة إمانويل كانط ، لم تكن له حياة ولاتاريخ ، وإنما كانت حياته حياة أعزب عجوز ، مجردة آلية التنظيم ، في شارع هادئ منعزل ، ولست اعتقد أن الساعة الضخمة للكاتدرائية القائمة هناك كانت تؤدي عملها اليومي على نحو أكثر دأباً وانتظاماً مما كان يؤديه مواطنها إمانويل كانط ، فقد كان يلتزم وقتاً محدداً في استيقاظه ، وشربه القهوة ، وفي كتاباته وقراءاته ، وأكله ومشيّه ، وكان جيرانه يدركون إن الساعة قد بلغت الواحدة والنصف بالضبط عندما يعود كانط من الجامعة مرتدياً معطفه الرمادي ، وفي يده عصاه الخيزرانية ، ويسير في شارع شجرة الليمون الذي أطلق عليه فيما بعد طريق الفيلسوف ، تخليداً لذكراه . كان الناس لايرون فيه سوى أستاذاً للفلسفة، وعندما كان يمر بهم يحيونه تحية الصديق ، ويضبطون ساعاتهم عليه ، ولكنهم لم يدركوا أن هذا الرجل يمارس بصمت عملية "تهديم" لأفكار قرون مضت . "
ورغم أن الفيلسوف كان مشغولاً بحالته الصحية الى درجة الوسوسة ، إلا إنه كان يهتم كثيراً بأناقته ، ويصر على أن تتناغم سترته الطويلة مع جواربه ، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته : من الأفضل أن تكون مجنوناً بالموضة ، على أن تكون الموضة خارج حساباتك".
خالط الفيلسوف القليل من النساء في حياته ، فيما عدا أخته التي ابتعدت عنه لوقت طويل.

***
" إنني أسمع أصوات المنادين تردّد من كل جانب : لاتفكروا ، فالضابط يقول: لاتفكروا ، بل تدربوا ، والخازن يقول: لاتفكروا بل ادفعوا ، ورجل الدين يقول : لاتفكروا بل أمنوا !، إلا سيداً واحداً في العالم يقول : فكروا ماشئتم، وفي ما شئتم ، ولكن اطيعوا !، ان كل هذا تقييد للحرية ، فأي هذه القيود يقف عقبة في سبيل التنوير ، وأيهما لايعرقله ، وإنما يسانده ؟ أجيب على هذه الاسئلة بقولي : إن الاستخدام العلني العام للعقل ينبغي أن يبقى حراً في كل الأوقات ، وهو وحده القادر على نشر التنوير بين الناس " .
إيمانويل كانط

في العام 1784 ينشر كانط مقالاً بعنوان "ما التنوير؟ " ، وكان المقال رداً على سؤال وجهته إحدى جرائد برلين على مفكري ألمانيا آنذاك : ما هو التنوير؟ وقد شارك العديد منهم بإجابات البعض منها غامض وأخرى مراوغة ، قبل أن يرسل كانط جوابه الذي لم يكن يتجاوز العشر صفحات . ويرى ميشيل فوكو إن هذا النص القصير الذي كتبه كانط أحدث بدعة جديدة لم يعرفها تاريخ الفلسفة ، وهي انشغال الفيلسوف بقضايا المجتمع والعصر. وفي هذا المقال يطالبنا كانط بأن نرمي وراء ظهورنا حالة التخلف البدائية التي ينقاد لها عقل الإنسان لفكر شخص آخر ، ويؤكد كانط إننا يجب أن ننظر للتنوير على إنه عملية اجتماعية وتاريخية ، فخلال كل ماضي الإنسانية ، اعتاد الناس على أن يوكِلوا مهمة التفكير لغيرهم ( الحكومات الأبوية ، وسلطة الكتب المقدسة ) ، والأخطر من ذلك والأكثر إهانة وفساداً للإنسان في رأي كانط هو سلطة الكهانة الدينية التي تغتصب وظيفة العقل البشري ، ويصبح التنوير مستحيلاً بالنسبة للإنسان المنعزل ، ولكنه يصبح ممكناً عندما تكون ممارسة التفكير النقدي سائرة بين عموم الناس ، حيث تسود روح التحرر والتواصل بين كل أفراد المجتمع . وقد حظيّ الكتيب الصغير هذا باهتمام فلاسفة فرنسا الذين اعتبروه فعلاً ثورياً جريئاً ، يطالب صاحبه فيه أن يتحرر الإنسان من القيود التي وضع نفسها بها ، وأن يطوّر مقدرته على الفهم ، حيث كان كانط يرى إن ما يقف وراء تخلّف الإنسان هو :"الكسل والجبن الذي يجعل الناس يمارسون سلطة الوصاية بعضاً على بعض ، وإن البعض يتدرب لكي يمارسوا هذه الوصاية". وفي هذا الإطار ينعى كانط الإنسان وكان يرى أن : "هؤلاء الأوصياء يسهرون حريصين على أن يعتبر الجزء الأكبر من ابناء البشر، تحررهم أمراً خطيراً، لا مسألة غير مناسبة وحسب، وهم لتأكيد ذلك يركزون حديثهم دائماً على المخاطر التي تحيق بالبشر حين ينطلقوا وحدهم من دون أدلة ومن دون وصاية ".
فما هو المطلوب إذاً ؟ إن المطلوب هو :" تلك الحرية التي تعتبر، عادة، أكثر الحريات براءة: " حرية أن يعقل الإنسان الأمور في رأسه وفي ما يتعلق بأي موضوع من المواضيع". ويستخلص كانط إن الواجب الأول الذي يتعين على كل دولة متنورة أن تمارسه إنما يكمن في تربية الناس على مفهوم الحرية. أما احترام النقد والاستقلال الفكري فيتعين أن يعتبر واحداً من المبادئ الاساسية في الوجود.
وبالتالي فإن التنوير حسب مقالة كانط هذه ، يعني حق الإنسان في النقد ، أي حقه في استخدام عقله بكل حرية مطلقة لاتحدها حدود الكهنة الذين يعتبرون أنفسهم ظلّ الله على الأرض . وقد أصرّ كانط أن يقدم تفسيراً عقلياً للدين ، فأكمل كتابه "الدين في حدود العقل وحده" الذي بعث به للنشر، إلا أن الرقابة رفضت نشره ، فقرر أن يبعث به الى أكاديمية الفلسفة التي لم تكن مؤلفاتها تخضع للفحص ، فنشر الكتاب الذي أثار حفيظة القصر الملكي فأرسل للفيلسوف كتاباً شديد اللهجة يعلن فيه استياء الملك من المؤلف الذي :" أساء استخدام فلسفته للتحريف والحطّ من شأن الكثير من التعاليم الرئيسية والأساسية في النصوص المقدسة والديانة المسيحية " ، وصدر أمر ملكي بألّا يقوم كانط بالتدريس أو الكتابة في الموضوعات الدينية إلا بعد أن يكون قادراً على تعديل آرائه لتتوافق مع معتقدات الديانة المسيحية ، والحقيقة إن كتاب كانط عن الدين كان صرخة في وجه الكهانة الدينية ، فالفيلسوف العقلاني لا يؤمن بوجود أي دور للخلاص بآلام المسيح وموته فداء للمؤمنين ، فإيمانه الديني العقلاني لامكان فيه للمعجزات ، ويؤكد بطلان الممارسات الدينية كالتوسل بالصلاة التي يعتبرها كانط خدمة خرافية زائفة للرب ، عندما تطرح بوصفها طقوساً ضرورية للاستقامة الأخلاقية أو لتبرئة الخاطئ أمام الله ، وقد أدى موقفه المتشدّد هذا من الطقوس الدينية إنه رفض من حيث المبدأ المشاركة في طقوس دينية حتى حين طلب منه منصبه الرسمي باعتباره رئيساً لجامعة كونجزبرج أن يشهد احتفالات دينية وكان يتعلل دوماً بأنه مريض .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top